ثقافتنا ومدارات اللغة

المقدمة: يتكئ بعض المثقفون العرب إلى التداول بلغة المحاكاة والمخاطبات بلغة بعيدة عن ثقافتهم وارثهم الحضاري وهذا يدل على أمرين مهمين أولهما عدم اطلاع اغلب المثقفين عن مدارات اللغة وإبعادها في خلق سلوكيات الإنسان والأمر الثاني هو أظهار قدراته في هذا المجال ليشار إلية وحسب،ولهذا ارتأيت أن اكتب مقالتي هذه إلى كل المثقفين العرب للتعريف بمدارات اللغة وكيفيتها وتاريخها وليفهم من يريد أن يفهم أن كل اللغات لها دلالات واضحة فلا داعي إلى إن تختار لغة بعيدة عن حضارتنا

 

تطوير اللغة

كيف نشأت وتطورت لدينا اللغة المحكية من الإشارات والإيماءات إلى لغة محكية ثم مكتوبة؟

في البدء بالتنبيه والإشارة وإعطاء الأوامر .ثم الدلالة للأسماء والأفعال . ثم التصنيف الذي اعتمد التعميم نتيجة التشابه في بعض الخصائص .إن أهم ما يميز دماغنا عن باقي أدمغة الكائنات الحية الأخرى جميعها هو المناطق المسؤولية عن اللغة الموجودة بين مراكز الأحاسيس في اللحاء، فلبعض الكائنات الحية مثل الفيلة والحيتان لحاء ومتطور ولكن لم تتشكل وتنمو مناطق اللغة التي تربط مراكز الأحاسيس مع بعضها كما هي موجودة لدينا . فنحن نستطيع تمثل الكثير من أحاسيسنا وأفكارنا بكلمات تدل عليها وننقلها بواسطة الكلمات المحكية للآخرين .

وكان لنشوء الثقافة والحضارة نتيجة التوارث الاجتماعي للأفكار والمعلومات، والتصرفات والتقنية بكافة أشكالها .الدور الأساسي والأهم الذي جعل تفكيرنا مختلف ومميز عن باقي الكائنات الحية . فنحن البشر دماغنا لديه خصائص موروثة بيولوجياً، بالإضافة إلى أنه يكتسب موروث اجتماعي فكري ثقافي تقني، وهذا ما ميزنا عن كافة الكائنات الحية .

ويمكن أن يظهر مقدار وأهمية الموروث الفكري والاجتماعي إذا جعلنا مولود بشري يعيش بطريقة تعزله عن كافة التأثيرات الاجتماعية، وتوفير مستلزمات الحياة والبقاء له (لأنه يستحيل عيشه دون مساعدة كأن ترعاه حيوانات أخرى ويعيش في مجتمعها) وجعله يعتمد على الموروث البيولوجي فقط، ودون الموروث الاجتماعي البشري، في تعامله مع ظروف الحياة . عندها نلاحظ الخصائص الفكرية وتقنية التي سوف يخسرها . إنه قبل كل شيء سوف يخسر اللغة وبذلك يخسر كل ما تمنحه اللغة من ميزات فكرية عن باقي الكائنات الحية، وهذا سوف يجعله شبيه بباقي الكائنات الحية المتطورة ولن يتفوق عليها إلى قليلاُ هذا إذا تفوق! .

فنشوء الكائنات الفكرية لدينا . هي بمثابة كائنات وهي بنيات غير مادية، وهي تكون عالم الفكر. ومثلما نشأت الكائنات الحية من العناصر والمركبات الكيميائية بعد أن تفاعلت حسب القوى والآليات الموجودة، كذلك نشأت الكائنات الفكرية في الأجهزة العصبية لدى الكائنات الحية . وكان نشوؤها متسلسل ومتطور .إلى أن وصلت إلى ما هي عليه لدينا في الوقت الحاضر .فالأفكار أو الكائنات الفكرية تتكون في أول الأمر - أوفي شكلها الخام - في الجهاز العصبي من (السيالات) العصبية الكهربائية الواردة من المستقبلات الحسية . فالمتقبلات الحسية بكافة أشكالها تحول - أو ترمز - بعض أنواع التأثيرات الفيزيائية - ضوئية، صوتية، حرارية، ميكانيكية، كيميائية، إلى نبضات عصبية كهربائية على شكل (سيالات) كهربائية عصبية، ترسل إلى الدماغ الذي يقوم بتقييمها وتصنيفها بناءً على نتائج تأثيراتها على الجسم، إن كانت مفيدة أو ضارة أو محايدة، ثم يقوم بالاستجابة بناءً على ذلك . لقد كانت وسيلة إعلامية بتفعيلها في العقل البشري، وكذلك وسيلة تنفيذية تقوم بالاستجابات أن كانت استجابات كيميائية، أو حركية، وتطورت ليصبح جزء منها حسي واعي .ولدى الإنسان الذي يعيش في مجتمع تطورت هذه البنيات الفكرية العصبية، فترابطت سلاسل لتشكل بنية فكرية متطورة . وقد حدثت قفزة كبيرة عندما مثلت بعض البنيات الفكرية بإشارات - أصوات وتعبيرات وحركات ومن ثم كلمات تدل عليها، وهذا أدى لنشوء البنيات الفكرية اللغوية . فهذه الدلالات - أو البنيات اللغوية الفيزيائية - عادت ودخلت إلى الدماغ كمداخلات حسية، وتحولت من جديد لبنيات فكرية خام وأصبحت بنيات فكرية دلالية أو لغوية، فهي ترمز أفكار تم إرسالها من إنسان لأخر . وبذلك نشأت وسيلة تستطيع بهذه البنيات الفكرية الخروج من الدماغ أو العقل الذي نشأت فيه الانتقال إلى دماغ أو عقل آخر، وهذا يتم بعد أن تتحول البنيات الفكرية اللغوية إلى بنيات فيزيائية لغوية دلالية - مؤثرات فيزيائية إشارات وأصوات وحركات وإيماءات - فإذا تلقتها حواس إنسان آخر يمكن أن تصل إلى دماغه وتتحول إلى أبنية فكرية لغوية ثم إلى أبنية فكرية، هذا إذا تم فك رموزها . وبهذا استطاعت الأبنية الفكرية أن تنتقل من دماغ إنسان إلى أخر، وتصبح مهيأة لكي توضع فيه . أي يمكن أن تتحول البنيات الفيزيائية الدلالية أو اللغوية، إلى أبنية فكرية عصبية .كيف أصبحنا نتمثل أو نتصور الوجود مقارنة بباقي الكائنات الحية إن نتيجة الحياة الاجتماعية والنشوء الثقافة والحضارة صار تعرفنا على الوجود ليس فقط عن طريق الحواس . فالثقافة أصبح دورها يضاهي دور الحواس في تعرفنا على الوجود . فالترميز اللغوي للأفكار والتواصل بين العقول ونشوء المعارف أو الثقافة وتناميها هو من يحدد الآن نموذج الوجود لدى كل منا . فعندما شكّل عقل الإنسان ونشأت الأفكار أو البنيات الفكرية، التي استطاعت أن تمثل البنيات الواقعية وتمثل تفاعلاتها مع بعضها، تكون زمن فكري يمثّل الحوادث وصيرورة الوقائع . فهو (عقل الإنسان) يستطيع أن يعرف أي يتنبأ بالأحداث، أو نتائج تفاعلات بين بنيات، حدثت في الماضي أو سوف تحدث في المستقبل . وكذلك يستطيع أن يتنبأ بحوادث أو تفاعلات لم يتأثر إلا بجزء قليل منها، فهو يكمل ما ينقصه ويضع سيناريو للكثير من تلك الحوادث. واستطاع دماغنا تشكيل نموذج مختصر وبسيط للوجود وصيرورته، بواسطة البنيات الفكرية التي شكلها، تمكّنه من تحريك أو مفاعله النموذج الذي شكله للوجود، إلى الأمام إلى المستقبل وهذا هو التركيب، أو إلى الخلف إلى الماضي وهو التحليل . وذلك بسرعة أكبر من سرعة تغيرات الواقع الفعلية . فالدماغ بواسطة معالجة ما يرده من المستقبلات الحسية (أي التفكير) يستطيع السير بتفاعلاته الفكرية بسرعة أكبر من السرعة التي تجري فيها في الواقع . أي إلى المستقبل . وكذلك يستطيع السير إلى الماضي عن طريق عكسه التفاعلات أو التحليل، ووضعه لسيناريو لما يمكن أن يكون حدث أو ما سوف يحدث، وتزداد دقة تنبؤاته باستمرار لتقترب من الواقع الفعلي .

المعالجة التسلسلية والمعالجة التفريعة أو المتوازية للأفكار .

نحن فقد من بين كافة الكائنات الحية نعتمد التفكير الإرادي ومعالجة الأفكار بطريقة تسلسلية نتيجة التفكير بوجود اللغة، وذلك بالإضافة للطريقة التفريعة التي تفكر بها غالبية الكائنات الحية . والذي يقوم بعملية المعالجة المتوازية للمداخلات الحسية هو الدماغ القديم ألزواحفي والدماغ الجوفي، وكان يقوما بذلك قبل نشوء الدماغ الحديث بما فيه اللحاء . لقد كان الدماغ ألزواحفي يقوم بمعالجة مجموعة مداخلات في نفس الوقت أي بالتوازي، وليس واحد بعد الآخر، فقد كان لهذا الدماغ القدرة على معالجة كافة المداخلات في نفس الوقت .فالدماغ في أول نشأته كانت مهمته معالجة كافة المداخلات الحسية في نفس الوقت أي بالتوازي، والمثير الأقوى والأهم هو الذي يقرر الاستجابة، وذلك بعد مقارنة كافة المثيرات الداخلة للمعالجة مع بعضها في نفس الوقت . ثم بعد ذلك صارت بعض المداخلات تأخذ أهمية ليس لقوتها أو تأثيرها الحاضر ولكن لتأثيرها المستقبلي الهام، وهذا حدث نتيجة تشكل آليات المشروطة أو ترابط المثيرات مع بعضها نتيجة التجاور المكاني أو الزماني أو معانيها .أن أهمّ خاصية للمعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا، والتي تميزنا عن باقي الكائنات الحية، والتي تشكلت نتيجة استعمالنا للغة محكية وتعتمد السببية والمنطق، هي ألتركيزه على سلسلة مسار حوادث واحد للتفكير فيه ومعالجته من ضمن المداخلات الكثير، ومن المفيد تجنب تشتيت الانتباه عند ملاحظة المثيرات الجديدة، والتركيز على تحديد الهام منها لمعالجته هو فقط والتغاضي عن البقية، والاستمرار في ذلك المسار حتى نصل إلى نتيجة أو يحدث مثير جديد وهام يستدعي قطع المعالجة الجارية والالتفات لمعالجة هذا الجديد . فالتفكير ألسببي والمنطقي يعتمدوا المعالجة بالتسلسل، لذلك هم مقيدين ومحدودين بسلسلة واحدة من الأفكار .إن غالبية تصرفاتنا تجري بناء على أوامر وتوجيهات الدماغ القديم . وتصرفاتنا الإرادية الواعية والمعتمدة على التفكير اللغوي ولسببي والمنطقي تكون بمشاركة الدماغ الحديث بما فيه اللحاء . وفي الأساس معالجة الدماغ للواردات الحسية البصرية تجري بالتوازي أو بالتفرع وفي نقس الوقت في عدة مناطق من الدماغ، وكذلك معالجة الواردات الحسية الصوتية تعالج بالتفرع، وكافة الواردات الحسية تعالج كلها في نفس الوقت .

إن المعالجات الفكرية الإرادية الواعية لدينا التي تكون معالجة بالتسلسلية، وفي نفس الوقت تجري معالجة بالتوازي في الدماغ ألزواحفي والدماغ الجوفي وتكون غير واعية، ويتم إرسال نتائج هذه المعالجة إلى سبورة الوعي، فالدماغ الجوفي ينظم دخول المثيرات والأفكار بعد أن يعالجها بالتوازي إلى سبورة الوعي، فتشارك في تحديد الاستجابة .والشيء المهم أن المقارنة اللازمة لإجراء القياس والحكم يلزمها معالجة بالتوازي، فلكي تتم مقارنة مجموعة مداخلات أو مؤثرات أو أفكار مع بعضها البعض يجب إدخالها معاً لمعالجتها دفعة واحدة، لذلك نجد دماغنا يستخدم المعالجة التسلسلية والمعالجة المتوازية في نفس الوقت .إن الواقع هو ناتج تفاعل كمية شبه لا متناهية من العناصر وتفاعل بآليات متعددة الأسباب . وهنا يكمن (ضعف أو قوة) التفكير الإرادي الواعي الذي يعتمد تسلسل الأفكار مقارنة بالتفكير الحدسي الذي يعتمد التفكير المتوازي للأفكار في نفس الوقت، لأنه يعتمد سلسلة واحدة من الأفكار . ومن أهم ميزات التفكير التسلسلي دقته العالية ووضوحه (لأنه واع) أكثر من التفكير المتوازي الحدسي .ونحن نجد المخيخ مثال على التفكير إلا متوازي، فهو أقدر أبنية دماغية على المعالجة المتوازية، فهو يستطيع معالجة الكثير من أعقد الأوضاع الحركية دفعة واحدة أي في نفس الوقت مثل المشي مع المحافظة على التوازن أو ركوب دراجة . .، وتتم هذه المعالجة غالباً دون تدخل الوعي، وعندما يتدخل الوعي تنخفض قدرات المخيخ ويصبح المخيخ يعالج مسار واحد من حركات الجسم وعندها يصعب تنفيذ الحركات المتزامنة في نفس الوقت ويختل نظام أداء العمل .المعالجة الفكرية التسلسلية تعتمد التسلسل زمني . قصص وروايات وسير، والتسلسل سببي لنفس الأسباب والنتائج والترابطات السببية أو المنطقية. الفرض – الطلب - البرهان كمثال . وعمل دماغنا يعتمد على المشاركة بين التفكير التسلسلي والتفكير ألتفرعي أو المتوازي وهو يظهر على شكل حدس وإلهام، لإدارة وتنظيم كافة أمور حياتنا . وهناك اختلافات بيننا من ناحية اعتمادنا عل التفكير التسلسلي أو التفكير ألتفرعي، فبعضنا يركز على التفكير التسلسلي، وعادة يكون متفوق بالرياضيات والمنطق، والبعض الآخر يركز على التفكير ألتفرعي وعادة يكون متفوق بالشعر والأدب والموسيقى والرسم ومخيلة خصبة .

ما الذي يمكن أن يعلل سبب قدرات عقلنا وذكائنا المميز عن باقي الكائنات الحية ما هي العوامل التي سمحت لكي يصبح الإنسان ذكياً بشكل يجعله مميز، ويفكر بالطريقة التي نحن نفكر بها الآن

كيف حدث هذا الفارق الكبير بيننا وبين كافة الكائنات الحية مع أنه يوجد كائنات حية دماغها يملك قدرات تفوق قدرات دماغنا كالحيتان والفيلة .ما هي أهم العوامل التي أدت لذلك يرى البعض أن أهم ما يميز تفكيرنا عن باقي الكائنات الحية، وبالتالي ذكائنا المميز عنها هو : ما يكتسب نتيجة التواصل الاجتماعي الواسع والمنوع والمعقد، والذي يتم نسخه وتوارثه بالمحاكاة والتعلم . فهو أدى لنشوء تواصل إيمائي أشاري متطور، وبالتالي مهد لنشوء لغة محكية حدثت تطورت بها، ومن ثم تشكلت اللغة المكتوبة . بالإضافة لنشوء التقنية وصنع الأدوات وتوارثها نتيجة الحياة الاجتماعية، وهي التي نتجت عن قدرات عمل عقلنا ويدينا والقامة المنتصبة وعوامل أخرى . إن دور التقنية واستعمال الأدوات المتكرر وصنع الأدوات كالرمح والفأس وغيره، وتعليم ذلك للآخرين، ساعدنا بشكل كبير في توسيع قدراتنا وبالتالي خياراتنا في التعامل مع ظروف الحياة . صحيح أن هناك الكثير من الكائنات الحية تستعمل التقنية مثل النحل والعناكب والطيور وغيرها، ولكنها غير متطورة فهي تكتسبها بيولوجياً . وهناك الكثير من الكائنات الحية تستعمل التقنية أو بعض الأشياء كأدوات ولكنها لا تحتفظ بها ولا تعيد صنعها . وكل هذا أحدث قفزة تطور كبيرة لقدرا عمل دماغنا وبالتالي تفكيرنا، عن باقي الكائنات الحية، وخلال زمن قصير نسبياً .أن قدرات الذكاء الكائن الحي، بشكل عام، هي نتيجة برامج التفكير أو معالجة المتدخلات للدماغ الموروثة بيولوجياً، وبرامج التفكير والمعالجة المكتسبة أو التي يتم تعلمها نتيجة الحياة والحياة الاجتماعية .فالقدرات الموروثة بيولوجياً هي : القدرة على التفكير ومعالجة الأفكار والقدرة على التعلم، وسرعة الحفظ في الذاكرة، والقدرة على التذكرة أو الاستدعاء من مخازن الذاكرة واستخدام مخزون الذاكرة، والقدرة على المعالجة الفكرية لزمن طويل، والقدرة على معالجة الأفكار الكثيرة، والقدرة على معالجة الأفكار المعقدة، وكل هذا يكون موروث بيولوجياً، وهذه القدرات تكون عادة تابع لوزن الدماغ وعدد الخلايا العصبية وطريقة اتصالاتها وتناميها

المصدر: http://mail.almothaqaf.com/index.php/qadaya/72107.html

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك