التسامح.. والرؤى التكفيرية.. والهوية الدينية
فاخر السلطان
البعض يدعو إلى المحبة والتسامح عن طريق نبذ التعصب الطائفي الذي يؤدي – حسب رأيه – إلى كره الآخر وقد يصل إلى تكفيره من دون "بيّنة" أو برهان.
هذه الدعوة ليست سوى تفسير أصولي تاريخي ضيّق لا يمت لمفهوم التسامح الحديث بصلة، أي أنه تفسير يسعى لطرق موضوع التسامح من بابه الديني التاريخي فحسب ولا يعبأ بإطاره الأوسع، أي الإنساني.
فهي دعوة قائمة على "البيّنة" والبرهان الدينيين، أو كل ما يثبت من خلال الاستنباط أنه مخالف لصريح ما ورد في الدين. وهذا الاستنباط لا يتعايش مع قيم الحياة الراهنة، ولا يرتبط إلا بمدلوله التاريخي، بل لا يعترف إلا بهذا المدلول، كما لا صلة له بالمنجز العلمي الراهن الذي يرفض الوصاية على الفكر والتفكير.
وعليه، نطرح هنا بعض التساؤلات: ما مصير الرؤى والأفكار التي تستند إلى "البيّنة" في التكفير، والتي تقوم بعض الجماعات الدينية بوصم شخصيات وجماعات دينية وغير دينية أُخرى بها؟ هل يجب مواجهة تلك الرؤى والأفكار "التكفيرية" وطردها من المجتمع ومحاربة أفرادها، أم هي جزء من صور التنوع التي يحتضنها التسامح؟ ومن الذي يحدد ما هو "بيّن" ومبرهن بكفره، وما هو غير ذلك؟ وما موقف تلك الرؤى من المفهوم الحديث للتسامح، وهو المفهوم المنتشر في إرجاء العالم حيث لا يستند في تعريفه إلى المعايير الأصولية التاريخية الضيقة، هل يمكن استيعابها أم لا يمكن؟ وما هو موقف الدستور الكويتي من الرؤية الأصولية الضيقة، هل يتماشى معها أم يتماشى مع الرؤية الحديثة؟ وهل نستطيع معالجة مرض عدم التسامح في مجتمعنا من خلال طرح هذا النوع من الرؤية الأصولية الضيقة، التي لا تحسب إلا حساب مصالحها الخاصة لا المصلحة الكلية للمجتمع بجميع تشكيلاته وألوانه وأطيافه؟ أم هو مجرد طرح يهدف إلى الهيمنة والاستحواذ؟
إن التيار الديني بشكل عام يستغل المفهوم الإنساني الحديث للتسامح لتحقيق مآربه الضيقة فقط. فهو مفهوم ابتعد مسافات زمنية كبيرة عن المفهوم المستند إلى الفكر الأصولي التاريخي، واستطاع أكثر من نصف العالم أن يعتمد عليه لتحقيق قفزات نوعية في قضايا التعايش، فيما لا يزال التيار الديني يستغله بطريقة قاصرة ومؤلمة وبعيدة كل البعد عن أي مسعى حداثي وحضاري تعايشي.
ومن شأن الأسئلة الفائتة أن تلقي الضوء على ثغرات لا يزال التيار الديني يعجز عن سدّها. فهو يضع المفهوم الإنساني أمام منعطف لا يستطيع أن يتبناه أو حتى أن يتطرق إليه، باعتبار انه مفهوم بعيد كل البعد عن أدبيات الخطاب الديني وعن فقهه وممارساته وتصوره للقضايا والموضوعات. فهل لنا أن نعرف موقف الأصوليين مدعي المحبة والتسامح من قضايا الحريات السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية في مجتمعنا؟ كيف لنا أن نفسر مواقفعم السياسية القائمة على الطائفية البحتة؟ ومواقفهم الاجتماعية المستندة إلى استخدام التهديد والوعيد الديني لسد الطريق أمام أي تنفيس بريء لفئات المجتمع؟ وموقفهم من حرية العبادات للجماعات غير الإسلامية وبالذات غير التوحيدية؟ بل هل لنا أن نعرف موقفهم من ممارسة بعض المسلمين كالإسماعيليين لطقوسهم الدينية، وموقفهم من ممارسة الصوفيين لشعائرهم الدينية، خاصة وأن الكويتيين يمثلون نسبة كبيرة منهم؟ هل لنا أن نعرف موقفهم من منهجية النقد والتحليل التي يجب أن تطال التاريخ وأفراده؟ وموقفهم من حرية الرأي والتعبير والفكر بشكل عام في الكويت؟ ونظرتهم لقضايا المساواة، والمرأة، وغير المسلم، وغيرها من القضايا التي تعتبر بالنسبة إليهم خطوطا حمراء لا تخضع لمعيار التسامح؟ أم أن قضية المحبة والتسامح تتعلق فقط بوجود كويتيين سنّة أو شيعة ولابد أن يتعايشوا مع بعض؟ هل التسامح يتشكل في الإطار الطائفي، إم إنه مفهوم إنساني واسع وشامل وكبير لا يزال التيار الديني الأصولي التاريخي بشقيه السني والشيعي غير قادر على استيعاب معانيه وأهدافه ومقوماته، ولا يستطيع أن يجاري مخرجات تفسيره؟
وحتى النظرة "التسامحية" السنية تجاه الشيعة، والشيعية تجاه السنة، فإنها لا تخل من إقصاء أو تفضيل ديني. ففي التفضيل، على سبيل المثال، يتم طرح الموضوع على أساس انه "منّة" من طرف ضد الآخر وأمر لابد منه في إطار عملية التعايش في المجتمع. أما في جهة الإقصاء فإن الإتهامات الطائفية الإلغائية تفرض وجودها بقوة في المجتمع حينما تتهيأ فرص ذلك. إذن، النظرة الأصولية لمفهوم التسامح، سواء من قبل السنة تجاه الشيعة أو العكس، هي نظرة دينية فوقية ولا يمكن أن تنطلق من مفهوم المساواة والمواطنة.
إن هذه النظرة الدينية الفوقية تعارض المساعى الحداثية الداعية لرفض قبول تبعية الإنسان الكلية وغير المبصرة للتاريخ، ورفض الخضوع للماضي الاجتماعي الديني بمختلف سلبياته، والساعي إلى أن يصبح أساسا للحياة في الحاضر، ورفض منهج التقليد، تقليد حياة السلف وسلوكهم الشخصي والاجتماعي دون إخضاع ذلك للنقد والتحليل.
كما تعارض هذه النظرة نهج التدين القائم على الإيمان الطبيعي المتحرر من الزوائد التي أدخلت على الأديان عبر التاريخ، وهو إيمان يهدف إلى بناء علاقة روحية فطرية مع الأمر المتعالي، لا الإيمان الساعي قبل أي شيء إلى استغلال الظروف والمصالح في الدنيا لتثبيت الهوية الدينية وإلغاء الآخر الرافض لتلك الهوية، وهو ما نرى انعكاساته في صراع الهوية المرتبط بالمصالح الدنيوية في المجتمعات الإسلامية بين جماعات التشدد السني والتشدد الشيعي، أو كما يسميه البعض بين السلفية السنية والسلفية الشيعية، وهو صراع تافه وسطحي يستند إلى قضايا وأحداث سياسية تاريخية دينية، وباتت نتائجه تؤثر بشكل سلبي على الإيمان الفطري، وتهدد بتفكك المجتمع، وتؤثر سلبا على المصالح الوطنية. فأصبحنا نشاهد أن الدفاع عن تلك القضايا والأحداث التاريخية - وليس عن نهج الإيمان - يحظى بأولوية عند تلك الجماعات، ولو أدى ذلك إلى زعزعة الأمن والسلم الاجتماعيين. فلا همّ لمعظم المنتمين إلى ضفتي السنة والشيعة إلا الدفاع أو الهجوم على القضايا التي تحفظ الهوية الدينية، ولو أدى الأمر بهم إلى استخدام أساليب غير أخلاقية وإقصائية تكفيرية. هل هذا الدفاع أو الهجوم يصب في مصلحة المجتمع والوطن، أم أن المتشددين في الجهتين غير مبالين إلا بتلك الأحداث التي تعكس مسألة الهوية الدينية، فيما مصلحة الوطن وأمن المجتمع يأتيان في مرحلة لاحقة بل ومتأخرة من اهتماماتهم؟
إن التديّن المصلحي - المادي - المستند إلى الهوية الدينية يعبر في أبرز تجلياته عن الطائفية البغيضة، إذ لا هم لأصحاب هذا النوع من التديّن إلا الاستناد إلى التاريخ للدفاع عن وجودهم وهويتهم والسعي لإلغاء الهويات الدينية المذهبية المنافسة، فيما قضية الإيمان تأتي في مرحلة لاحقة، بل قد لا تأتي، إذ يكفي لهؤلاء دفاعهم عن هويتهم الدينية، الذي هو دفاع يجلب لهم "الحسنات" للحصول على ضمانات تعينهم يوم الحساب، حيث يتحول الإيمان من علاقة فطرية قلبية إلى علاقة مادية مصلحية صرفة، كما أن من صور تحقيق هذا النوع من الإيمان التأكيد على الطائفية.
فليس مهماً لدى هؤلاء المتمصلحين من الدين السعي لتهيئة ظروف اجتماعية ونفسية تجعل الإنسان قادرا على بناء علاقة إيمانية ومعنوية مميزة، وتهيئة مواطن يتعايش مع الآخر، بل ما هو مهم في الدرجة الأولى هو التأكيد على الهوية الدينية ولو من خلال طرق باب الأساليب غير الأخلاقية، كالسب والشتم والغيبة والنميمة، واتهامات بالخيانة وعدم الولاء للوطن وعدم الانتماء للدين الصحيح، وهو ما يؤدي إلى تضعضع موقع الدين نفسه، إذ سيطغى على الدين طابع العنف لأن مهامه ستكون منصبة على تأكيد قضايا الهوية والمصلحة، في حين كان على أصحابه أن يهيئوا الأجواء للحريات، الدينية وغير الدينية، لحماية موضوع الإيمان، لكن للأسف فإن ما يحصل على أرض الواقع هو عكس ذلك تماما.
إن بناء علاقة إيمانية متميزة في المجتمع يحتاج إلى نشر فهم للدين تصب مخرجاته في هذا الإطار، فهم يخدم الجانب القيمي والمعنوي والأخلاقي للإنسان، في حين أن ما نراه ونتلمسه من تصرفات وسلوكيات أتباع الهوية الدينية هو عكس ذلك تماما. فالخوض في المسائل الروحية بعيدا عن تداخلها بالمسائل السياسية والاجتماعية والمصلحية، من شأنه أن يحفظ الإيمان الفطري من الشوائب المادية.