الإسلام والغرب في الجنادرية

تميزت ندوات الجنادرية حول الإسلام والغرب بطرح الأفكار التي تهم الساحة الثقافية العربية الإسلامية، وأظهرت هذه الندوات مرة أخرى سعة أفق القائمين على تنظيم هذه الندوات وبعد نظرهم حيث ضمت قائمة المشاركين أسماء من اتجاهات فكرية متعددة ومشارب مختلفة. وأرجو أن يكون في مشاركتهم هنا درس لهم في أن يتسع صدرهم في الندوات والمؤتمرات التي يعقدونها في بلادهم وجامعاتهم ومراكز بحوثهم لمن يخالفهم في الرأي.

كانت الندوة الأولى حول صورة الإسلام في الغرب، وصورة الغرب في الإسلام" وقد تحدث في هذه الندوة كل من هلموت شيفر وزير الدولة للشؤون الخارجية في حكومة ألمانيا الاتحادية، وهو رجل دبلوماسي فحاول أن يقدم صورة جميلة لصورة الإسلام والمسلمين في ألمانيا. ولعل في ذلك كثير من الصحة فإن بقية الأوروبيين والأمريكيين يرون أن ألمانيا أكثر تسامحاً من غيرها. وقد ذكر الوزير المستشرقة الكبيرة آن ماري شيميل وحصولها على أعلى جائزة لقاء أعمالها في التقريب بين الإسلام والغرب. ومع ذلك فإن من المناسب أن أذكر أن كلاوس كينكل -وزير خارجية ألمانيا- حينما كان رئيساً للاتحاد الأوروبي دعا حكومة بنجلاديش أن تسمح للمارقة تسلميه نسرين بمغادرة البلاد وبحرية الكلام، كما أشير إلى مقالة للكاتب فهمي هويدي التي تناول فيها التنسيق بين ألمانيا وفرنسا حول مواجهة ما يطلقون عليه "الأصولية الإسلامية"

أما بول فندلي فغني عن التعريف فيكفيه أنه يقف منذ مدة طويلة في وجه ضغوط جماعات الضغط اليهودية دفاعاً عن مصالح أمريكا-حتى فقد بسبب ذلك منصبه في الكونجرس- التي تتطلب عـدم المساس بالدين الإسلامي أو بالمسلمين. وكانت دعوته واضحة بأن على المسلمين أن يعرفوا ما فعله أعداؤهم فينافسوهم في العمل على الدفاع عن أنفسهم ومعتقداتهم.

وتناول مصطفى العقاد الصعوبات والعراقيل التي يواجهها في سبيل إنتاج فيلم يوضح صورة الإسلام والمسلمين في الغرب. وذكر طرفاً مما عاناه في إنتاج فيلم الرسالة أو عمر المختار. وأكد على دور السينما. وهو محق جداً في أهمية دور السينما فإنك لا تكاد تمر عليك خمس دقائق من مشاهدة القنوات التلفازية في أمريكا دون أن تسمع ذكراً لليهود. فأين أموالنا من دعم هذا القطاع المهم جداً مع الأخذ في الاعتبار أن يوجد مع العقاد من يقدم له النصوص الصحيحة الصادقة.

وتحدث الأخ الدكتور عبدالعزيز السويل فأشار إلى الصور المتبادلة بين الطرفين وإصرار الغرب على الاحتفاظ بصورة نمطية سيئة للعرب والمسلمين وإشاعتها في وسائل الإعلام المختلفة. ولكن ينبغي أن ندرك أن الإعلام الغربي مسؤول أيضاً عن نشر صورة نمطية سيئة للغرب بما يذيعه من أخبار الفساد والفجور والجريمة.

قبل عدة سنوات نشرت جريدة (الشرق الأوسط) في صفحتها الأولى خلاصة مقالة للمستشرق برنارد لويس وبعض التعليقات التي صدرت حولها قبل أن تنشر في العدد القادم من مجلة "شؤون خارجية" وفي هذا الإطار اهتمت الدوائر العليمة والأكاديمية بأطروحة ميشال فوكوياما حول نهاية التاريخ التي نشرها في مجلة (مصالح قومية)(National Interest) حيث أُرسلت المقالة إلى عدد من الباحثين والأكاديميين للكتابة حولها. وفعلت الشيء نفسه مع مقولة صموئيل هاتنقتون حول صراع الحضارات.

وهاهو الحرس الوطني في ندواته الرائعة يهتم بالأدب والشعر والفكر، ويخصص أسبوعاً أو أكثر للاحتفاء بمئات الضيوف من المفكرين والأدباء والعلماء من أنحاء العالم العربي الإسلامي ، وبعدد من كبـار الباحثين العالميين. وهو يحتفي بالعلم والفكر طوال العام تخطيطاً للجنادرية ولنشر محاضراتها وندواتها بالإضافة إلى النشاطات الفكرية الأخرى مما يجعل الحرس الوطني بحق مؤسسة حضارية وليس عسكرية فحسب.

ومن الاهتمام بالثقافة والفكر عرض الطروحات الفكرية العالمية بهدف دراستها ونقدها ولوضع النظرة الإسلامية مقابلها . ولعلنا بهذا العمل نُعِدُّ أنفسنا ليكون لنا طروحاتنا الخاصة التي نأمل أن ننطلق بها إلى العالم ليدرسها ويناقشها ، كما نفعل نحن بالطروحات التي ينشرها بين الحين والآخر.

وقد أعجبني في تناول أطروحة فوكوياما التساؤلات التي أطلقها الدكتور أبو بكر باقادر، و هو حين يثير التساؤلات تظهر كأنها تساؤلات عفوية، ولكن لا يغيب عن ذهن السامع أنّ وراء تلك العفوية عمقـاً علمياً، واتساع أفق وبعد نظر. ومن تلك التساؤلات قوله: "إلى أي مدى يؤرقنا تساؤل فوكوياما حول الدين؟ وأضاف بأن علينا أن نأخذ المبادرة ليكون لنا خطابنا الخاص للإجابة عن هذه الأسئلة وسواها مما يطرحه فوكوياما وغيره. ولا شك أن خطابنا الخاص هو ذلك الذي ينطلق من فهم عميق ودقيق للكتاب والسنّة.

وقد أعجبني أيضاً تناول الدكتور أحمد موصللي - من الجامعة الأمريكية في بيروت- حيث قال ما نصّه:" إلاّ أن الهدف الحقيقي للصحوة الإسلامية هو ضخ هذه المبادىء -الحرية والمساواة والعدل- مجدداً في الحياة السياسية مع ربطها بالمفهوم الإسلامي الشامل لله والكون والإنسان. فالإسلام قادر على استيعاب الجوانب الإيجابية للديموقراطية الليبرالية، إلاّ أنه قادر في نفس الوقت على رفض الجوانب السلبية للديموقراطية. فالمسلمون قادرون اليوم على تطوير آليات الشورى والحرية والمساواة، وهم قادرون على رفض العبث الأخلاقي والقيمي وعلى التركيز المفرط على الملذات المادية والدنيوية. إن شريعة الإسلام وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم تزود المسلمين بمعايير تمنع عنهم الانهيار الأخلاقي والمعنوي، وبسبـب رؤية المسلم لوظيفته في الأرض عبر استخلافه، فإن انهيار الأيديولوجيات الاشتراكية والشيوعية وصعود الديموقراطيات الليبرالية يعني أن على المسلم الاستفادة من هذا التغيير في المسار التاريخي للايدويولوجيات التي تثبت فشلها واحدة تلو الأخرى بسبب بعدها عن حقيقة الإنسان وتطلعاته..."

وأما مسألة الرد على فوكوياما فإن أحد ضيوف المهرجان قال في إحدى جلسات الاستراحة: "لماذا يعتقد الغرب دائماً على أنه قادر على تشكيل الشعوب بالطريقة التي يريدها؟ إن الله عز وجل قد جعل الناس مختلفين كما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى{ولو شاء ربّك لجعل الناس أمة واحدة ، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم.الآية (هود 118-119)، وقد صرحت وسائل الإعلام الغربيــة عقب حرب تحرير الكويت بأن الولايات المتحدة الأمريكية ستجد في نشر الديموقراطية في العالم. ومازلت أذكر أن الأمم المتحدة أرسلت عدداً كبيراً من جنودها للإشراف على الانتخابات في كمبوديا؛ فكنت ترى الناس يسيرون في الأدغال للوصول إلى صناديق الاقتراع.

ولا بد أن أذكر أن كلمة الرئيس كلينتون إلى المهرجان قد أشارت إلى قضية مهمة وهي استمرار الحـوار بين العالم الإسلامي والغرب. وهو أمر حيوي إذا أراد الغرب أن يعرف الإسلام معرفة حقيقية فإن الوسائل الحالية يجب تطويرها لإعطاء فرصة أفضل لنماذج معتدلة من العالم الإسلامي لتشارك في النشـاطات العلمية والأكاديمية في الغرب، والتقليل من الاعتماد على النماذج التي لا تمثل الفكر الإسلامي الصحيح.

وأنتقل إلى الندوة الخاصة بالاقتصاد وأذكر من المعلومات التي أوردها أحد المحاضرين بأن الشركات المتعددة الجنسيات تسيطر على جزءٍ كبيرٍ من الاقتصاد العالمي وأنها لا تسمح لغيرها بأن ينمو بطريقة طبيعية. وعلى دول العالم العربي الإسلامي أن تعمل لمواجهة مثل هذه التحديات العالمية إن أرادت أن يكون لها مكان في الخارطة الاقتصادية العالمية.

استهلت الندوات بمحاضرة الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس بتقديم الرؤية الشرعية لموقف الإسلام من الحضارات والأديان الأخرى. وقد كانت محاضرة رائعة يهمني أن أتوقف عند حديثه عن دين الإسلام بأنه دين السلام، وأضاف الشيخ حفظه الله ولكنه (الإسلام) يستعد للصدام، فلا بد من إعداد الأمة الإسلامية نفسها بأن تكون لها الهيبة والرهبة في نفس الآخرين. وهذا ما يؤيده الأمر الرباني في قوله تعالى )وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم( ويؤيده أيضاً حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير).

وتأكيداً لهذا المفهوم عند الأمم الأخرى أذكر أن صورة غلاف إحدى مجلات ( الطيران) التي تصـدر باللغة الإنجليزية كانت لطائرة مقاتلة وكتب تحتها (القوة من أجل السلام)، وإن هذا الموضوع جدير بأن يفرد له ندوة أو ندوات للبحث في كيفية وصول الأمة الإسلامية إلى القوة في المجالات جميعها: القوة الإيمانية، والقوة العلمية، والقوة العسكرية...الخ.

وقدّم معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي وزير الشؤون الإسلامية محاضرة ضافية حول جهود المملكة في خدمة الدعوة الإسلامية في الغرب. وهي جهود مباركة تتمثل في المعاهد العلمية ومراكز البحوث وفي الكراسي العليمة وفي المساهمات في إنشاء المراكز الإسلامية، وكذلك في أكاديميات الملك فهد. وقد امتدت المحاضرة والتعليقات والمداخلات حتى وقت الندوة التالية.وكان بودي أن أتقدم بفكرة مفادها أن يكون للعلماء السعوديين وأساتذة الجامعات وجوداً أكثر فعالية في الجامعـات الغربية. فلماذا لا يكون لهم وجود اكبر في الجامعات الغربية تدريساً وإشرافاً على البحوث العلمية ومشاركة في الندوات والمؤتمرات. وقد زرت واشنطن في الصيف الماضي ووجدت أن المعاهد المشهورة من مثل: معهد بروكنجز، ومعهد الشرق الأوسط، ومعهد الولايات المتحدة للسلام، ومعهد جون هوبكنز وغيرها لم تعرف مشاركة العلماء السعوديين في نشاطاتها. وفي مقابلة مع رئيس معهد الشرق الأوسط أجاب عن أحد أسئلتي بأن المعهد يرحب بمشاركة الأساتذة السعوديين وإنه معجب بالمستوى الأكاديمي للأساتذة السعوديين الذين التقاهم في زيارته الأخيرة إلى المملكة. ومما يدعو إلى التفكير في مثل هذا الاقتراح أن المعاهد المذكورة تستعين أحياناً بمن لا يمثل الإسلام والمسلمين تمثيلاً صحيحاً حيث إن بعضهم إمّا أن يكون ذو اتجاه علماني أو شيوعي، أو غير ذلك من الاتجاهات التي لا تمثل البلاد الإسلامية تمثيلاً صحيحاً.

وقد وقعت وزارة التعليم العالي قبل سنوات مع مؤسسة فلبرايت على تبادل الباحثين بين المملكة والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن هل من الممكن زيادة عدد هذه المنح حتى يكون للأستاذ السعودي وجوداً أفضل في الجامعات الغربية ؟

وانطلقت ندوات الجنادرية وكان أولها حول العلاقات التاريخية بين الإسلام والغرب، وقد وفق القائمون على هذا المهرجان في اختيار هذا الموضوع، وكم وددت أن لو خصصت أكثر من جلسة لهذه القضية الحساسة. وأبدأ بمشاركة الدكتور عبد العزيز العبيدي فقد نجح أيما نجاح في تجلية هذه العلاقات في زمن الحروب الصليبية، وبخاصة أن أوروبا قد جردت هذه الحملات التي اتسمت بكثير من الوحشية والعنف من جانب أوروبا والتسامح من جانب المسلمين. وأود أن أضيف أن أوروبا ما تزال تهتم بالحروب الصليبية فقد صدرت في السنوات الماضية العديد من الدراسات ، وأنتجت عدة أفلام عنها، كم أشار الدكـتور حسن عزوزي إلى إصدار أعداد خاصة من بعض المجلات الفرنسية حول هذه الحروب تشيع فيها روح الفخر بهذه الحروب.

وأكد الدكتور العبيدي أن أوروبا أفادت كثيراً من هذه الحروب الصليبية في تعرفها على حضارة الأمة الإسلامية، كما قدمت هذه الحروب دروساً بليغة للمسلمين يجب أن يتذكروها دائماً وهي أن مواجهة أعداء الأمة والنجاح في هذه المواجهة لا يمكن أن يتم دون العودة الصحيحة للاسلام والوحدة الإسلامية.

أما ورقة الدكتور عبد الجليل التميمي فاهتمت بجانب الدراسات العربية الإسلامية في الغرب وإبراز هذه الدراسات لبعض الرموز المضيئة في التاريخ الإسلامي، ولكن كان على الدكتور التميمي أن يذكر أن هذه الدراسات اهتمت كذلك بالجوانب السلبية كاهتمام المستشرقين بالحلاج الذي قضى المستشرق الفرنسي لوي ماسنيون حياته في دراسته (وقلده الشاعر المصري المعاصر صلاح عبد الصبور)، وابـن عربي، والحسن ابن الصباح وغيرهم. والذي يراجع دائرة المعارف الإسلامية التي كتبها المستشرقون يدرك كيف أنهم حرصوا على أن تكون هذه الموسوعة إبرازاً لأسوأ ما في تاريخ المسلمين.

وتحدث الدكتور فهمي جدعان عن العلاقة بين أوروبا و الإسلام وبخاصة محاولة المسلمين التفاعل مع حداثة أوروبا وما بعد الحداثة، ورجعت إلى ملخص النص المنشور للمحاضرة فوجدت أن المحاضر لم يوفق في تناول هذا الموضوع بل كان في بعض الأحيان يجور في الحكم على الإسلام، ولا يشفع له أن حاول أن يدعو المسلمين إلى الاستقلال عن أوروبا .

وبالنسبة لملاحظتي أن هذه الندوة كانت تستحق أكثر من ندوة فسبب ذلك أن هذه الجذور التاريخية هي الأساس الذي يجب مناقشته قبل الانطلاق للحديث عن العلاقة المعاصرة بين الإسلام والغرب. وباستعراض موجز أقول بأن هذه العلاقة بدأت حينما أسس المسلمون دولتهم في الجزيرة العربية وكانت الدولة الرومانية إحدى الدولتين العظميين في العالم حينذاك وكانت تخطط للهجوم على الدولة الإسلامية الوليدة، ولكن المسلمين أدركوا أنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلاّ ذلوا فبادروا هم بالخروج من الجزيرة العربية لتأمين الطريق للدعوة الإسلامية وتحرير الشعوب التي كانت الخاضعة للدولة الرومانية ولم يشفع لهم أنهم أبناء دين واحد.

وكان النصر للإسلام، فأمن للشعوب التي خضعت لدولته الحياة الكريمة وحرية التدين، وحرية التصرف في أموالهم، وسمح لهم بالمشاركة في النهضة الحضارية. وهو أمر لم يحدث عندما عادت أوروبا في الحروب الصليبية وكانت في قمة التخلف فأفادت هي من حضارة المسلمين.

وعادت أوروبا مرة أخرى في حملاتها الاستعمارية التي كان يدفعها فلسلفة أوروبا بتفوق العرق الآري ورسالة الرجل الأبيض في تحضير الشعوب، وكانت النتيجة أن جعلت البلاد الاستعمارية همها الأول محاربة الإسلام بمحاربة التعليم ومنع المسلمين من النهضة، وجعل بلادهم مجرد مصدر للثروات الطبيعية التي تأخذها أوروبا لتعيدها مصنعة بأغلى الأسعار. كما حرصت أوروبا على صبغ هذه المستعمرات بالصبغة الأوروبية فاصطفت مجموعة من أبناء المسلمين إما عن طريق الابتعاث، أو عن طريق المدارس الأجنبية التي أنشأتها في البلاد الإسلامية ومكنت لهؤلاء أن يستولوا على مقاليد توجيه الأمة بالرغم من أن الذين قاوموا الاحتلال هم العلماء والمجاهدون وليسوا المناضلين العلمانيين الوطنيين القوميين.

وعندما بدأ اليقظة الإسلامية المعاصرة بعد عشرات السنين من سيطرة الاتجاهات القومية العلمانية أو اللادينية اتخذت بعض الجهات المتنفذة في أوروبا والولايات المتحدة من هذه اليقظة العدو الأول فحاربتها بشتى الوسائل ومنها حرب النعوت والألقاب فأطلق على الصحوة: "الأصولية”، و "التشدد"، و "التطرف"، و "التمرد"، وغير ذلك، وعقدت عشرات الندوات والمؤتمرات لدراسة هذه الظاهرة كأنه ليس من حق المسلمين العودة إلى دينهم .

والذي يدعو إلى التوسع في بحث جذور العلاقات التاريخية أن اليابان عندما أرادت أن تقوي علاقاتها مع دول جنوب شرق آسيا التي تضررت من الاحتلال الياباني، ما كان منها (اليابان) إلاّ أن اعتذرت عن كل ما ارتكبته في حق هذه الشعوب، فهل تفعل أوروبا ذلك بالنسبة لدول العالم الإسلامي؟

ولما جاء موعد ندوة "الخطر الإسلامي على الغرب بين الوهم والحقيقة" ازدحمت المدرجات بالحضور منذ وقت مبكر، وامتلأت القاعات الخارجية كلُّ ذلك ويعود سبب الازدحام إلى أمرين: أولهما أن أحد المتحدثين هو البروفيسور صموئيل هتنقتجون كتب قبل عامين تلك مقالة أثارت كثيراً من الجدل وما تزال حول ما أسماه صدام الحضارات الذي يتلخص في أن الصراع القادم -بعد انتهاء الحرب الباردة - لن يكون بين دول بقدر ما سيكون بين الحضارة الإسلامية المتحالفة مع الكونفوشوستية ضد الحضارة الغربية التي تمثلها أمريكا وأوروبا. فالجمهور يريد أن يرى هتنقتون وما سيقوله حول موضوع الندوة.

والسبب الآخر هو وجود البروفيسور جون اسبوزيتو صاحب كتاب الخطر الإسلامي وهم أم حقيقة، والذي نشرت مجلة " المجتمع " الكويتية فصلاً منه، كما استضافت اسبوزيتو في عدد من الأعداد التالية. والبروفيسور اسبوزيتو كان يعمل في كلية الصليب المقدس قبل أن ينتقل إلى جامعة جوروجتاون بواشنطن العاصمة ويترأس مكتب التفاهم الإسلامي النصراني الذي كان يطلق عليه عندما كان تابعاً لمعهد هارتفورد اللاهوتي بمكتب العلاقات ثم الاهتمامات الإسلامية النصرانية.

كانت الندوة تستحق هذا الاهتمام فالمتابع لما يكتب في الغرب عن الإسلام منذ عدة سنوات يدرك أن هذه القضية هي فعلاً من القضايا الخطيرة. وقد وجدت أن مجلس الشؤون الخارجية بمدينة نيويورك الذي يصدر مجلة ( الشؤون الخارجية ) التي فجر من خلالها هتنقتون موضوع الصدام بين الحضارات تصدر نشرة بعنوان (التقرير حول سياسات المسلمين ) وكان عددها الصادر في يناير /فبراير 1996 يتضمن مقالة ل دانيال بايبسس بعنوان (خطر الإسلام الأصولي) وتحدث عن هذا الخطر من خلال المحاور الآتية: الأيديولوجية المثالية المتطرفة ، والاستبداد ، ومعادة الديموقراطية، ومعادة السامية ومعاداة الغرب ومعاداة التعايش مع الآخرين .

والعودة إلى جذور الأشياء يقودنا إلى الفهم الحقيقي لواقعها المعاصر فما زلت أذكر مقالة قصيرة كتبها القس سبايت بمكتب العلاقات الاسلامية النصرانية عام 1990 بعنوان( من سيكون الشبح الخيف الجديد؟) وجاء في المقالة أن أولئك الذين كانوا يجدون ما يتحدثون عنه دائماً بأنه الخطر الذي يواجه أمتهم لن يجدوا بعد انهيار الشيوعية في أوروبا الشرقية( قبل سقوط الاتحاد السوفياتي) ما يتشدقون بالحديث عنه فلذلك يخشى أن يجعلوا الاسلام هذا الشبح المخيف الجديد أو الفزّاعة . ويستدل سبايت على ذلك بما كتبه كرس كروتهامر Chris Kruthammer - الذي أصبح كاتباً شهيراً ونجماً إعلامياً - مشبهاً الخطر الإسلامي ب "الانتفاضة الكونية" .

وعجبت حينها لقس في معهد لاهوتي يعترض أو يستنكر جعل الاسلام هدفاً لهذه الحرب الإعلامية الخطيرة. ولكن لعل هذا يعود إلى أن هؤلاء النصارى ومنهم اسبوزيتو يدركون أن القائمين على نشر فكرة أو أكذوبة " الخطر الإسلامي" إنما يخططون لأبعدَ من ذلك وهو محاربة النصرانية أيضاً فليس حباً في الإسلام يدافعون عنه ولكنهم عن أنفسهم يدافعون.

وتحدث صموئيل هتنقتون فكانت محاضرته بعيدة كل البعد عمّا قاله في مقالته المشهورة حيث ركز على قضية تكاد تكون قد أشبعت بحثاً منذ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة ومن جاء بعدهما وهي قضية التحديث والتغريب. وبالرغم من أن علماء الأمة الإسلامية لا يرون تعارضاً بين الأخذ بوسائل المدينة المعاصرة مع المحافظة على الشخصية الإسلامية والقيم الإسلامية . وقد أشار الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله في تفسيره لآيات )أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون(الآية، بأن المقصود من المصانع ليس كما فهمها المفسرون الأوائل بل هي المعامل التي تصنع وسائل المدنية ولكنه أكدّ على أن تكون مبنية على العدل والحق وعدم ظلم العمال أو إشاعة الروح الاستهلاكية في الناس. وقد استشهد المحاضر بكلام للأمير بندر بن سلطان حول التنمية في المملكة العربية السعودية بأننا استطعنا أن نأخذ بكثير من وسائل الحضارة دون أن نفقد هويتنا بل ازددنا والحمد لله محافظة عليها. وهكذا فكثير من الحضور كانوا يقولون ليس هذا هتنقتون صاحب مقولة صراع أو صدام الحضارات.

وتحدث البوفيسور جون اسبوزيتو مشيراً إلى أن الخطر الإسلامي على الغرب ليس حقيقة وذلك لأن الحركات الإسلامية التي تميل إلى العنف إنما هي أقلية وأن غالبية العالم الإسلامي التي تتمسك بالإسلام لا تشكل خطراً على الغرب. ويؤكد اسبوزيتو إلى أن الحركات الإسلامية في البلاد المختلفة لا تشكل خطراً لعدم وجود تنسيق بينها كما يزعم كروتهامر. ولعل مما يميز طروحات اسبوزيتو مطالبته بالاعتدال في التعامل مع الحركات الإسلامية والدعوة إلى سياسات تتيح لهم مشاركة أكثر فاعلية في البلاد المختلفة.

وعودة إلى مسألة الخطر الإسلامي فهي ليست وليدة السنوات الخمس الأخيرة أو منذ بدأ انتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين وإنما هي قديمة منذ ظهرت الحركات الإسلامية التي نادت بتحرر البلاد العربية الإسلامية من الاحتلال الأجنبي ودعت إلى المحافظة على الهوية الإسلامية. فدارس التاريخ الحديث والمطلع على الوثائق الغربية سواءً الأمنية أو السياسية يجد أن هذه التقارير -وكذلك الدراسات الأكاديمية- كانت تشير إلى أن الحركات الإسلامية هي الأشد خطورة على الاستعمار، وكانت تنعت هذه الحركات بأنها تثير العداء للأجنبي وأنها لا تؤمن بالتحديث (التغريب)، وأنها تحارب تعليم المرأة وغير ذلك من الافتراءات القديمة المتجددة. (ما أشبه الليلة بالبارحة) .

وهذه القضية لا يمكن لمقالة واحدة أن تستوعبها ولكن لنختم بالتساؤل: أما آن لهؤلاء الذين يروجون أكذوبة الخطر الإسلامي أن يعرفوا أن الإسلام رحمة للعالمين وأن البشرية التي تقودها الحضارة المادية الغربية في حاجة للإسلام ؟ والله الموفق.

المصدر: http://www.madinacenter.com/post.php?DataID=141&RPID=139&LID=8

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك