فريضة التسامح وجدلية القطيعة والتواصل!
على الرغم من تصاعد أعمال العنف والارهاب على المستوى العالمي، لكن الدعوة إلى التسامح(1) تزداد وترتفع، لاسيما وأن أوساطاً واسعة أخذت تلتمس عمق الحاجة إليه. وتأخذ هذه الدعوة أشكالاً مختلفة من التساوق مع حوار الحضارات وتفاعل الثقافات وتواصل الأديان، لاسيما من خلال القيم الموحّدة والمشتركة وذات الأبعاد الإنسانية، إضافة إلى اهتمام النخب الفكرية والسياسية والثقافية والدينية، بفكرة الحوار وتنظيم فاعليات وأنشطة بعضها إكتسب بُعداً أممياً من خلال الأمم المتحدة واليونسكو ومنظمات دولية أخرى.
وتشكّلت هيئات وطنية وإقليمية وأممية لتأطير هذا الحوار في أجواء من التسامح والتعايش وإعادة النظر بالآخر، خصوصاً في مواجهة التيارات المتعصبة والسياسات
ـــــــــــــ
(1) استخدم مصطلح Tolerence منذ القرن السادس عشر بمعنى أقرب الى المفهوم السياسي والأخلاقي والسلوكي إزاء الآخر، من المذاهب الدينية، في حين أن استخدامه كمفهوم قانوني Toleration بدأ بعد إصدار بعض الحكومات الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر مراسيم تدعو الى التسامح وتطلب من موظفي الدولة والسكان تطبيق حكم القانون The rule of law وأن يكونوا متسامحين في سلوكهم إزاء الأقليات الدينية الأخرى مثل أنصار الراهب مارتن لوثر. ومن القوانين التي صدرت في حينها: مرسوم هنري الرابع في فرنسا 1598 وقانون التسامح The Toleration Act الصادر عن ملك انكلترا 1689، وكان جون لوك قد نشر رسالته الشهيرة" رسالة في التسامح" تعبيراً عن الثقافة البديلة للتعصب والتطرّف الديني التي كانت سائدة والتي دفعت أوروبا بسببها ثمناً باهظاً من الحروب والنزاعات وسياسات الإقصاء.
أنظر:النجار، شيرزاد، أحمد- التسامح واللاتسامح في فلسفة هابرماز، مجلة التسامح ، العدد 32، نيسان(ابريل) 2011.
قارن: Habermas, Juergen- Intolerence and Discrimination in, Con, Vol.1 No 1, 2003,pp2-12. .
قارن كذلك: لوك، جون- رسالة في التسامح، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، طبعة جديدة، دراسات عراقية، بيروت، سنة النشر (بلا).
المتطرفة والمناهج الإقصائية والإستئصالية من جميع الأطراف، لاسيما تلك التي سادت في أعقاب أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية التي حصلت في الولايات المتحدة، بمهاجمة برجي التجارة العالميين في نيويورك وقتل نحو ثلاثة آلاف مواطن أمريكي بريء، أو ردود الفعل الشديدة التي أعقبتها.
وإذا كانت الدعوة إلى التسامح قد كثر رصيدها، خصوصاً بعد التوتّر الذي حصل في العلاقات الدولية في العقدين الماضيين واندلاع حروب وتفجّر نزاعات، الاّ أن غزو أفغانستان العام 2001 واحتلال العراق العام 2003، إضافة إلى أحداث 11 أيلول (سبتمبر) عاظم من الشعور بالخطر، خصوصاً من جانب الفريقين المتناحرين، اللذين ينظر كل منهما الى الآخر باعتباره عدوًّا يتطلب استخدام جميع الأسلحة والأدوات للقضاء عليه أو نزع قدرته على المقاومة، وقد حصل الأمر في ظل استنفار دولي وانقسام ودعاية آيديولوجية وأجواء نفسية حادة. ومثلما قسّم أسامة بن لادن العالم إلى فسطاطين وهو الذي شغل دولاً واستخبارات وأجهزة أمنية وهيئات سياسية ودبلوماسية ما يزيد عن عقدين من الزمان حتى قتل في أيار (مايو) 2011، فعل الرئيس جورج بوش الشيء ذاته عندما قسّم العالم هو الآخر الى معسكرين، أطلق على دول العالم الحر " الغربي": معسكر الخير أما الثاني فهو معسكر الشر، واختار دولاً أطلق عليها "المارقة" أو دول محور الشر الذي ينبغي القضاء عليه، وليس ذلك بعيداً عن سياسة وآيديولوجيا وحتى ديني متطرف ساد في حقبة رئاسة الرئيس بوش، التي لم تتورع في إطلاق مصطلح " الفاشية الإسلامية" خلال حرب تموز (يوليو) التي شنتها إسرائيل ضد لبنان العام 2006 وقبلها أطلق وصف" الحرب الصليبية" في الحديث عن الحملة ضد الإرهاب الدولي.
ولم تسلم من أعمال العنف والإرهاب جميع دول العالم تقريباً، يتساوى في ذلك الدول المتقدمة مع الدول النامية، الغربية- المسيحية، مثلما هي العربية- والإسلامية، أيضاً سواءً إرهاب الدولة أو إرهاب الجماعات المسلحة والخارجة على القانون أو إرهاب الأفراد، الأمر الذي أدّى الى تسميم الحياة الدولية، وخيّم نوع من الشك والوجوم على العلاقات الدولية، فضلاً عن العلاقات الداخلية، خصوصاً بلجوء بعض القوى الى العنف كوسيلة لحل الخلافات السياسية، وهو ما ترافق مع نشاط منظمات إرهابية عديدة، لذلك أصبح الحديث عن التسامح تعويضاً عن سيادة نزعات الإقصاء والإلغاء، سواءً على الصعيد الداخلي أو الدولي، من جانب الحكومات أو من جانب مؤسسات المجتمع المدني، خصوصاً وقد هيمن خطر الجماعات المسلحة وأعمال الإرهاب على نطاق العلاقات الدولية كلّها.
وهكذا غدا الحديث عن التسامح مثل الريح الخفيفة التي تشبه المطر كما أسميتها في أحد المقالات التي كتبتها بعد حين من صدور كتابي " فقه التسامح في الفكر العربي- الاسلامي: الثقافة والدولة" (1) والذي لقي إهتماماً واسعاً من أوساط مختلفة.
إذاً بهذا المعنى نحن نتناول التسامح أولاً لراهنية الفكرة وثانياً لضرورتها وثالثاً لإمكانية إحداث نوع من ترميم الحياة السياسية الداخلية والدولية في إطارها ، خصوصاً إذا تم اعتماد مبادئها. ونقصد بمبادئ التسامح ما جاء من تقنين دولي صدر عن المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين، التي إلتأمت في باريس في 25 تشرين الأول (اكتوبر) الى 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995، وهو الاعلان الذي تضمن على ديباجة وستة مواد(2). وتنص المادة الأولى منه على " أن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع
ــــــــــــــ
(1) أنظر: شعبان، عبد الحسين – فقه التسامح في الفكر العربي- الاسلامي: الثقافة والدولة، دار النهار، بيروت، 2005(تقديم المطران جورج خضر).
أنظر كذلك: التسامح مثل الريح الخفيفة التي تشبه المطر، صحيفة العرب القطرية، 17/5/2011.
(2) أنظر: إعلان مبادئ التسامح، اليونسكو، باريس، 1995.
الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد" (الفقرة الأولى)، وجاء فيها أيضاً إشارة الى معنى التسامح بالقول: أنه الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجباً أخلاقياً فحسب، وإنما واجب سياسي وقانوني أيضاً. والتسامح هو الفضيلة التي تيّسر قيام السلام، ويسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب".
والتسامح يعني أيضاً اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الاخرين في التمتع بحقوق الانسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالمياً، ولهذا نوّه اعلان اليونسكو ودفعاً لأي إلتباس، بأنه: لا يجوز الاحتجاج (التذرّع) بالتسامح لتبرير المساس بالقيم الأساسية لحقوق الإنسان، وهو ما حاولت الشبكة العربية للتسامح التفريق بين قيم التسامح والدعوة الى التخلّي عن الحقوق والحريات الأساسية، لاسيما في فلسطين. التسامح أيضاً هو ممارسة ينبغي أن يأخذ بها الأفراد والجماعات والدول.
والتسامح لا يعني كذلك: قبول الظلم الاجتماعي أو تخلّي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها، بل ينبغي التمسك بها، مثلما على الآخرين التمسّك بمعتقداتهم، ولا يعني الإقرار بحق الاختلاف في طباع البشر ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم (المادة الأولى- الفقرة الرابعة) فحسب، ولكن مع تأكيد الحق في العيش بسلام، وذلك يعني عدم فرض الرأي على الغير ونبذ الدوغماتية والاستبدادية.
ولكن هل يأخذ المتطرفون في الغرب المسيحي أو الشرق الاسلامي أو غيره بمثل هذه النظرة التي جاء بها الاعلان العالمي للتسامح؟ ولعل الجواب بعد الكثير من البحث والتقصي والتدقيق، هو أن الأمر لا يزال يثير الكثير من الإلتباس والغموض والإبهام، وقد شهدت النظرة الغربية الى الإسلام نوعاً متخيلاً، كما شهدت النظرة الإسلامية الى الغرب هي الأخرى نوعاً من التخيّل بغض النظر عن الحقب الاستعمارية التي تركت تأثيراتها السلبية في الذاكرة العربية والاسلامية الجمعية وكلا النظرتين ماضويتين، على الرغم من اختلاف زاوية النظر في الكثير من الأحيان بين الغرب السياسي والغرب الثقافي، وبين الإسلام السياسي والحضارة العربية الاسلامية سواءً على المستوى التاريخي أو المعاصر، بما في ذلك المنجزات العلمية والتقنية وثورة الاتصال والمواصلات وتكنولوجيا المعلومات والطفرة الرقمية " الديجيتل" التي أصبحت جزءًا من الحضارة الكونية السائدة، لاسيما في ظروف العولمة بوجهيها الانساني والمتوحش.
فقبل ذلك كتب فولتير وهو أبو التسامح بعد جون لوك كتاباً في العام 1741 بعنوان "التعصب أو النبيّ محمد" وهو ما يعيده التاريخ في القرن الحادي والعشرين من نشر صور كاريكاتورية مسيئة الى الرسول محمد في الدانمارك أو غيره من البلدان الغربية على نحو استفزازي، وذلك بتوجيهه الاتهام الى الإسلام باعتباره مثالاً للتعصب وعدم التسامح مع الآخر، لاسيما مع الغرب".(1)
ولعل ما يقابل هذه النظرة الإزدرائية، اللامتسامحة، هو نظرة البعض الى الغرب باعتباره شرٌّ مطلق وإنكار دوره الريادي في إنجاز ما حققته البشرية حتى الآن من تقدم، في جميع مجالات العلوم والتكنولوجيا والعمران والجمال والفن والآداب، بل إنه المستودع لكل ما هو منجز بشري، لاسيما خلال السنوات الخمسين الأخيرة، التي قامت كل ما حققته
ـــــــــــــ
(1) عاد فولتير في العام 1763 وصحح موقفه ليكتب رسالته عن التسامح، التي دعا فيها الى الأخلاقية، ولاسيما القائمة على التسامح الديني بين الشعوب والأمم المتعايشة على أرض الغرب.
أنظر : خالص عبد الرحيم- أي معنى لـفكرة التسامح في المتخيّل الجماعي للأفراد في "الغرب" و"الإسلام"؟، مجلة الغدير ، بيروت، 6 آذار (مارس)2011.
البشرية في تاريخها من تقدم (1) .
وبغض النظر عن رؤية الغرب كجغرافيا والإسلام كهوية، فإن مبدأ التسامح لا يمكن فصله عن المتخيّل الجمعي للمجتمعات المعاصرة سواءً في الغرب أو في البلدان الإسلامية، فالمخيال الشعبي لديه القدرة على التحريك، لاسيما باستثارة الكامن في الصدور سواءً كانت ردود فعل إيجابية أو سلبية، لاتخاذ موقف مسبق سلباً أو إيجاباً. فلا زال الغرب ينظر الى الإسلام وبلاد المسلمين باعتبارها صحارى يسكنها بدو، حلّت عليهم نعمة النفط وتكدست لديهم الأموال، ولكنهم لا يعيشون حياة القرن الحادي والعشرين، حيث يتشبثون بالماضي ويحثهم دينهم على الارهاب والعنف، ومن جهة أخرى فإن الغالب الشائع عند استذكار العرب والمسلمين لأوروبا والغرب عموماً، فإنه يتم عبر صورة الحروب "الصليبية" وأسميّها حروب الفرنجة، وكأن كل ما يجري حولنا هو امتداد للتاريخ ولا علاقة له بالحاضر وبالمصالح.(2)
لقد شهدت القرون الوسطى ولاسيما في أوروبا التي كانت تعيش ظلام فكري دامس ظاهرة اللا تسامح، خصوصاً بهيمنة رجال الدين " الإكليروس" ولاسيما في الكنيسة وتحريم وتجريم ما عدى ذلك، من خلال المقدس والمدنس، اللذان سادا في الحكم على الناس واستمرّ الأمر حتى عهد التنوير الذي توّج بالثورة الفرنسية التي وضعت حداً للثنائية التي كانت سائدة والتي تقوم على الكنيسة كطرف مرجعيتها الله، مقابل قيام مجتمع علماني مرجعيته الواقع،
ـــــــــــــ
(1) أنظر: شعبان، عبد الحسين، الإسلام والارهاب الدولي- ثلاثية الثلاثاء الدامي: الدين، القانون، السياسة، دار الحكمة، لندن، 2002
(2) انظر: أركون، محمد :" من فصيل التفرقة الى فصل المقال- أين هو الفكر الاسلامي المعاصر" دار الساقي، ط2، بيروت، 1995، ص 12.
وفي حين تستمد المرجعية الالهية مشروعيتها من الله، فإن المرجعية المدنية تستمد مرجعيتها من الناس ومن خياراتهم في العقد الاجتماعي وفي الحقوق والحريات(1).
وإذا كان المخيال العربي شديد الارتباط حتى الآن بالحروب الصليبية (والأصح حروب الفرنجة) وهي حروب غير دينية، وإنما قامت على المصالح والسعي لاحتلال الشرق العربي واستغلاله، كما هي الحروب الاستعمارية، بما فيها حروب اليوم، فإن المخيال الغربي هو الآخر يقوم على العدائية للعرب والمسلمين، لاسيما بمحاولة تهييج المزاج الشعبي، بما يعاكس الطبيعة البشرية أحياناً، باعتبار الإسلام يحضّ على الارهاب، وهو دين العنف وعدم التسامح.
ولعل القطيعة التي حصلت في الغرب في القرن الثامن عشر ما بين الدين (الكنيسة) والدولة لم تحدث لدينا بعد، فمجتمعاتنا العربية- الاسلامية في الكثير من جوانبها يتداخل فيها الديني بالسياسي، والدين بالدولة الى حدود غير قليلة، الأمر الذي لا يفهمه الغرب باعتباره خصوصية لمجتمعات لاتزال لم تدخل مرحلة الحداثة، وتعيش حالة انتقال من طور الى طور، ومن جهة أخرى يفهم بعض العرب والمسلمين، أن أي حديث عن دولة مدنية، بمعنى فصل الدين عن الدولة، إنما هو محاولة من الغرب لفرض "العلمانية" التي تعني من وجهة نظرهم التصرف ضد الدين أو اتخاذ موقف منه، في حين أن البعض الآخر يعتقد أنه أراد العرب والمسلمون دخول عالم الحداثة ووفقاً لنظرية الدولة المعاصرة القائمة على المساواة التامة والمواطنة الكاملة وحق الناس على اختيار الحكّام واستبدالهم، ووضع الدين في مكانه المقدس الذي يستحقه وليس استخدامه لأمور الدنيا بما يؤدي الى المزيد من التباعد والتنافر والاحتراب أحياناً، فإن العلاقة بين الدين والدولة قد تأخذ شكلاً آخر، أخف ارتباطاً وأكثر
ـــــــــــ
(2) أركون، محمد، من فصيل التفرقة الى فصل المقال، مصدر سابق، ص 111.
استقلالاً.
لقد قبلت أوروبا بعد التمايز ما بين الدين والدولة، مبادئ التسامح حين اعترفت بالحق في الحرية الدينية وحماية القانون للحريات الأساسية للإنسان، التي تعمقت تدريجياً، لاسيما على المستوى الدولي بعيداً عن احتكار الحقيقة أو ادّعاء النطق بإسمها، وإذا كان هذا الأمر حُلَّ مسيحياً وغربياً، فلا يزال عربياً وإسلامياً بعيداً عن الحل، وكذلك يهودياً، لاسيما الدعوة لدولة نقية، كما يطرح اليمين الاسرائيلي حالياً، وهذا يعني أن لا مكان للمسلمين أو المسيحيين أو الدروز العرب فيها.
لقد حاول الإسلام ضمن سياقه التاريخي بحث المسألة بالنسبة لمنتسبي الديانات الأخرى في دار الإسلام بالتمييز الايجابي وإن كان سلبياً، وذلك عبر اصطلاح وتشريع فكرة الذميين وهم رعايا في الدولة الاسلامية (اليهود والمسيحيون) وهو ما يطلق عليه أركون "تسامح اللامبالاة" وأسميه أنا "التسامح السلبي"، خصوصاً وكانت تلك ولا تزال تنظر الى الآخر مع موقع أعلى، وهكذا يكون اليهودي والمسيحي في موقع أدنى.(1)
لقد خطت أوروبا خطوات متقدمة بشأن فصل الكنيسة عن الدولة، أما الدولة العربية المعاصرة، فلا تزال الشريعة الاسلامية تشكّل محوراً وصيرورة وجودها في الغالبية الساحقة من الدول، ولعل فكرة القطيعة التاريخية التي سبق لأركون أن تناولها، لا تزال بعيدة المنال عنها، وقد لا تبدو قريبة في المنظور الحالي، وربما لسنوات غير قليلة، بما فيها الدول التي أحدثت تطوراً في النظر الى الفكرة الدينية في دولة اعتمدت الإسلام مرجعية لها، كما هي تركيا المترنّحة بين الإسلام والعلمانية، فقد ظلّ الطابع الغالب في القوانين والتشريعات يعتمد على الإسلام الذي يعتبر " دين الدولة " في الغالبية الساحقة من الدول الاسلامية، وفي بعضها
ـــــــــــ
(1) المصدر السابق، ص 112.
مصدراً أساسياً أو المصدر الأساسي للتشريع، بل وأكثر من ذلك حين يعتبر الكتاب المقدس "القرآن " هو الدستور. وعلى الرغم من أن الدولة ينبغي أن تكون محايدة أو لا يكون لها دين محدد، فالدين هو هوية الفرد، ومثلما الإسلام هوية المسلمين، فالمسيحية هي هوية المسيحيين وهكذا، الأمر الذي يحتاج الى فك اشتباك دون خلط أو إكراه.
وعندما انتقلت أوروبا الى مرحلة الفصل، ظلّت المنطقة العربية تعيش حالة وصل
غير اعتيادية لدرجة التماهي بين الدين والدولة، وبين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، دون أن يعني عدم انقسام العالم العربي الى قبائل وعشائر ومناطقيات، لكن الدين ظل عاملاً أساسياً في التجمعات القائمة لمرحلة ما قبل الدولة أو في ارهاصاتها الأولى.
لقد حققت أوروبا والغرب عموماً، ولاسيما بعد الثورة الفرنسية، العام 1789 تطوراً كبيراً في قضايا الحريات والمساواة وحقوق الانسان، وهو ما كان قد مهّد له كتابات فولتير ولاسيما حول "التسامح" وكتابات مونتسكيو، وخصوصاً كتاب "روح الشرائع" وكتابات جان جاك روسو وبالتحديد كتابه " نظرية العقد الاجتماعي"، وذلك بتهيئة بيئة ثقافية للثورة، وحتى بعد مرور أكثر من مئتي عام فإن عالمنا العربي والاسلامي، لا يزال يقف في الكثير من مجتمعاته في مرحلة ما قبل الدولة وعند بوابات الحداثة التي تم ولوجها من جانب أوروبا، والانخراط فيها على نحو عميق، الأمر الذي يحتاج الى تأكيد مسألتين أساسيتين: المسألة الأولى أن ما نطلق عليه مصطلح الدولة لا يزال هشًّا وضعيفاً ويعاني في الكثير من الأحيان من نكوص كبير، فضلاً استمرار التأثيرات السلبية للحقب الاستعمارية، ولم تتوفر بعد إرادة سياسية جماعية على مستوى الكيانية القائمة للاعتراف بقيم ومبادئ التسامح ونشرها وتأكيد احترامها والالتزام بها.
ولعل مسألة الدولة تطرح موضوع الشرعية، لاسيما علاقة الحاكم بالمحكوم، تلك التي تحتاج الى مرجعية محددة وواضحة ما فوق دستورية أحياناً، مع إدراج مبادئها الأساسية في الدستور، وهذه المرجعية تجسّد القيم الإنسانية المشتركة. الشرعية Legitmacy التي تشكل موضوعاً رئيساً من مواضيع علم السياسة والنظام السياسي على وجه الخصوص، وذلك لارتباطه بمسألة كيفية وطريقة ممارسة السلطة السياسية في المجتمع، وبالتالي العلاقة بين الحكام والمحكومين .
وقد اختلف مضمون الشرعية وأدواتها وأهدافها، ففي فترة الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي وفي ظل نظام القطبية الثنائية ساد مفهوم "الشرعية الثورية"، حتى وإنْ كان هذا الاستخدام له ما يبرره في مرحلة الإنتقال، لكن هذه "الشرعية الثورية" استمرّت لعقود من الزمان، وعلى نحو متعسّف، بحيث فقدت الشرعية المزعومة أي معنى وتحوّلت إلى إستبداد وإستئثار ومصادرة للحقوق والحريات.
والمسألة الثانية أن الثقافة العامة والفردية لا تزال متدنية، بل غائبة في الكثير من الأحيان عن المجتمعات على المستوى العام والفردي، الأمر الذي تتشبث فيه الكثير من الجماعات بالتعصب والتطرف والنظرة السلبية إزاء الآخر، سواءً الأوروبي، الغربي، غير العربي أو المسلم أو غير المسلم (الآخر المختلف) في الأقطار الاسلامية، المسيحي، اليهودي الصابئي ، الإيزيدي، وغير العربي، الكردي، التركماني، الأمازيغي وهكذا.
ولعل مثل هذه الثقافة لا تزال سائدة قانونياً واجتماعياً ودينياً وتمثل الفضاء الثقافي العام، الذي لا يتعامل على قدر المساواة القانونية والاجتماعية مع مكونات خاصة بالتنوّع الثقافي والتعددية القومية أو الدينية أو بالانتقاص منها بالتمييز وعدم المساواة، وهذا الأمر إذا كان ظاهرة عربية وإسلامية بامتياز، فإن الغرب ليس بريئاً منه، فالنظرة الإستئصالية الإلغائية تسود لديه أيضاً في ظل أجواء التطرف والتعصب، وفي إطار اعتقاد خاطئ، وذلك حين يتم اختزال الثقافة العربية الاسلامية الى دين والى تعاليم منشودة في حين أنها هوية لحضارة ممتدة ومتصلة، بغض النظر عن القومية واللغة والجنس والأصل الاجتماعي والاتجاه السياسي.
ومن جهة أخرى حين تدمغ بعض التيارات الاسلامية والاسلاموية قيم الحداثة والديمقراطية والليبرالية والعلمانية بالكفر وتعتبرها قيماً غربية حصرياً، الأمر الذي يدفع باتجاهين خاطئين أمّا التعصب أو التغريب، الذي تغيب معها فكرة التسامح. ولكن الفرق واسع والمسافة شاسعة بيننا وبين الغرب، ففي الغرب قوانين وأنظمة تستند الى قيم التسامح التي ترتقي بها قوانين وأنظمة حتى وإن وجدت بعض الممارسات من بعض الاتجاهات المتعصبة والمتطرفة، في حين أننا لا نزال حتى الآن بعيدين عن قيم التسامح ومبادئه.(1)
واستناداً الى بعض الاتجاهات المتطرفة في الغرب ذلك صاغ صموئيل هنتنغتون فكرته حول "صدام الحضارات" وذلك انطلاقاً من قراءة مخطوءة للعلاقات بقوله: أن العلاقات بين الإسلام والمسيحية كانت غالباً عاصفة، وذلك وفقاً للنمو السكاني ومحاولة الأحياء الاسلامية والتدخل الغربي وانهيار الشيوعية واختلاف الهويات. وقبله كان فرانسيس فوكوياما قد توجه الى الحديث عن نهاية التاريخ (2).
ـــــــــــــــــ
(1) قارن: خالص، عبد الرحيم، أي معنى لفكرة التسامح في المتخيّل الجماعي للأفراد في " الغرب" و "الإسلام" مصدر سابق.
انظر كذلك: مالكي، إ محمد – مفهوم التآخر التاريخي في المنظومة المعرفية، المجلة العربية للعلوم السياسية، العدد 18، ربيع 2008 (بيروت/لبنان)
قارن: حنفي، حسن- مقدمة في علم الاستغراب، المؤسسة الجامعة للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، 1992.
(2)هنتنغتون، صموئيل " صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي" ترجمة د. مالك عبيد أو شهبوة ود. محمد محمد خلف، الدار الجماهيرية، دار الكتب الوطنية، بنغازي، ليبيا، ط/1، 1999، ص 370 وما بعدها.
Huntington- Samuel- Aclash Of Civilization, Foreign Affaires, Summer 1993
Huntington, Samuel- The Clash Of Civilization And Remarking of world order, London Simon and Schuster,1997.
Fukuyama ,Francis- The End of history, International affairs journal,1989, “The End of History and the Last Man, 1992”.
للأسف الشديد لا يزال المسلمون، لاسيما المؤدلجون أو الإسلامويون أو المتأسملون غير متصالحين مع تاريخهم الايجابي منه أو السلبي، فهو يريدونه كما يروق لهم اليوم، ولا سيما بعض رجال الدين، بما يعني توظيفه لمصالحهم الآنية، التي في الغالب هي مصالح اقصائية وتسلّطية، وخصوصاً عدم الاعتراف بالآخر، فما هو إيجابي من فقه التسامح وقيم الإسلام السمحاء يتم أحياناً غضّ النظر عنها، وهو الجانب المشرّف من التاريخ الاسلامي المنسجم مع روح القرآن والسنّة النبوية، لاسيما القيم ذات البعد الشمولي، متجاوزة علىزمانها ومكانها.(1)
ويتم التشبث أحياناً بعكسها، بما عفا عليه الزمن وكان ضمن سياق تاريخي انتهى عهده، وذلك بحجج واهية لا تخدم التعايش والتعاون والمشترك الانساني بين بني البشر، وهو ما تحاول بعض الاتجاهات في الغرب نعت الإسلام وإتهامه كلّه بالتعصب والغلو، بسبب تفسيرات خاطئة وبعيدة عن التسامح.
إن التصالح مع التاريخ سيقود الى تصالح مع الحاضر، سواءً جغرافياً أو دينياً أو قيمياً، وهو يقتضي المصالحة مع النفس ومع الآخر الذي نعيش وإيّاه في وطن واحد أو على كوكب واحد، سواءً كان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً أو غير ذلك، مؤمناً أو غير مؤمن، المهم أن يكون إنساناً يستطيع أن يعيش معنا في إطار مجتمع واحد أو عالم واحد، بغض النظر عن الدين أو اللون أو الجنس أو العرق أو اللغة أو الأصل الاجتماعي أو الاتجاه السياسي، كما تذهب الى ذلك الشرعة الدولية لحقوق الانسان وعدد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية.
التصالح مع النفس يقتضي الحوار مع الآخر والتواصل معه من خلال التبادل
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر: شعبان، عبد الحسين- التجديد والاجتهاد في النص الديني، بحث مقدّم الى مؤتمر بيروت، معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية والفلسفية، 6-7 حزيران(يونيو)2011.
الانساني، على أساس المشترك، الجامع، الموحد، المختلف، والمؤتلف في الآن ذاته.
بيئة التسامح(1)
هل نحن إزاء بيئة صحية لنشر وتعميم قيم التسامح، أم ثمة عوائق وعقبات تعترض ثقافة التسامح، لاسيما وأن هناك فهماً مختلفاً أحياناً بخصوص ما يعنيه البعض بالتسامح؟ ولعل ذلك يتطلب إيجاد قواسم مشتركة لفهم فكرة التسامح.
التسامح يعني اتخاذ موقف إيجابي، فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية . وحسب إعلان مبادئ التسامح الذي صدر عن اليونسكو فإن “التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد . .” . وهكذا فالتسامح تأسيساً على ذلك: يعني الوئام في سياق الاختلاف وهو ليس واجباً أخلاقياً حسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني، الأمر الذي يعني قبول وتأكيد فكرة التعددية وحكم القانون والديمقراطية ونبذ الدوغماتية والتعصب .
إن التسامح يعني أن المرء حرٌّ في التمسك بمعتقداته، وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم، وكما أن الاختلاف من طبيعة الأشياء، فلا بدّ من الإقرار باختلاف البشر بطبعهم ومظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، وهذا يقود إلى الإقرار بحقهم في العيش بسلام ومن دون عنف أو تمييز لأي سبب كان: دينياً أو قومياً أو لغوياً أو اجتماعياً أو جنسياً أو ثقافياً أو سياسياً . . الخ .(2)
ـــــــــــــــــ
(1) انظر: شعبان ، عبد الحسين، صحيفة الخليج الاماراتية، الاربعاء، 6/1/2010.
(2) أنظر: إعلان مبادئ التسامح، اليونسكو، باريس، 1995، قارن كتاب: ثقافة حقوق الإنسان، (مشترك –عبد الحسين شعبان وآخرون)، البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان، القاهرة، 2001.
وإذا لم يرد ذكر التسامح لفظاً في القرآن الكريم، إلا أن ما يفيد به أو ما يقاربه أو يدّل على معناه قد جاء حين تمت الدعوة إلى: التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف والعفو والصفح والمغفرة وعدم الإكراه، وكلّها من صفات “التسامح”، مؤكدة حق الاختلاف بين البشر و”الاختلاف آيات بيّنات”، ويشير ابن منظور في لسان العرب إلى التسامح والتساهل باعتبارهما مترادفين، ويقول الفيرزوأبادي في القاموس المحيط: المساهلة كالمسامحة، وتسامحوا وتساهلوا، وتساهل أي: تسامح، وساهله أي ياسره، ولعل من استخدم مصطلح التسامح لأول مرّة بمعنى “التساهل” هو فرح انطوان في العام 1902 .
ومنذ إعلان اليونسكو فقد انعقد الكثير من الفاعليات والأنشطة بشأن نشر ثقافة التسامح، وصدرت كتب ومطبوعات وتأسست منظمات وشبكات لهذا الغرض، بينها الشبكة العربية للتسامح(1) التي شكّلت دعوة مهنية وحقوقية لمبادئ التسامح، على الرغم من أننا على الصعيد الفكري أو العملي لا تزال تفصلنا هوّة سحيقة عن قيم التسامح الإنساني التي تكرست في مجتمعات سبقتنا على هذا الصعيد، الأمر الذي يحتاج إلى مراجعات ونقد ذاتي، لاسيما من جانب النخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، لمقاربة فكرة التسامح والتعاطي معها إيجابياً، على الصعيدين الأخلاقي والاجتماعي، لاسيما بعد إقراره قانونياً ودستورياً .
وإذا كنّا نتحدث عن حال التسامح في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، فتجدر الإشارة إلى أن المسيحية كانت قد سبقت الإسلام بقرون للتبشير بقيم التسامح، وفي التاريخ
ــــــــــــ
(1) تأسست الشبكة العربية للتسامح بتاريخ 9 أيلول (سبتمبر)2008 ويتشرف الباحث أن يكون أحد مؤسسيها فضلاً عن ذلك أعدّ وثيقتها النظرية. وقد عقدت 3 مؤتمرات كبيرة وقررت منح جائزة سنوية للتسامح لأحد الشخصيات العربية التي لها حضور بارز فكري أو عملي على هذا الصعيد، وكان أول جائزة تسلّمها في بيروت، الدكتور سليم الحص.
الحديث شكّلت خلفية لحركة التنوير، وقد وظّفها فولتير على نحو سليم بإبراز نزعتها الإنسانية المتميّزة، حيث اقترنت فكرة التسامح باسمه ويعتبر هو “الأب الروحي” لها، وكان يبّشر بضرورة تحمّل الإنسان للإنسان الآخر، فكلّنا بشر ضعفاء ومعرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا بعضاً بالتسامح .
وهنا حريٌ بنا أن نستذكر المهاتما غاندي الذي عبّر عن فكرة التسامح في رسالة من السجن بالقول: لا أحب التسامح، ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عمّا أقصده . وهي الفكرة التي آمن بها نيلسون مانديلا بعد سجنه لمدة 27 عاماً، وهو ما عبّر عنه المطران جورج خضر في تقديمه لكتابنا حول “فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي” بالقول: لست هنا مبرئاً ساحة الغرب وأعرف كل البؤس الذي أحلّه ليس فقط بالإسلام ولكن في الكنيسة الشرقية أيضاً . . ولكن أن تردّ “العدوانية” بهجوم معاكس (أي بعدوانية معاكسة) فذلك يضعف مواقعك، ولعل ذلك كما نعتقد ليس هو الحل الأمثل(1) .
ومن المفارقات أن يتعرض داعية التسامح والمقاومة اللاعنفية الى الاغتيال، فقد تم اغتيال الزعيم الهندي المهاتما غاندي في 30 يناير/ كانون الثاني، ففي العام 1948، حين هاجمه متطرف هندوسي وأرداه قتيلاً، واضعاً حداً لحياة زعيم اقترب من “التقديس” لدى الشعب الهندي بمختلف توجهاته وقومياته وأديانه وطوائفه وطبقاته الاجتماعية، فاتحاً صفحة جديدة من العنف أودت بحياة زعامات هندية مثل أنديرا غاندي ابنة جواهر لال نهرو وراجيف غاندي وآخرين . ولعل ذلك من مفارقات التاريخ، فالعام 1948 هو عام صدور
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر: خضر، جورج- مقدمة كتاب فقه التسامح، مصدر سابق.
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهو العام ذاته الذي تأسست فيه دولة “إسرائيل” .
لعل القاتل لم يفكّر في الإجابة عن سؤال طالما ظل يقلق غاندي ويسعى لاختبار صدقيته، وهو مستغرق في نضاله لتحرير بلاده، فهل هناك جدوى من العنف؟ وهل يمكن الوصول إلى الهدف باللاعنف والتسامح؟ وقد فضّل غاندي الخيار الثاني رغم العذابات والحرمان، لكنه لم يكن يتوقع أن الغدر سيأتيه هذه المرّة على يد هندوسي بعد أن تمكّن من إحراز النصر لشعبه .
كان غاندي يؤمن باللاعنف وبواسطته استطاع أن يهزم أكبر إمبراطورية في عصره (بريطانيا العظمى)، فهذا الرجل الأعزل نصف العاري، بنمط حياته البسيط، وبعلاقته الحميمة بشعبه، استطاع أن يثبت للعالم أن إحدى وسائل المقاومة هي اللاعنف والتسامح والقدرة على إنجاز مشروع التحرير واستعادة السيادة والحقوق، بالمقاومة السلمية . وكان غاندي يُردّد: لو كان هناك بديل أفضل من التسامح لاخترته ولكني والحالة هذه لا أجد أفضل منه .
لقد ترك غاندي تأثيراته الكبيرة في ما سمّي بحركة اللاعنف أو المقاومة السلمية، الأمر الذي دفع دُعاة المساواة والحقوق المدنية للسود في الولايات المتحدة إلى استلهام أساليب النضال التي أبدع فيها غاندي، وكان مارتن لوثر كينغ من أبرز الزعماء السود الذين تأثروا به .
لم يكتفِ غاندي بالحديث عن اللا عنف، بل أظهر كيف أن المقاومة السلمية يمكنها أن تواجه وتتحدى من خلال سلاح المقاومة والإضراب عن الطعام والاحتجاج والاعتصام والتسامح .
ولعل شخصية مثل نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب إفريقي (ورئيس المؤتمر الوطني)، الذي مكث في السجن 27 عاماً وقاد مقاومة سلمية ضد نظام التمييز العنصري “الأبارتايد”، كان قد أمسك بمفتاح التسامح بعد مفتاح المقاومة السلمية، فاتحاً صفحة جديدة في نضال شعب جنوب إفريقيا مقدماً نموذجاً مهماً: للعدالة الانتقالية من خلال كشف الحقيقة وتحديد المسؤولية وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإصلاح النظام القانوني والمؤسسي، والأهم من كل ذلك نشر فكرة التسامح وعدم اللجوء إلى الثأر أو الانتقام أو العنف .
لقد أدرك غاندي أن منهجه القائم على اللاعنف حظي بقبول واسع، وكان يردد أن ذلك خيار شعبي “فإذا انطلق شعبي فيجب أن ألحق بركبه لأنني زعيمه” .(1)
وكان إعلان اليونسكو قد جاء بعد حين ليؤكد أنه “من دون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، ومن دون سلام لا يمكن أن تكون هناك تنمية وديمقراطية” .
وإذا كان التسامح اصطلاحاً يعود إلى تطور الفلسفة الغربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، خصوصاً ما سمي بفلسفة التنوير، وذلك بعد بروز وتطور النزعة الإنسانية المعتمدة على العقل في مواجهة اللاهوت والغيبيات، فإن هذا المصطلح راج في السنوات الأخيرة، حيث خصصت اليونسكو يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام يوماً للتسامح على المستوى العالمي، منذ العام ،1995 كما تمت الإشارة اليه .
في عالمنا العربي، ما زال التسامح غير مقبول لدى أوساط واسعة، وربما نظرت إليه بعض الاتجاهات الإقصائية والإلغائية الإسلاموية باعتباره “نبتاً شيطانياً” أو “فكراً مستورداً”، لاسيما بعد خلطه بالنزعات التغريبية الاستتباعية التي تستهدف فرض الهيمنة وإملاء الإرادة.
ـــــــــــ
(1) قارن: شارب، جين- المقاومة اللاعنفية (مجموعة أبحاث)، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2009 (طبعة خاصة).
وفي الوقت الذي يهرب أصحاب وجهات النظر هذه إلى التاريخ باعتباره ملاذاً، يتناسون أن الإسلام الأول، خصوصاً الراشدي اتّسم بقدر كبير من التسامح والاعتراف بحق الاختلاف، لكنهم يحاولون الزوغان عن ذلك رغم محاولة تمجيد الماضي بهدف الهروب من الحاضر، الذي يزخر بالتأثيم والتحريم والتجريم ضد الآخر، الخارجي، الأجنبي، العدو، الخصم، بادعاء الأفضليات وإنسابها إلى النفس ونفي الإيجابيات عن سواه، لذلك احتاج مفهوم التسامح إلى “تبيئة” وتأصيل تاريخيين بهدف جعله راهنياً وقائماً ومستمراً، بالعودة إلى حلف الفضول ودستور المدينة وصلح الحديبية والعهدة العمرية ووثيقة فتح القسطنطينية، إضافة إلى القرآن والسنّة النبوية، كدليل ومرشد لفقه التسامح، بما فيه تأشير جوانب اللاتسامح في تاريخنا، خصوصاً التي اتسمت بالتطرف والتعصب والغلو والعنف والإقصاء والاستئصال.
هل كان التسامح وراء اغتيال غاندي؟(1)
ارتبطت الدعوة للتسامح في تاريخ الهند المعاصر باسم المهاتما غاندي الزعيم الهندي الذي قضى حياته مدافعاً عن الحرية ومناضلاً من أجل الاستقلال، والذي تمكّن من قيادة حركة جماهيرية مدنية- سلمية واسعة تحت لواء اللاعنف، محققاً الانتصار التاريخي على بريطانيا العظمى في العام 1947.
إعتقدَ غاندي وأقنع النخبة الطليعية من حزب المؤتمر الوطني الهندي بالدعوة الى اللاعنف ومواجهة العدوان وعمليات القتل ومحاولات الاذلال والخنوع التي اتبعتها بريطانيا
ــــــــــــــ
(1) أنظر: صحيفة الخليج الاماراتية، الأربعاء، 20/1/2010
بحق الشعب الهندي، بسياسات الاحتجاج المدني السلمي والاضراب عن الطعام، لاعتقاده بأنها الأكثر واقعية وعقلانية في التصدي لسياسات العنف، وباللاعنف يمكن تحقيق النصر، أي بسياسة نقيضة للعنف وليس مواجهة العنف بالعنف، بل مواجهته بعكسه، وتلك مصدر قوته كما كان يرى.(1)
ورغم ايمان غاندي أن نهج التسامح ليس هو النهج "الأصوب والأمثل"، الاّ أنه كما قال لم يجد أفضل منه، وبذلك فإن خياره هو اللاعنف والتسامح والمقاومة السلمية- المدنية، وهو ما شاع من توجّهات سياسية للتصدي للاحتلال البريطاني وإجباره في نهاية المطاف على التسليم باستقلال الهند.
لكن تلك الأجواء المتسامحة خلقت معها ردود فعل غير متسامحة من جانب بعض المتطرفين والمتعصبين وأعداء التسامح، الذين وجدوا الفرصة مؤاتية لهم، لكي يمرروا نهجهم وسياساتهم، تلك التي راح ضحيتها أول المتسامحين وأكبرهم قدراً وشأناً في تاريخ الهند وهو الزعيم غاندي نفسه، الأمر كشف عن الحاجة الماسّة الى بيئة وتراكم تاريخي وتطور طويل الأمد لنشر وتكريس قيم التسامح، إذ أن المجتمعات الأوروبية والغربية عموماً التي وصلت الى ضفة التسامح، كانت قد شهدت تصفيات وإبادات وحروب ونزاعات طائفية ودينية وقومية لقرون من الزمان، وكان المخاض عسيراً والمعاناة والآلام قاسية، لكنها استطاعت بالعقلانية والمشترك الانساني والمدنية والحريات تجاوز العقبات الاساسية والكوابح الكبيرة التي تقف أمام تطبيق مبادئ التسامح، والانتقال بها من البعد الاخلاقي الى الأبعاد القانونية والاجتماعية والدينية والقومية والسياسية، لاسيما على الصعيد الداخلي وبين
ــــــــــــــــــ
(1) Fisher, Louis- The life of Mahatma Gandhi, Thomson press (India), 2008.
بعضها البعض، الأمر الذي ما زال يشكل نقصاً فادحاً في إطار العلاقات الدولية، خصوصاً إزاء البلدان النامية والفقيرة.
ولعلّي هنا استذكر قيم التسامح في الإسلام التي كانت الأكثر اشراقاً خلال الدعوة المحمدية، لاسيما بتأكيد احترام الحقوق والاقرار بالتنوّع والتعددية وحق الاختلاف، سواءً على الصعيد النظري أو على الصعيد العملي، ولعل مقولة النبي محمد (ص) عندما فتح مكة كانت دلالاتها كبيرة جداً في تهيئة أجواء التسامح عندما خاطب الأسرى قائلاً : "اذهبوا فأنتم الطلقاء" تمهيداً لاصدار عفو عام، كان اعلانه قد جاء على لسان الرسول بقوله: " من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن".
ليس هذا حسب، بل عندما أبقى على حلف الفضول الذي تعاهد فيه فضلاء مكة بأن لا يدعوا مظلوماً من أهلها أو من دخلها (وباللغة المعاصرة فالمقصود هو أي مواطن أو أجنبي) الاّ ونصروه على ظالمه وأعادوا الحق اليه، فضلاً عن دستور المدينة وفيما بعد صلح الحديبة وما انتهجه الخلفاء الراشدون خلال فترة حكمهم التي دامت نحو 40 عاماً.(1)
لكن تلك الأجواء المفعمة بالتسامح هي الأخرى لم تمنع أعداء التسامح من العمل ضد فكرة التسامح مستغلين الأوضاع التي وفّرتها سياسة التسامح للاجهاز على الخلفاء الراشدين أنفسهم، حيث ذهب ثلاثة منهم: وهم عمر وعثمان وعلي ضحية الغدر والخديعة، ناهيكم عن اندلاع فتن وحروب ومعارك داخلية، أضعفت من عرى التسامح ولحمة المنتسبين الى الإسلام المتسامح.
لم تكن إذاً أجواء التسامح التي دعا اليها وقادها زعماء تاريخيون لتحقيق قيم العدالة
ــــــــــــ
(1) انظر: شعبان، عبد الحسين- فقه التسامح في الفكر العربي- الإسلامي، مصدر سابق.
وتأمين الحقوق، كافية لردع اللامتسامحين، الذين كانت تستفزهم مثل تلك الأوضاع، فيستغلون الأجواء المتسامحة لتحقيق مآربهم لمعاكسة قيم التسامح وإعلاء شأن الاستئصال والالغاء والتهميش، والتشبث بالتعصب والتطرف والغلو، بادعاء امتلاك الحقيقة والأفضليات على الغير.
لقد كانت أجواء التسامح التي حققت الانتصار الهندي على بريطانيا والتي ساهم في الدعوة اليها وتعزيزها غاندي، هي السبب وراء إقدام فاتورام غودسي على اقتراف جريمة اغتيال غاندي في 30 كانون الثاني (يناير) العام 1948.
حاولت خلال زيارتي الأخيرة الى الهند التوقف مجدداً عند ظاهرة اللاتسامح التي تثيرها أجواء التسامح كردود فعل، وهو السؤال الكبير الذي يتم مناقشته الآن وعلى نحو شديد خلال العقود الثلاثة الماضية، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001: ما هو السبيل للتعاطي مع غير المتسامحين؟ هل بالتسامح أيضاً، أم لا بدّ من مواجهة اللاتسامح بالحزم إذا اضطر الأمر ولا بدّ من ردع اللامتسامحين، لكن كارل بوبر يعتبر أن عدم التسامح لا ينبغي أن يكون مبرراً للابتعاد عن قيم التسامح بحجة اللامتسامحين!؟، والاّ كنّا سنجد الكثير من الأعذار لنقض قيم التسامح(1).
ـــــــــــ
(1) في أعقاب زيارتي الى الهند كتبت عدداً من المقالات عن انطباعاتي الشخصية، بما فيها عن التسامح وغاندي، 2009. وكنت قد زرت قبر غاندي وكتبت ما يلي: (في بارك راجات "ضفة الملك" حيث يرقد غاندي ألقيت النظرة الأخيرة عليه مأخوذاً بنهر بامونا الاسطوري الذي يمرّ عبر دلهي قادماً من جبال الهملايا، وفي الجهة المقابلة لراجات هناك متحف ضم مقتنيات وكتب وصور غاندي الذي ظلّت روحه ترفرف فوق الهند، حيث كان قد حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة، لاسيما وقد كان الانسان في داخله هو المقياس لكل شيء، حسب الفيلسوف الاغريقي بروتوغوراس.)
تاريخ الهند المطبوع بالتسامح يشهد تعايشاً مثيراً لشعوب وأمم ولغات وأديان حيث يتواصل الهندوس والمسلمون والسيخ والبوذيون والمسيحيون وغيرهم، ونحو 23 لغة رسمية وأكثر من ألف لهجة محلية، لسكان يبلغ عددهم مليار و20 مليون نسمة في إطار نظام فيدرالي تعددي ديمقراطي فيه نحو 25 اقليماً، وفي الوقت نفسه يشهد نقيض التسامح حيث التعصب والتطرف والعنف.
لم يكن غاندي الضحية الوحيدة فقد تبعته لاحقاً أنديرا غاندي وراجيف غاندي، وكانت مبررات القاتل هي بسبب سياسته اللاعنفية ولعل هذا ما أعلنه، كما يمكن إضافة مبررات أخرى مضمرة وليست معلنة منها: موقفه من وحدة الهند التي حاول البريطانيون العبث بها، حيث رفض التقسيم بشدة لأسباب مبدئية ووطنية لم تكن بعيدة عن إيمانه بمبادئ التسامح، كما انه شجع وحثّ المسلمين على عدم الرحيل الى القسم الباكستاني عندما أصبح التقسيم أمراً واقعاً، كما شجع الهندوس وحثهم على التعايش مع المسلمين وعدم اللجوء الى العنف، وكانت تلك السياسة المتسامحة تلقى رفض بعض القادة المتطرفين من كلا الفريقين.
بذرة اللاتسامح هندياً!(1)
بعد ثلاثة عقود ونيف من الزمان على اغتيال غاندي مؤسس الهند الحديثة ورائد الاستقلال الاول، وتحديداً في العام 1984 سيقوم مرتكب آخر يدعى جاسفير باغتيال السيدة انديرا غاندي حيث كان مرافقا لها، وهو من الطائفة السيخية. وأنديرا غاندي هي إبنة زعيم الهند جواهر لال نهرو أحد قادة حركة الحياد الايجابي ومؤتمر باندونغ العام 1955 وحركة عدم الانحياز لاحقاً. ولعل إسم أنديرا غاندي له أكثر من دلالة للتسامح فهي إبنة نهرو
ـــــــــــ
(1) انظر: صحيفة الخليلج الإماراتية ، الأربعاء، 27/1/2010.
ودرست في بريطانيا في الاربعينات في جامعة اكسفورد وهناك أحبّت زميلاً لها من أصول فارسية، وهو مسلم واسمه فيروز غفار، لكن أجواء اللاتسامح لم تكن تسمح باستمرار علاقتهما وبالزواج منه، وقد ناقشت المسألة مع والدها ومع غاندي الذي أخذ يتبنّى هذا الشاب اللامع، خصوصاً وأن والده كان متوفياً، وهكذا أعطى " غاندي" لقبه الى الشاب المسلم بعد اقتناعه به وإيماناً منه بمساواة البشر وبقيم التسامح، خصوصاً وأنه يعتبر نفسه ويعتبره الجميع أباً لكل الهنود، الأمر الذي مكّن فيروز غفار (غاندي) من الزواج من أنديرا وأصبح اسمها أنديرا غاندي لاحقاً.
لعل سبب مقتل أنديرا غاندي كان هو اللاتسامح، حيث كان بعض السيخ وقتها قد طالبوا في اقليم البنجاب بالاستقلال بما يسمى بكالستان باعتباره حقاً لهم، وكانوا قد تقدموا باقتراح الى أنديرا غاندي التي رفضته، الأمر الذي دفعهم للقيام بأعمال عنفية طالت أعداداً من الهندوس، فاضطرت أنديرا غاندي الى التصدي لهم في عملية سميّت بلوستان Bluestan، خصوصاً بعد اعتصامهم في المعبد الذهبي في البنجاب، وحدوث معارك أدت الى سقوط عدد من المدنيين، ورغم ترددها في قصف المعبد أو اقتحامه الاّ أنها في نهايةالمطاف أعطت الأوامر بحسم الأمر والتصدي بحزم الى من اعتبرته سبباً في المشكلة ويتحمل نتائجها.
لعل رفض أنديرا غاندي مطلب التقسيم (استقلال اقليم البنجاب) وتمسكها بوحدة الهند كان وراء اغتيالها، مثلما لقي راجيف غاندي مصرعه أيضاً لأنه وقف ضد حركة التاميل ووافق على ارسال قوات هندية لدعم سريلانكا، يومها قامت سيدة في محاولة لتقديم باقة ورد له، لكنها بدلاً من ذلك فجّرت قنبلة فيه، وكان هذا قد حدث في اقليم كيرالا العام 1991 الذي ظلّت القوى الشيوعية واليسارية مهيمنة على مشهده العام منذ الاستقلال وحتى الآن.
ان مسلسل الاغتيالات للزعامات الهندية يدعو الى التأمل ويبدو أن بذرة اللاتسامح ما تزال قوية في المجتمع الهندي، الذي يشهد في الكثير من الاحيان نزاعات وصدامات واحترابات، لاسيما بين الهندوس والمسلمين وهو الامر الخبيث الذي بذرته بريطانيا قبيل اضطرارها للرحيل من الهند.
لقد حاول غاندي أن يطبع حزب المؤتمر الوطني الهندي بطابعه بالدعوة الى سياسة اللاعنف والتسامح وهذا الحزب العريق كان قد تأسس عام 1885 على يد السياسي الهندي المتحدّر من عائلة ثرية واسمه دادا بهاي نروجي، حيث درس في بريطانيا ثم رأس تحرير صحيفة حرية الهند Azadi Hind وقد انضم اليه غاندي في العام 1920 وأصبح أحد أبرز قادته مؤسساً لفلسفة جديدة أساسها اللاعنف، لاسيما بعد عودته من جنوب أفريقيا وسجنه هناك لعدة مرات حيث عاش هناك نحو 21 عاماً.
وكان غاندي قد تخرّج من جامعة اكسفورد في كلية الحقوق، واعتبرت دعوته تلك نهجاً سياسياً فريداً قال عنه انه يتسم بالعقلانية والواقعية، واستغلّ وجود ضريبة للملح تفرضها بريطانيا على الهنود فدعا الى تحرك جماهيري سلمي مدني واسع للامتناع عن دفع الضريبة، كما شجع الحركة النسائية للتمسك بالوطنية الهندية من خلال ارتداء الملابس الهندية الشعبية، وكان أساس حركته هي اتباع الاساليب النضالية اللاعنفية وعدم الانجرار الى رد فعل لقتل البريطانيين مؤكدا أن " الحقيقة ستنتصر يوماً ما".
وإذا كانت بريطانيا قد استجابت "مضطرة" لاستقلال الهند وتخلّت عن درّة التاج البريطاني لكنها زرعت لغماً كبيراً بين سكانها لاسيما بين الهندوس والمسلمين، الأمر الذي شجع بعض السياسيين للمطالبة باستقلال باكستان ومنهم محمد علي جنت المدعوم من قبل بعض المتطرفين الاسلاميين بسبب العنف الذي تعرض له المسلمون عشية الاستقلال، ولم يكن الأمر يخلو من يد بريطانيا التي كانت سياستها وربما ما تزال تقوم على قاعدة " فرّق تسد" فشجعت على الاحتراب والانفصال(1).
وقد كان ردّ فعل بعض السياسيين الهندوس التسليم بالأمر الواقع مثل سردار بلب بهاتي باتيل والى حد ما جواهر لال نهرو، وهما وإن كانا ضد التقسيم، لكنهما تعاطيا مع "الأمر الواقع" باعتباره واقعاً لا يمكن تغييره انطلاقاً من "فن الممكن"، في حين كانت نظرة غاندي المتسامحة تصرّ على التعايش ورفض التقسيم، وما تزال مشكلة كشمير منذ ستة عقود ونيّف من الزمان مشتعلة.
كتب ماركس وانجلز عن حرب استقلال الهند الاولى في خمسينات القرن الثامن عشر، لاسيما انتفاضة فيلور عام 1806 متنبئان باستيقاظ الشرق، فإضافة الى الهند كانت الصين في صلب تصوراتهما. وكتب ماركس مقالات مكثفة في الفترة بين 1857-1859 في صحيفة نيويورك ديلي تريبونا New York Daily Tribuna تحدث فيها عن نهضة الهند والصين، مستنتجاً إن القضاء على الكولونيالية في الهند يعتبر أحد أهم الاركان التي سيتوقف عليها مصير الاوليغارشية البريطانية، لأنها ستؤدي الى تدمير العلاقات الاقتصادية الاقطاعية وستنعكس ايجاباً على أوروبا. وقد كانت عملية استقلال الهند وفيما بعد الشعوب المستعمرة والتابعة المدماك الاساسي لغياب شمس الامبراطورية البريطانية، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية.
إن تاريخ اللاتسامح في الهند بعيد المدى فبعد وفاة زوجة ملك الملوك شاهجهان "ألجو مان بانو بكم" الملقبة " ممتاز زمان" بنى لها الشاهجهان قصراً سمي بالقصر الأحمر Red
ـــــــــــــ
(1) Fisher, Louis- The life of M. Gandhi, Ibid.
Fort في أكرا وآخر في دلهي وتعهد بعدم الزواج بعدها رمزية للوفاء، وحيث كان يرفل بحكمه قام ولده بسجنه في قصره وقضى فيه سبع سنوات مات بعدها.
سألت مرافقي الشاب ما رأيه بغاندي وسياسة التسامح، أجابني غاندي رجل عظيم ورمز كبير، لكن أفكاره مثالية وغير واقعية وغير ممكنة التطبيق، إذ لا يمكن حل الصراعات بدون العنف، لأن من بيده الثروة والمال والسلطة لا يستغني عنها لصالح المحرومين أو لتحقيق العدالة والمساواة دون وجود قوة ضاغطة عليه، قلت له هل تعني ان القوة هي للردع أو أنها لاستخدام العنف لكونه حسب ماركس المحرّك للتاريخ؟ تململ الشاب ذو الثقافة التعددية الهندية- الشرقية- الغربية فأردفته بالقول: المعرفة قوة بحد ذاتها على حد تعبير الفيلسوف بيكون، فهل توافقني على استخدامها؟(1)
أعتقد إن القضاء على الأمية والجهل وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعاشية وتأمين ظروف عمل مناسبة وضمانات صحية واجتماعية، كفيل بنشر قيم التسامح ومقاربة العدالة وتهيئة الظروف للاقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف وحق التمسك بالمعتقدات بحرية ودون عسف أو خوف، وهو ما تدعو له قيم التسامح، لاسيما إذا تمّ ذلك من خلال التربية والتعليم ولجميع المراحل الدراسية، اضافة الى التشريع والقوانين، ويلعب الاعلام دوراً مهماً على هذا الصعيد، إذ بمقدوره المساهمة بشكل كبير في نشر وتعميم ثقافة التسامح، وهنا يمكن أن تسهم مؤسسات المجتمع المدني بقسطها في التأثير على النخب الفكرية والسياسية والدينية لتأكيد احترام الحقوق الانسانية والاعتراف بحق الاختلاف والتنوع
ــــــــ
(1) حوار مع مرافقي الشاب الهندي، نيودلهي -2009. وكنت قد كررت ذلك لاحقاً خلال حضوري مؤتمر : ICWA-AAS Asian Relations Conference Series - New Delhi- November 20-21,2010 في نيودلهي مع مرافقة هندية وقد قدّمت في ذلك المؤتمر ورقة بعنوان: Changing face in Iraq: Identities and cultural diversity
والتعددية. ولعل مهمة كتلك تحتاج في ظروف الهند الى تراكم طويل الأمد لترسيخ قيم التسامح وفي مواجهة اللامتسامحين الذين تصبح مهمتهم صعبة في المجتمعات المتسامحة!!
وإذا كان نهرو باني الهند هو أول من رفع علم بلاده الوطني في 15 آب (أغسطس) 1947 معلناً نهاية الحكم البريطاني للهند، فإن روح غاندي المؤسس وصاحب فلسفة اللاعنف والتسامح ما تزال ترفرف على الهند، ويشكل مرقده الأخير في راجات مزاراً للهنود وضيوفهم من شتى أنحاء العالم حتى وإن تحفظ البعض على فلسفته اللاعنفية.
خمس رافعات للتسامح (1)
إذا كان التسامح قيمة حضارية وواقعية على المستوى الكوني، فهناك خمس رافعات أساسية لتجسيده، لكي يستطيع العالم الخروج من غلواء التعصب والتطرف والإقصاء والتهميش والعنف والارهاب. ولن يتحقق ذلك بدون توفير تربة خصبة لبذر بذوره، وتعميق الوعي الحقوقي والاخلاقي والقانوني والاجتماعي بأهميته، من خلال الإقرار بالتنوّع والتعددية وقبول حق الاختلاف والمغايرة والتعايش واحترام الآخر، سواءً كان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي أو على مستوى الحكومات والدول. ولعل الرافعات الخمس التي نتحدث عنها هي أكثر ما نفتقده في عالمنا العربي والاسلامي.
الرافعة الاولى هي البيئة التشريعية والقانونية، إذ أن عدم وجود قوانين وأنظمة راعية لمبادئ التسامح، وكذلك رادعة لمن يخالفها، سواءً إزاء الأديان أو القوميات أو الثقافات،
ـــــــــــــ
(1) انظر: صحيفة العرب القطرية ، العدد 8061، الاثنين، 28 حزيران(يونيو)2010.
سيؤدي الى تفقيس بيض اللاتسامح، الأمر الذي يقود الى احتدامات وصراعات وأعمال عنف وإرهاب، بهدف إلغاء وإقصاء وتهميش الآخر.
الرافعة الثانية هي البيئة التعليمية والتربوية، ولا شك أن غياب منظومة التسامح في المناهج والاساليب التربوية والتعليمية، خصوصاً إزاء النظرة القاصرة الى الآخر والمشفوعة بتبرير الممارسات التمييزية الاستعلائية، تخلق ردود فعل حادة وتقود الى تشجيع عوامل الاحتراب والشعور بالاستلاب، لاسيما من جانب التكوينات المستضعفة والمهضومة الحقوق.
الرافعة الثالثة هي البيئة القضائية، لاسيما إذا كان القضاء مهنياً ومستقلاً، خصوصاً في ظل سيادة القانون وتطبيق مبادئ العدالة، حيث سيلعب دوراً إيجابياً في الإقرار بحق الاختلاف والمساواة ونصرة المظلوم وإحقاق الحق.
الرافعة الرابعة هي البيئة الاعلامية وهي سلاح ذو حدين، فبالامكان أن يكون الاعلام عاملاً مساعداً ومهماً في نشر قيم ومبادئ التسامح أو في الترويج بعكسه لنقيضها، أي لنشر ما يغذّي الكراهية والأحقاد وتبرير العنف أو الارهاب.
الرافعة الخامسة هي بيئة المجتمع المدني، التي يمكن أن تلعب دوراً إيجابياً في نشر ثقافة التسامح، باعتبارها راصداً ورقيباً للممارسات الحكومية إزاء خرق وانتهاك مبادئ التسامح وقيمه، ناهيكم عن امكانية تحويل منظمات المجتمع المدني الى قوة اقتراح وليس قوة احتجاج حسب، لاسيما إذا استطاعت تقديم مشاريع قوانين ولوائح وأنظمة لترسيخ وتعزيز قيم ومبادئ التسامح وتنقية مناهج التربية والتعليم والخطاب الاعلامي والديني والسياسي، من مظاهر اللاتسامح السائدة، وبخاصة التي تبرر التمييز وعدم المساواة.
وقد أثارت قضية الانقسامات الدينية والعرقية والمذهبية واللغوية في العالم العربي نقاشات واسعة، كان للباحث فرصة لمتابعتها في مؤتمر الشبكة العربية للتسامح في الدار البيضاء وفي الملتقى الفكري السنوي لدار الخليج في الشارقة، وفي ندوة العروبة والمستقبل في دمشق، وفي ردود الأفعال والنقاشات التي تبعتها، الأمر الذي هو بحاجة الى المزيد من النقاش والحوار بشأنه، وعلى قاعدة التسامح، وحسناً فعلت الشبكة العربية للتسامح حين اتخذت قراراً بتخصيص ندوة مستقلة لبحث موضوع التنوّع الثقافي في مجتمعات متعددة، وهي الندوة التي ستلتئم في المغرب وأيضاً بالتعاون مع منتدى " مواطنة"، لاسيما علاقتها بالهوية العامة وبالهويات الفرعية(1).
عندما أعلنت منظمة اليونسكو في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1995 اليوم العالمي للتسامح (الدورة- 28)، فإنها استندت على نشر وثيقة مبادئ التسامح على 14 إعلاناً وعهداً دولياً واتفاقية دولية، وفي مقدمتها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في العام 1966 والذي دخل حيّز التنفيذ العام 1976، وكذلك اتفاقيات منع التمييز، لاسيما في ميدان التربية والتعليم، إضافة الى أهداف العقد الثالث لمكافحة العنصرية والتمييز العنصري، الذي كان مؤتمر ديربن ضد العنصرية العام 2001 عنواناً بارزاً من عناوينه بإدانة الممارسات الاسرائيلية العدوانية، باعتبارها ممارسات عنصرية، والعقد العالمي لنشر ثقافة حقوق الانسان، والعقد العالمي لنصرة سكان البلاد الأصليين على المستوى العالمي.
ولعل تلك المرجعيات تشكل سقفاً أعلى فيما يتعلق بقيم ومبادئ التسامح على المستوى العالمي، يفترض أن تنظم وتضمن العلاقة على أساسه، بين الفرد والدولة وبين الأفراد فيما بينهم وبينهم وبين الجماعات، وقد أكد إعلان مبادئ التسامح الصادر عن اليونسكو، ضرورة
ـــــــــــــ
(1) ثلاث مداخلات قدّمها الباحث في الدار البيضاء والشارقة ودمشق وهي تحت عناوين التسامح والهوية: الحوار والمشترك الإنساني30/4/2010- 2/5/2010 (الرباط)- وتحديات الانقسامات العرقية والطائفية: الهوية والاختلاف والمشترك الانساني! 8/5/2010- (الشارقة- دولة الإمارات العربية المتحدة) والعروبة والدولة المنشودة! 15-19/5/2010، (دمشق).
إدراج تلك المبادئ في الدساتير والتشريعات، والعمل على التقيّد بها أفراداً وجماعات ودولاً، الأمر الذي يقود الى حماية مبادئ وقيم التسامح على المستوى النظري والعملي.
ويشكّل العنف والارهاب وكراهية الاجانب والنزعات الاستعلائية العنصرية، العدوانية، ومعاداة السامية، والتهميش والاقصاء والتمييز ضد الهويات الفرعية، الوطنية والدينية والاثنية واللغوية والسلالية واللاجئين والعمال المهاجرين، والفئات الضعيفة في المجتمع، والتجاوز على حرية التعبير، بيئة مضادة للتسامح، لأنها ستهدد السلم والديمقراطية وتشكّل عقبة أمام التنمية، وهو ما ذهب اليه إعلان مبادئ التسامح، سواءً كان ذلك على الصعيد الوطني أو العالمي.
ولا شك أن الاحتلال والعدوان واستخدام القوة وفرض الهيمنة على الشعوب، تعتبر من مظاهر عدم التسامح، خصوصاً بانتهاك المنظومة الكاملة لحقوق الانسان وحرياته الاساسية، على المستوى العام أو الفردي.
وبعد كل ذلك فالتسامح، حسبما ورد في الاعلان الصادر عن اليونسكو يعني: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثري لثقافات عالمنا ولإشكال التعبير وللصفات الانسانية، وهو يتعزز بالمعرفة والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد، وإنه يمثّل الوئام في سياق الاختلاف. والتسامح، لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل أصبح واجباً سياسياً وقانونياً، لإرساء وتعزيز قيم السلام ونبذ الحروب، لاسيما في البلدان المتقدمة.
ومن الجهة الأخرى وبعيداً عن بعض التفسيرات والتأويلات الضيقة، فالتسامح لا يعني المساومة أو التساهل إزء انتهاك الحقوق والحريات، كما تذهب الى ذلك بعض الأفكار الدارجة والسطحية، بقدر ما هو اتخاذ موقف إيجابي للإقرار بحقوق الآخرين للتمتع بجميع حقوق الانسان وحرياته الاساسية، ولا يمكن تحت أي مبرر، بما فيها مبررات التسامح، المساس بقيم التسامح سواءً على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الحكومات(1).
وبهذا المعنى فإن قيم التسامح لا تستقيم بدون قيم المساواة والعدالة وعدم التمييز والحق في المشاركة وقبول الآخر، ولعل ذلك ما لفت اليه مفوض جامعة الدول العربية للمجتمع المدني فاروق العمد، عندما أشار الى دعمهم لفعاليات وأنشطة التسامح.
لعلها ستكون مناسبة مهمة عند الحديث عن التنوّع الثقافي والتعددية الفكرية والسياسية والقومية والدينية واللغوية والسلالية، لاسيما لدول متعددة التكوينات، البحث في الرافعات الخمس: التشريعات والتربية والتعليم والقضاء والاعلام والمجتمع المدني، ووضع خطة عمل طموحة على مدى السنوات الخمس لتغطية هذه الحقول، باتجاه خلق وعي عربي جديد قابل لازدهار قيم ومبادئ التسامح، وفي المقدمة لدى النخب، وعلى صعيد الدولة والمجتمع، وذلك لكي يصبح التسامح اختياراً حضارياً يقوم على أساس الاعتدال والعقلانية والحداثة والنسبية والعلمانية والتعددية والتنوّع، في إطار قيمة مرجعية من جهة وهويات مركّبة ومتفاعلة واستدراكات مغايرة لا متماثلة، من خلال المعرفة والمأسسة والمقدرة!!.
إستعادات لمقدمة الطبعة العربية والكردية
عندما طلب مني الإعلامي بدران حبيب المدير العام لدار آراس ترجمة ونشر كتابي "التسامح في الفكر العربي- الإسلامي" إلى اللغتين العربية والكردية، شعرت باعتزاز كبير، لسببين، الأول أنه مضى على طبع الكتاب في دار النهار بيروت نحو ست سنوات، ولقي الكتاب اهتماماً كبيراً، حيث كُتب عنه الكثير وأجريت العديد من المقابلات معي بشأنه وتم
ـــــــــــ
(1) انظر: وثيقة الشبكة العربية للتسامح الصادرة في 1/9/2008 وكذلك بيان إعلان تأسيس أكاديمية بناء السلام (مدريد)، كانون الأول (ديسمبر) 2010.
الاستشهاد به ونظّمت في بيروت ندوة في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الذي يرأسه الأديب حبيب صادق لمناقشته، شارك فيها المطران جورج خضر الذي قدّم الكتاب والناقد السوري محمد جمال باروت، واحتفي بالكتاب أكثر من جهة. كما قام الكاتب الأمريكي Ted Thornton بترجمة الكتاب إلى الإنكليزية، ولا زال يسعى للإتفاق مع دار نشر محترمة لطبعه وتوزيعه.
والسبب الثاني أن الكتاب يطبع في العراق، وفي كردستان بالذات وفي العاصمة الإقليمية إربيل، التي لديّ فيها صداقات متميّزة لنخب فكرية وسياسية ومثقفين بارزين، فضلاً عن علاقاتي الأكاديمية، حيث قمت بإلقاء محاضرات في جامعة صلاح الدين كلية القانون والسياسة في العام 1999-2000 وظلّت علاقتي وطيدة بالجامعة التي عدت اليها لإلقاء محاضرات العام 2010 واستمرت في العام الدراسي 2010- 2011، فضلاً عن أن الكثير من القراء من عرب العراق الذين مع أكراده، يشكّلون الجمهرة الكبيرة لقرائي.
أما السبب الثالث أن الكتاب يبحث في موضوع مهم نحتاج اليه نحن العراقيين أكثر من غيرنا، وأعني به موضوع التسامح، خصوصاً لأن تاريخنا المعاصر شهد أعمال عنف واستباحات لا حدود لها، لاسيما في ظل ثقافة الكراهية والثأر ومحاولة إلغاء الآخر، ولازال مجتمعنا يعاني من آثار الحقبة الدكتاتورية التي استمرت لنحو 35 عاماً في ظل حكم شمولي، وممارسات قمعية وشوفينية إزاء الشعب الكردي الذي عانى من اللاتسامح والعنف وسياسات التهميش والإقصاء والإلغاء وعدم الاعتراف بالحقوق، لاسيما حق تقرير المصير، فضلاً عن قصف بالسلاح الكيمياوي، كما حصل بشأن مدينة حلبجة، في 16-17 آذار(مارس) العام 1988 الذي راح ضحيتها 5 آلاف مواطن، ناهيكم عن حملة الأنفال السيئة الصيت التي أودت بعشرات الآلاف من المواطنين الكرد، مع عمليات تهجير طالت عشرات الآلاف من السكان المدنيين، إضافة إلى تخريب القرى والمدن وتهجير عشرات الآلاف من مناطقهم وتحت حجج وذرائع مختلفة، كما أن الأكراد الفيلية شهدوا حملات تهجير شملت هي الأخرى عشرات الآلاف، بحجة التبعية الإيرانية المزعومة وجرى نزع جنسيتهم والتشكيك بعراقيتهم ووطنيتهم.
وإذا كانت هذه الصورة القاتمة وغير المتسامحة التي عرفها العراق خلال العهود السابقة، فإن الإنقسامات المجتمعية والطائفية ازدادت استشراءً، لاسيما في ظل أعمال الإرهاب والعنف التي ضربت العراق منذ احتلاله العام 2003 وحتى الآن، خصوصاً ما صاحبها من فساد مالي وإداري وتبديد ونهب المال العام.
استعدت ذلك وأنا أكتب، مقدمة الطبعة الثانية (العربية) والطبعة الأولى (الكردية)، كما استحضرت كيف توصلت الى فكرة التسامح التي لم تكن رائجة في مطلع التسعينيات، بل إن الحديث عنها كان مبعث إرتياب أحياناً، خصوصاً في ظل استقطابات سياسية حادة وفهم قاصر ومحدود في أحيان كثيرة، وظلّت فكرة التسامح ملتبسة بشكل عام حتى لدى النخب الفكرية والسياسية والثقافية وأتذكّر مبادرة المنظمة العربية لحقوق الانسان في لندن، التي كنت أتشرف برئاستها، بتنظيم ملتقى فكري بعنوان "التسامح والنخب العربية" حضره نحو 50 باحثاً ومثقفاً وحقوقياً من بلدان عربية مختلفة، ومن تيارات فكرية وسياسية متنوعة. وقد انعقد الملتقى بمناسبة تسمية يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام "يوماً للتسامح العالمي"، بصدور قرار من الدورة الـ 28 للمؤتمر العام لليونسكو (1995).(1)
وقد طرح البروفسور خليل الهندي في الجلسة الأولى سؤالاً في غاية الأهمية: هل يوجد تسامح لننظّم له ملتقانا الفكري الخامس أم أن غيابه يدعونا لتنظيم فعاليات للتذكير
ــــــــــــــ
(1) أنظر مداخلات الملتقى منشورة في كتاب ثقافة حقوق الإنسان، إعداد شعبان، عبد الحسين، إصدار البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان، القاهرة، 2000. جدير بالذكر أن أول ملتقى فكري نظمته المنظمة العربية في بريطانيا كان بعنوان " الحوار العربي- الكردي" شارك فيه ما يزيد عن 50 باحثاً ومثقفاً عربياً وكردياً، وقد انعقد في لندن (تشرين الثاني/نوفمبر/1992) أنظر المصدر السابق.
بجوهر مبادئ التسامح بمناسبة إقرار اليونسكو الإحتفال السنوي باليوم العالمي للتسامح؟ ولعل هذا السؤال المزدوج والمركّب ظلّ يتردد بأشكال مختلفة على ألسنة أكثر الباحثين والمتداخلين نفياً أو إيجاباً، إقراراً بواقع أليم أو أملاً وهدفاً في واقع جديد يتّسم بالتسامح.
لكن خاتمة الملتقى لم تكن تشبه بداياته، فقد استمرت أعمال الملتقى ثمان ساعات متصلة من الحوار والجدل، وصدرت لاحقاً في كتاب بعنوان: ثقافة حقوق الانسان، عن "البرنامج العربي لنشطاء حقوق الانسان" في القاهرة عام 2000، من إعداد وتقديم الباحث، حيث عبّر أغلب المتداخلين عن تأييدهم ودعمهم لنشر ثقافة التسامح على المستوى العربي، بينهم أديب الجادر وراشد الغنوشي ورغيد الصلح ومحمد بحر العلوم وأبونا بولص ملحم وخليل الهندي ومحمد الهاشمي الحامدي وعبد السلام نور الدين وليث كبه وصلاح نيازي وبهجت الراهب ومصطفى عبد العال وآدم بقادي وعلي زيدان وعبد الحسن الأمين وعبد الرحمن النعيمي ومحمد مخلوف وسناء الجبوري وكاتب السطور وآخرين، ودعوا الى: تأكيد قيم التسامح مع بعضنا البعض أولاًً، دون تخوين أو تكفير أو تأثيم أو تحريم أو تجريم أو غير ذلك من عوامل الاقصاء والإلغاء والاستئصال وعدم الاعتراف بالاختلاف والتنوع والتعددية.
وثانياً تأكيد قيم التسامح مع الآخر، فلا ينبغي النظر اليه باعتباره خصماً متربصاً أو عدواً مارقاً لمجرد الإختلاف، وثالثاً لا بدّ من تنزيه مبادئ التسامح من الفكرة الساذجة حول تعارضها مع مبادئ العدالة وتصويرها وكأنها دعوة للاستسلام، أو نسيان ما تم ارتكابه من جرائم لاسيما في فلسطين والعراق ولبنان وغيرها، ورابعاً إن تأكيد قيم التسامح لا تعني غضّ الطرف عن الإرتكابات والإنتهاكات لحقوق الإنسان، بممارسة التعذيب أو الإغتصاب أو القتل الجماعي أو غيرها، ولعل تلك الجرائم لا تسقط حتى بالتقادم.
ومنذ اعلان اليونسكو (1995) فقد انعقد الكثير من الفاعليات والأنشطة بشأن نشر ثقافة التسامح وصدرت كتب ومطبوعات وتأسست منظمات وشبكات لهذا الغرض، بينها إصدار مركز رام الله لحقوق الإنسان مجلة بإسم " تسامح" ثم الإعلان عن تأسيس الشبكة العربية للتسامح التي شكّلت دعوة مهنية وحقوقية لمبادئ التسامح، على الرغم من أننا على الصعيد الفكري أو العملي لا تزال تفصلنا هوّة سحيقة عن قيم التسامح الانساني التي تكرست في مجتمعات سبقتنا على هذا الصعيد، الأمر الذي يحتاج الى مراجعات ونقد ذاتي، لاسيما من جانب النخب الفكرية والسياسية الحاكمة وغير الحاكمة، لمقاربة فكرة التسامح والتعاطي معها ايجابياً، على الصعيد الاخلاقي والاجتماعي، لاسيما بعد اقراره قانونياً ودستورياً.
وقد لفت انتباهي مؤخراً صدور تقرير نصف سنوي عن حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية من مركز رام الله لدراسات حقوق الانسان، ولعله حسب معلوماتي هو التقرير الاول في العالم العربي، حيث رصد الفترة من 1/1/2008 ولغاية 30/6/2008، واشتمل على مقدمة وجزءين، وكان الجزء الأول قد تضمن تعريف المصطلح ومحدداته والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، كما توقّف عند حرية المعتقد والحق في الاختلاف، ولعل هذا المبحث الأخير يعتبر جديداً في تناول من يتصدّون لفكرة التسامح التي تعتبر منظومة سامية لحقوق الانسان.
اما الجزء الثاني من التقرير: فقد تناول حالة التسامح في مناطق السلطة الفلسطينية تطبيقياً، لاسميا بعد الانقسام الحاصل في الصف الفلسطيني بين (حماس وفتح) والذي تمخّض عن سلطتين ولكن مع استمرار بقاء الاحتلال، في حين ان الهدف هو دولة فلسطينية تستند الى مبادئ التسامح. وتناول هذا المبحث محاولات توظيف الدين ومظاهر التعصب ونفي الآخر والصراع على السلطة القضائية ومحاولات التمييز وظيفياً، كما تناول في مبحث خاص التسامح الاجتماعي، فتوقّف عند مسألة المرأة والقتل العائلي والخلافات الشخصية والاعتداء على الممتلكات.
ومن مزايا التقرير أنه خصص مبحثاً خاصاً لحرية الاعتقاد والحق في التعبير، كما ختم هذا الجزء بخاتمة وخلاصات: بالشروع بالعمل الجاد للقضاء على مظاهر العنف واللاتسامح على المستويين الرسمي والشعبي، وتأكيد الحق في الاختلاف واحترام تطبيقه والدفاع عنه، الأمر الذي يستوجب توسيع هوامش الحريات العامة وفي مقدمتها حرية المعتقد، وهي اشارة متميزة عندما توضع في مقدمة الحريات التي يراد تأمينها والحق في الرأي والتعبير والتنظيم النقابي والتجمع السلمي والتعددية السياسية، ويتطلب الأمر تنشئة اجتماعية ونظام تعليمي يستجيب لذلك وتربية وتثقيف على الصعيد الحزبي والسياسي والديني، وتوظيف خطاب ديني ينبذ التحريض ضد المُختَلِف، ويرفض التطرف والتشدد، كما توجهت التوصيات الى الجهات الاعلامية ومؤسسات المجتمع المدني ودعتها لأن تلعب دورها في نشر ثقافة التسامح.
وبقراءة الوضع الراهن فهناك أربعة مواقف أو إتجاهات فكرية من مسألة التسامح:
الإتجاه الأول-الذي نطلق عليه "الرافض" فهو يرفض كل حديث عن التسامح على النطاق الديني أو الفكري أو السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي، الداخلي أو الخارجي (الدولي) بحجة امتلاكه للحقيقة والأفضليات، أما المختلف والآخر فإنه لا يمثّل سوى النقيض، وعلى المستوى العالمي فإنه يمثل الكفر والإستكبار.
الإتجاه الثاني- هو الإصلاحي وهو تعبير عن تيار اصلاحي (توافقي) يتقبّل بعض أفكار التسامح بانتقائية بهدف مواكبة التطور الدولي، لكنه يظل مشدوداً للفكر التقليدي السائد، وإنْ كان يسعى للتواصل مع الآخر بحذر شديد، وربما بريبة أيضاً.
الإتجاه الثالث- الذي نسميه الاتجاه التغريبي، فهو يؤيد فكرة التسامح ويحاول تعميمها على كل شيء، وهو يدعو إلى قطع الصلة بالتراث والتاريخ واعتبار التسامح قيمة حداثية لا علاقة لها بالإسلام، بل يضع في اعتباره كون التسامح نقيضاً للاسلام الذي يحضّ على "العنف" و"الارهاب" حسب فهم خاطئ لبعض الاتجاهات الاسلاموية أو الاسلامية وموقفها من الحداثة، دون تمييز بين الإسلام وبين بعض الاتجاهات السياسية.
الإتجاه الرابع- الذي نعتبره قيمياً وهو تعبير عن التيار المؤيد للتسامح، والذي ينظر إليه كقيمة عليا، لاسيما بربطه بحقوق الانسان، دون التعامل معه على نحو مبتذل فيما يتعلق بالصراع العربي- الاسرائيلي والتنكر لحقوق الشعب العربي الفلسطيني، فالتسامح لا يعني التهاون إزاء حقوق الانسان أو قيم العدالة أو تبريرها تحت أية حجة أو ذريعة.
وإذا كانت فكرة التسامح مؤاتية ولها تفاعلات مع الفكرة الليبرالية والعقلانية والمدنية والعلمانية، الاّ ان جذورها تمتد الى الحضارات والثقافات المختلفة بما فيها الحضارة العربية- الإسلامية، ويزخر التراث الانساني باستلهامات من قيم التسامح، لكنه كمنظومة متكاملة كان من نتاج حقبة التنوير، لاسيما في القرن الثامن عشر، تلك التي تعززت قانونياً خلال القرن العشرين. أليس في ذلك فرضية تحمل في جنباتها جدلية القطعية والتواصل؟