التسامح مفهوم دخيل على الثقافة العربية
سعيد الكحل
لا شك أن التسامح من حيث هو موقف يقتضي تقبل طريقة الأخر في التفكير أو التصرف بشكل مختلف عن الأنا ، ومن حيث هو قيمة أخلاقية يحمل الأنا على احترام حرية الآخر الدينية والسياسية والفكرية وغيرها ، بحيث يصير قناعة فكرية تستلزم ، ليس فقط الإقرار للآخر بحق الاختلاف مع الأنا في الرأي أو الموقف والتعبير عنهما ، بل تتعداه إلى ضمان هذا الحق والعمل على احترامه وإن تطلب ذلك التضحية من أجله ؛ على اعتبار أن التضحية ، في هذه الحالة ، تكون من أجل المبدأ ، مبدأ احترام حق الآخر في الاختلاف والدفاع عنه ؛ إن التسامح ، بهذا المعنى ، لا يجد في ثقافتنا العامية أو العالِمة ما يغذيه ويُشيعه . ذلك أن بيئاتنا الاجتماعية ، على مر العصور ، لم تجعل من هذا المفهوم قيمة أخلاقية وفكرية تتأسس عليه الثقافة العربية وتستبطنه الشخصية بفعل التنشئة الاجتماعية . لهذا انحصر مفهوم التسامح في اللين والجود : سمح سماحة أي صار من أهل الجود . وسامحه في الأمر ساهله ، لاينه ، أصفع عنه . ففي لسان العرب نجد ( سمح : السماح والسماحة الجود .. وسمح كَكَرم معناه : صار من أهل السماحة .. الإسماح : لغة في السماح ، يقال : سمح وأسمح إذا جاد وأعطى عن كرم وسخاء . وقيل : إنما يُقال في السخاء سَمَحَ ، وأما أسْمحَ فإنما يقال في المتابعة والانقياد .. والمسامحة : المُساهلة . وتقول العرب : عليك بالحق فإن فيه لمَسْمَحا ، أي متسعا ) . إذن التسامح لا يأخذ معنى الإقرار بحق الاختلاف ، لأن الإقرار بحق الآخر لا يقتضي أبدا الحديث عن الصفح والجود . ذلك أن الصفح والجود هما قيمتان نبيلتان تستمدان أهميتهما من ثني الأنا عن الانتقام أو معاقبة الآخر متى انتهك حقا ليس من حقوقه . إن الصفح والجود يتعلقان باستعداد الأنا للتنازل عن حق من حقوقه ( حق الانتفاع في حالة الجود ، وحق القصاص في حالة الصفح ) . وفي كلتا الحالتين يظل الأنا هو المركز ومحور العملية . بينما يكون الآخر تابعا وهامشيا ومنفعلا .أما في حالة التسامح فإن الغير لا يخضع للتمييز بين التابع والمتبوع أو الفاضل والمفضول . بل الغير والأنا ندّان في الحقوق والكرامة . وإذا كان الجود والصفح تكريسا لسلطة الذات ووجودها الفاعل والمؤثر في الآخر عبر الجود بتلبية حاجة لديه ، أو عبر الصفح برفع عقوبة عنه ، فإن التسامح إقرار بحالة التساوي بين الأنا وبين الآخر ، بحيث تتخلى الذات عن مركزيتها وتؤمن بالندية والمساواة في التمتع بنفس الحقوق . من هنا فإن التسامح يقتضي ذاتا منفتحة على الآخرين في تنوع أفكارهم واختلاف مواقفهم وتعدد معتقداتهم .وحتى يتأتى لها ذلك ، تكون مطالَبَة بالتمتع بقدر من الوعي في الذات يرقى بها إلى مستوى تمّحي فيه درجات التفاضل بين الأفكار أو المعتقدات ، كما يختفي فيه الشعور بالتسامي العقائدي أو التفوق الحضاري . حينها تتساوى الذات بالآخرين في الشعور بالانتماء إلى هذه الإنسانية بما فيها من تنوع عرقي ولغوي وعقائدي ، وكذا الانتماء إلى هذه الحضارة الإنسانية التي لم يحتكر عرق بشري إنتاجها في استقلال عن شعوب الأرض وحضاراتها . ومن ثم لن تكون الثقافة والحضارة إلا إرثا مشتركا بين كل الشعوب . إن هذا الإرث الثقافي والحضاري هو بمثابة نهر له روافد متعددة بتعدد الشعوب التي تصب فيه إبداعاتها الثقافية وتنهل منه إنتاجات وتجارب بعضها البعض ، مما يرفع منسوبه ويُغني تنوعه . فمتى تحقق للذات مثل هذا الوعي إلا وكانت مواقفها من الغير خالية من التعصب أو العداء أو الإقصاء أو التنافر . بل لن تر الذات في خصوصيتها الثقافية سوى إضافة نوعية لهذا الرصيد الحضاري المشترك . على اعتبار أن الحضارة الإنسانية هي وحدة متكاملة تتفاعل ضمنها كل الخصوصيات الثقافية . فيكون بذلك التنوع الثقافي مصدر غنى . إن مثل هذه القناعة ( = الانتماء إلى الثقافة الإنسانية الواحدة ) يلغي أسباب الانغلاق الثقافي أو التفوق الحضاري ، ومن ثم يؤسس لبناء شخصية عالمية الانتماء ومتعددة الأبعاد ، تخضع في ممارساتها لنفس القيم والمبادئ المشتركة بين كل الشعوب والحضارات . لكن مفهوم التسامح بهذه الدلالة يكاد ينعدم أثره في العالم العربي والإسلامي ، مما يدعونا إلى الإقرار مع الدكتور عبد الحسين شعبان ( بأن الوضع الذي نعيشه في العالم العربي والإسلامي ، يعتبر من أكثر الأوضاع قسوة على الصعيد العالمي إزاء قضايا التسامح واحترام حقوق الإنسان". وهو الأمر الذي أثاره الأستاذ خضير طاهر في مقالته التي نشرها يوم الاثنين 5 سبتمبر الأخير في موقع إيلاف ، تحت عنوان " تعليقات القراء العدوانية" ، وما ضمّنها من مرارة وامتعاض عبر عنهما كالتالي : ( فالقارئ العربي وخصوصا المثقف لم يصل بعد إلى مستوى الحوار الحضاري المنتج للمعرفة الذي يحترم حق الاختلاف، فنحن للأسف حينما نناقش في الأمور السياسية وغيرها نتصرف وكأننا نتناقش في علم الرياضيات والفيزياء حيث الأمور محسومة ولا مجال لتعدد زاويا النظر والتفسير والتأويل. فكل معلومة لا يعرفها القارئ يحكم عليها مباشرة أنها خطأ. وكل تحليل لا يتفق مع قناعات القارئ يحكم عليه بالخطأ.فشعار القارئ العربي إما أن تفكر مثلي، وإما أنت عدوي ويحق لي شتمك واتهامك بشتى الاتهامات ). إذا كان هذا حال المثقفين فلا لوم على العاميين .