صراع العلمانية الموالية للغرب مع الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس وموقف اليسار

يسود اعتقاد لدى الكثيرين أن وصول أحزاب إسلامية إلى السلطة في مصر وتونس عقب الثورات الشعبية التي اندلعت فيها كان خيارا غربيا قد هيأ له قبل قيام الثورات غير أن تجربة الحكم القصيرة للأحزاب الإسلامية في هذين البلدين (حزب النهضة في تونس وحزب الحرية والعدالة في مصر) قد واجهت من الصعوبات الهائلة بما يلقي الكثير من الشك على هذا الاعتقاد وليست هذه الصعوبات في حقيقة الأمر ناتجة بمجملها من ضعف تجربة الحكم لدى هذين الحزبين أو سعيهما لبسط الهيمنة على مفاصل الدولة كما يدعي خصوم هذه الأحزاب إذ لو كانت هذه الأحزاب الإسلامية تحظى بدعم الغرب لوجدنا الأخير يسارع إلى حل مشاكلها المالية ولضبط حركة القوى العلمانية - وأكثرها مرتبط بالأنظمة المنهارة- والتي راحت تدفع الأمور إلى حافة الهاوية غير مبالية إن أدى ذلك إلى انهيار اقتصادي وإفلاس كامل لبلدانها من خلال تشجيعها وتحريضها المستمر على الإضرابات والتي أصبحت عامل تخريب لاقتصاديات تلك البلدان وتهديدا لأمنها القومي....
إضافة لذلك نجد أنفسنا بحاجة إلى التذكير السريع بأن الأنظمة المنهارة في مصر وتونس كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بمراكز الرأسمال الغربي وموالية بل منفذه للسياسة الغربية في المنطقة وهذا ينطبق بشكل خاص على نظام حسني مبارك في مصر فيما كان يمتاز نظام بن علي بالتردد والخوف من التورط في صراعات إقليمية لا طاقة له بها. وهنا لا يمكن الإنكار بأن التحالف الحاكم في تونس قد كسر هذه القاعدة لأول مرة عندما تورط في الصراع السوري ولم يكن ذلك التورط يعبر عن قناعة كاملة بقدر ما كان تحت تأثير الضغط الغربي والإغراء بالمال القطري في ظرف اقتصادي عسير ..
لقد استطاع الحزبان الإسلاميان في مصر وتونس من الوصول إلى السلطة بطريقة ديمقراطية غير مشكوك بها ونتيجة اختيار جماهيري سببه خلو الساحة السياسية ولفترة طويلة من أحزاب معارضة حقيقية قارعت الأنظمة السابقة وشكلت تحديا لها. لقد مالأت معظم الأحزاب اليسارية وتلك التي تسمي نفسها "ديمقراطية" السلطة السابقة وبعضها اكتفى بمكاسب شخصية لبعض زعامتها فكان الاضطهاد والقمع الحقيقي من نصيب الحركة الإسلامية التي لم تجد من يدافع عنها من هذه الأحزاب إلا ما ندر .. نعم، تعرضت شخصيات سياسية للتضييق وغالبا ما كانت تحظى بحماية خفية من الدول الغربية ولكن القمع المنظم كان من نصيب الحركة الإسلامية...
إن وجود بعض زعامات الحركة الإسلامية في المنفى الأوربي (زعيم حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي في لندن مثلا) ليس كافيا بحد ذاته لاعتبار تلك الحركات ترتبط بالغرب إلى درجة استعدادها لتكون استمرارا للأنظمة المنهارة على مستوى السياسة الاقتصادية والاجتماعية. لقد عاشت معظم القيادات السياسية العراقية الحالية في المنفى ورأينا كيف أن بعضها يقف موقف الرافض للتدخل الغربي في شؤونه بينما تدعو قيادات عراقية أخرى لم تعش في المنفى الغرب على التدخل الصريح في شؤون العراق (مثال ذلك النواب الذين اعترضوا على بينان البرلمان الأوربي الذي يشيد بالتقدم الحاصل في العراق وقبل ذلك ذهب بعضهم إلى حد دعوة القوات ألأمريكية إلى عدم الخروج من العراق).
لم يساعد الغربيون الحركة الإسلامية في البلدين للوصول إلى السلطة وكل ما فعلوه أنهم لم يتدخلوا في العملية السياسية بشكل مفضوح وتركوها لتعبر عن نفسها لسبب واحد ووحيد هو خشيتهم من أن يكون البديل لأنظمة مبارك وبن علي هو أنظمة يسارية تحابي الفقراء تعيد النظر بالخيارات الاقتصادية التي كبلت البلدين....لم يكن الظرف يسمح لقوى الرأسمال الغربي بالتدخل في العملية السياسية بشكل يؤدي إلى عودة ممثلي الأنظمة المنهارة إلى السلطة دون تعريض مصالحهم إلى خطر داهم ذلك أن أي تلاعب بالانتخابات لصالح تلك القوى سيكون مفضوحا في ظل أجواء لا تزال مشحونة بالثورة والكراهية لكل ما هو قديم .. لذلك كان فوز الإسلاميين تعبيرا طبيعيا عن المرحلة تركه الغربيون يمر لأنهم أرادوه أن يكون مرحلة انتقالية بين حكم قصير الأمد للإسلاميين وعودة ممثلي الأنظمة السابقة اتقاء لخطر تقدم اليسار والمتمثل بالناصريين وحلفائهم في مصر وحزب العمال الشيوعي وحلفائه من القوميين و"الديمقراطيين" في تونس...
وابتداء من وصول الحركة الإسلامية إلى السلطة في هذين البلدين بدا الغرب مرحلة جديدة تتمثل في إتباع إستراتيجية إسقاط هذه الحركات في أعين الجماهير من خلال إفشال مسعاها لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتأزم والذي لو نجحت فيه لأدى إلى فوزها بالانتخابات القادمة وبالتالي اندحار ما تبقى من فلول الأنظمة السابقة التي لا تزال مراكز الرأسمال العالمي تراهن على عودتها بوجوه جديدة وأخرى قديمة مثل عمرو موسى في مصر والباجي قائد السبسي في تونس .. وقد نحج الغرب وحلفائه الداخليين في مسعاهما على مستويين: الأول إدخال الاضطراب على السير الطبيعي للاقتصاد من خلال كثرة الإضرابات ذات الطابع المطلبي مثل زيادة الأجور وابتزاز الحكومة بمطالب لا هي قادرة على رفضها لأنها تخص قطاعات شعبية تريد كسب ودها ولا هي قادرة على الاستجابة لها بسبب تحميلها الاقتصاد الوطني أعباء لا يتحملها وهو يمر بظروف صعبة...ففي تونس مثلا اختارت الحكومة الاستجابة لمطالب المضربين في معظم المناسبات غير أن القوى المرتبطة بالغرب بما فيها قيادات نقابية كانت قد اغتنت في زمن النظام السابق لم يكن يهدأ لها بال دون تحميل الحكومة المزيد من الأعباء التي لا طاقة للاقتصاد بها ..
المستوى الثاني الذي نجح فيه الغرب وحلفاءه المحليون هو أنهم استطاعوا أن يجعلوا اليسار يصطف مع قوى النظام القديم بل أكثر من ذلك أن يضعوه في الواجهة لصالح تلك القوى وسار باتجاه لم يعد فيه مكان للرجعة والتي قد تصل إلى حد التصفية الجسدية لمن يتراجع من اليسار...وقد رأينا في مصر كيف أن مرشح القوى الناصرية وحلفاءها حامدين صباحي يصطف مع عمرو موسى من وجوه نظام مبارك والبرادعي من رجال أمريكا وفي تونس رأينا الجبهة الشعبية التي تضمن اليسار الشيوعي والقومي والديمقراطي وغيرهم يتصدرون واجهة الصراع مع حكومة حزب النهضة وشركاءها من الأحزاب العلمانية (حزبين مناهضين بقوة للحزب القديم الحاكم) ومع النهضة كحزب في معركة لم يكن الفائز فيها سوى رموز نظام بن علي التي تهيأ نفسها للعودة على خلفية فشل و بالأحرى "إفشال" حكومة تحالف النهضة والتكتل وحزب المؤتمر ..
وفي كلا البلدين أثبت اليسار صبيانيته في أفضل الأحوال وبيعه لمصالح الفقراء في أسوأها. وإذا كان الأمر يتعلق بالتقييم سواء كان تقييم المرحلة أم تقييم طبيعة القوة السياسية التي وصلت إلى السلطة فإن اليسار اختار الطريق السهل الذي قد يؤمن له ولو جزءا من الكعكة بدلا من أن يبحث عما هو تقدمي وإيجابي في حكم الحركة الإسلامية وبذلك يفتح الطريق أمام مصالحة تاريخية تقربه من الجماهير التي لا تثق به من ناحية ويقرب الحركة الإسلامية من اليسار في مرحلة دقيقة يجمع فيها بينهما مصلحتهما أو بالأحرى مصلحة الجماهير العريضة في أن ترى حكما رشيدا من نوع جديد يسخر ثروات البلد لفائدتها وليس لفائدة الرأسمال الغربي الذي لعب اليسار لصالحه في التجربة المصرية والتونسية ..
لا يحاول اليسار أبدا أن يجد أرضا مشتركة مع الحركة الإسلامية رغم معرفته الحقة أن فشلها سوف لن يجعل منه الرقم واحد في المعادلة السياسية. هذا ما تؤكده استطلاعات الرأي -على علاتها- والتي تؤشر على تقدم قوى النظام القديم بشكل متسارع وتقدم اليسار بشكل بطئ لن يجعل منه رقما صعبا ناهيك أن يكون مرشحا لأن يحكم فقوى اليسار تدرك أنه لا هي ولا القوميين و لا غيرهم ممن على شاكلتهم يجد لدى الغربيين هوى مهما تلون وخضع وانصاع وليس لدى الغرب منذ أن وطأت قدمه هذه البلدان من حليف سوى الرجال الذين لا برنامج لهم سوى ما يمليه عليهم الغرب مقابل تمتعهم بامتيازات السلطة ..
إن ما يثير الاستغراب في سلوك اليسار هو بذله جهودا مضنية لإبعاد "شبهة" معاداته للدين بينما نراه في الواقع العملي يقف موقف العداء ممن تراه الجماهير الممثل الأكثر مصداقية للدين أي الأحزاب الإسلامية ..
ومن حق القارئ ذي النفس اليساري أن يسأل: وما هو الوجه التقدمي الذي أراه في الأحزاب الإسلامية؟
و لتوضيح ما نقصده ب "بالتقدمية" نقول:
كان مفهوم التقدمية في عصر الصراع بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي يختزل بموقف المرء أو المجموعة (حركة أو حزب سياسي) بمدى انحيازه للمعسكر الاشتراكي أو عداءه له والذي يتعلق بالدرجة الأساسية بنمط الإنتاج الاقتصادي المتبع هل هو اشتراكي أم رأسمالي وكذلك بمدى تأثره بالفكر الماركسي.
وباختفاء المعسكر الاشتراكي تغير محتوى هذا المفهوم والذي يتمثل في الظروف الحالية في موقف المرء أو الحركة من مسألة التصرف بالموارد الطبيعية للبلد وتوظيفها في تنمية قوى الإنتاج المحلية بما يعزز من استقلالية البلد الاقتصادية باتجاه المزيد من الاعتماد على القدرات المحلية في تلبية الحاجات وأتباع سياسة اجتماعية تحرص على توظيف و توزيع الثروات بشكل يؤمن التطور المتوازن لكافة مناطق البلاد وجعل السياسة الخارجية للبلد تخدم الأهداف الوطنية المرسومة لعملية التطور أو التقدم. وبالطبع يجري كل ذلك ضمن إطار شروط العلاقات الاقتصادية القائمة في السوق العالمية الرأسمالية والتي تتسم بالتبادل المجحف (من حيث السعر) للمنتجات الصناعية الغربية من جهة والمواد الأولية المشتراة من البلدان الضعيفة التطور من جهة أخرى ..
وبهذا الصدد يمثل التطور الذي تحققه معظم بلدان شرق آسيا على طريق الاستغلال الأمثل للموارد نموذج للتطور الرأسمالي الناجح من حيث أنه يقوم بالدرجة الأولى على تعزيز التراكم المحلي كمصدر أساسي للاستثمار وليس انتظار أن يمن الغرب عليهم ببعض الاستثمارات التي دائما ما تذهب إلى القطاعات التي تخدم عملية الإنتاج في البلد المصدر للرأسمال وتوسع من دائرة استهلاك سلعه المصدرة. وقد بينت تجربة الاستثمار الأجنبي في البلدان الضعيفة التطور والتي تمتلك أسواقا محدودة القدرة (عدد سكان تونس بحدود 11 مليون بينما السوق المصرية رغم كبرها (90 مليون) تمتاز بضعف القدرة الشرائية للمواطن المصري) أن الاستثمارات الكبيرة والتي توظف فيها تكنولوجيا عالية تفيد البلد المتلقي للاستثمار تذهب إلى البلدان السريعة النمو والتي تمتلك بنية علمية متقدمة كالصين وروسيا والهند و لا تتلقى البلدان التي لا تتمتع بمثل هذه المزايا إلا استثمارات صغيرة يذهب معظمها لقطاع الخدمات وليس لتعزيز القدرة الإنتاجية لهذه البلدان.
ونحن لا نريد القول أن الأحزاب الإسلامية في مصر وتونس لديها تصورات متكاملة حول كيفية تحرير اقتصادياتها من التبعية الكاملة للرأسمال الغربي ولكن مجرد انخراطها في جهد صادق للقضاء على مكامن الفساد المالي والإداري والتهرب الضريبي وعملها على تثبيت قيم جديدة قائمة على الالتزام الصادق بقيم العمل وبالمسؤولية إزاء المجموعة الوطنية وتوجيه الاستثمار نحو القطاعات الإنتاجية التي من شانها أن تحد من العجز الغذائي لهذه البلدان وتحد من وارداتها بعد أن كان الجزء الأعظم من الاستثمارات الداخلية والأجنبية يتوجه إلى القطاعات الاستهلاكية ويتركز في المدن الكبرى وغيرها من الإجراءات التي توقف النزيف الداخلي وتعزز من القدرة الإنتاجية للبلد وتعيد التوازن المالي وتعدل الميزان التجاري التي يتسم بعجز مزمن لصالح اقتصاديات الغرب، كل هذه الإجراءات وغيرها سوف لن تلقى رضا الرأسمال الغربي الأمر الذي يجعله يعمل على عرقلة أي مجهود تنموي صادق يضعف من قبضته على هذه البلدان.
في هذه القضية بالذات تحتاج القوى الإسلامية الحاكمة إلى وقوف قوى التقدم معها وعلى رأسها قوى اليسار التي تتكلم ليل نهار باسم الفقراء والعاطلين عن العمل وعن خيارات جديدة للتنمية إن كانت صادقة وتطرح جانبا الخلاف الإيديولوجي وتصغي بانتباه للخطاب الإسلامي الجديد المتفتح الذي يمثل نقيضا للخطاب الرجعي التقليدي. هذا الخطاب الجديد إنما هو نتاج فهم وقناعة لطبيعة المهام الملقاة على عاتق الحركة الإسلامية في عصر يعتمد النجاح فيه على مدى القدرة على اكتساب وتوظيف منجزات العلم والتكنولوجيا في العملية الإنتاجية.
إن أكثر ما يخشاه الغرب من الحركات الإسلامية التي تعمل على إنقاذ بلدانها من النتائج الكارثية للسياسة الاقتصادية التي اتبعتها الأنظمة السابقة هي قدرتها على كسب تأييد جماهير واسعة وراء سياستها فكان لا بد للبلدان الغربية من حشد مضاد لإفشال هذه المسعى والذي نجح في جمع اليسار إلى جانب قوى النظام القديم إلى درجة يمكن معها القول أن اليسار في مصر وتونس يقف موقفا رجعيا انتهازيا سوف ينتهي به إلى الزوال ويترك الساحة لصراع يجعل من القوى الإسلامية التي تواجه تحدي النجاح في الاقتصاد هي التي تمثل قوى التقدم بالمفهوم الذي أوضحته والذي يعني بعنوانه العريض تطوير القوى المنتجة من خلال التوظيف الأمثل للطاقات والتضييق قدر الإمكان على مكامن الإهدار والفساد الذي دائما ما خدم الرأسمال الغربي....
قد تبدو استنتاجاتي متسرعة للبعض ولكن التجربة في هذين البلدين بالتحديد لا تقول غير ذلك.
وليس مواقف الأحزاب الإسلامية الحاكمة في مصر وتونس مما يجري في سوريا على سبيل المثال وعلاقاتها مع بعض دول الخليج هي المعيار الوحيد الذي يمكن أن يقاس من خلاله فيما لو كانت هذه الأحزاب صادقة في سعيها لإخراج بلدانها من الأزمة التي تعيشها على كل المستويات ذلك أن النجاح في هذا المسعى بالذات سيكون العامل الحاسم في تقرير ما لو كانت هذه الأحزاب سوف تتمكن من مواصلة دورها كلاعب سياسي أساسي في مستقبل البلدين وهذا ما تدركه الأحزاب الإسلامية في كلا البلدين. ليست حمية اليسار واصطفافه مع رموز الأنظمة القديمة ناتجة عن خوف حقيقي على مصير بلدانهم بل هو انعكاس لحمية الرأسمال الغربي وخوفه الحقيقي على مصالحه في تلك البلدان. ولو كانت معاداة اليسار للأحزاب الإسلامية تأتي من منطلق طرح نفسه ممثلا للطريق الثالث لرأيناه يحشد نفس القدر من القوة ضد الرموز التي تمثل القديم ولوجد في الحركة الإسلامية حليفا موضوعيا في هذه القضية بالتحديد والتي هي قضية اليوم لأن فشل الأحزاب الإسلامية يعني بالضرورة عودة قوى النظام القديم بوجوه جديدة وبثوب جديد لا يخفى على المواطن العادي فكيف خفي على اليسار؟
ورغم ما تظهره بعض دول الخليج من دعمها للحركات الإسلامية فإنها في حقيقة الأمر لا تدعم إلا ما هو رجعي وظلامي في هذه الحركة وخاصة ما يسمى بالحركات الجهادية والتي وجد حزب النهضة في تونس نفسه في حالة تصادم معها....يقول زعيم حزب النهضة التونسي راشد الغنوشي أن حركته "تمثل امتدادا لحركة الإصلاح التي بدأت في القرن التاسع عشر والتي عمل الاستعمار ودولة ما بعد الاستقلال على تقويضها في محاولة منهما لتسويق التقدم والحداثة والحرية كما لو كانت نقيضا للإسلام". وقد أكد حزب النهضة في أكثر من مناسبة أنه يسترشد بالنموذج التركي للتطور الاقتصادي وكان بإمكان الحزب أن يتحدث عن الاسترشاد بالنموذج الماليزي على سبيل المثال ولكنه اختار النموذج التركي انطلاقا من كون تركيا يحكمها حزب إسلامي ولسنا هنا بصدد تقييم مصداقية حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا فيما يتعلق بمدى حرصه على الإسلام بقدر ما نحن نقر بالتطور الذي شهده الاقتصاد التركي أبان فترة حكمه.
وبالنسبة لنموذج التنمية الإيراني فرغم كونه نموذجا غير مكتمل ولكن يمكن اعتباره ناجحا في ضوء المنجزات العلمية التي حققها النظام إلا أن الحظر المتعدد الأوجه الذي تتعرض له إيران وعزل الغرب لها وإشاعة العداء لها في العالم العربي والإسلامي على خلفية مذهبية يجعل من إمكانية الاطلاع ومن التأثر بتجربتها محدودا للغاية. يقول سفير إيران في تونس في مقابلة مع صحيفة الفجر الناطقة باسم حزب النهضة التونسي:
"تحتل إيران عالميا المرتبة الأولى في سرعة إنتاج العلوم والثانية في زراعة الخلايا الجذعية والتاسعة في إنتاج علوم النانو وكذلك في إنتاج الأدوية البيوتكنولوجية والثالثة في قدرة التخطيط وإنشاء أنواع السدود وهي بين الدول الثمانية التي تمتلك العلم والتكنولوجيا في المجال النووي على المستوى الوطني والأولى في الشرق الأوسط التي دشنت مفاعلا نوويا".. ويضيف قائلا: "لا ننسى أن هذه المراتب والإنجازات قد حصلت في ظروف غير ملائمة إطلاقا وتحت أشد الضغوط ولكن شعبنا حول هذه التهديدات إلى فرص واعتمد على كفاءاته الذاتية العلمية والعملية .."
والسؤال المهم هنا: إذا كان النظام الإسلامي في إيران قادرا على اجتراح هذه المنجزات رغم الضغوط الغربية الهائلة فلماذا لا تستطيع الحركة الإسلامية التي تتولى السلطة في العالم العربي أن تسلك نفس السبيل؟ هذا السؤال ينتظر جوابا من اليسار وليس من الحركة الإسلامية فهي تعرف ما يجري في إيران وكل محاولة منها للتقرب مع إيران والتعاون معها تجد صدا غربيا وهذا ما يحدث لمصر ولتونس....هذا النوع من التقارب بين الحركة الإسلامية العربية وإيران هو ما تعمل قطر والسعودية وتركيا على منعه من خلال الإغراءات المالية والاقتصادية (الحديث عن استثمارات) ..
وعلى الجانب السياسي، مهما حاولت أنظمة قطر والسعودية أن تظهر بمظهر الداعم للحركة الإسلامية غير أن الدور الحقيقي لها هو إفشال أي مسعى لهذه الحركات نحو تطوير نسخة حكم إسلامي يؤمن بالعلم وبالتطور الاقتصادي المستقل وبالاختيار الجماهيري الحر لمن يحكمه لأن هذا المسعى يمثل خطرا مميتا على هذه الأنظمة التي تعتبر كل خروج عن نمط التوريث باسم الإسلام من باب الكفر حفاظا على نموذجه الظلامي فمناهج التعليم في السعودية تختفي فيها المواد العلمية كالفيزياء والكيمياء ناهيك عن الفلسفة أو علم الاجتماع ..
لذلك نقول أن صراعا لم يتبلور بشكل مواجهة صريحة بعد يدور بين تيار إسلامي يريد أن يستوعب منجزات الحداثة ببعدها العلمي وليس المظهري الذي اتبعته الأنظمة المنهارة وآخر ظلامي تدعمه قطر والسعودية والغرب (الإرهاب التكفيري احد تعبيراته) يتطلب فهما وبالتالي موقفا إيجابيا من لدن القوى التي تدعي لنفسها أنها تمثل اليسار والديمقراطية.
يقول الأمريكي جون بيركنز مؤلف كتاب "القاتل الاقتصادي" عند سؤاله فيما لو كان متفائلا (بأن سلوك الولايات المتحدة سوف يتغير يوما): "لست متفائلا ولكني آمل" !
وأكرر قوله أني لست متفائلا من اليسار ولكني لم أفقد الأمل !
بيسار جديد بالطبع !
المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/qadaya/73330.html