العلاقة بين أتباع الديانات في العراق في القرون الأولى للإسلام

jafar hassan(سيكون الحديث في ورقتي هذه مقتصرا على علاقة اتباع الأديان مع بعضهم

البعض وليس عن تعامل الدولة معهم).

 

تحاول هذه الورقة أن تستشهد ببعض الأمثلة، من تاريخ المجتمع العراقي، لتستدل بها على وجود علاقة طبيعية بين أتباع الأديان المختلفة في قرون خلت، وقبل عرض هذه الأمثلة من المفيد أن نقول إنه على الرغم من تنوع مكونات هذا المجتمع وأديانه، فإن أتباع الأديان، لم يفضلوا العيش في أماكن معزولة، كما كان حال اليهود في أوربا مثلا، بل كانوا يعيشون بحرية وانفتاح على الآخرين. صحيح أننا نقرا أحيانا عن وجود حارات خاصة، ولكن العيش فيها لم يكن اضطرارا بل كان خيارا لأصحابها،  وكثيرا ما كان لظهورها أسباب دينية. إضافة إلى أنها لم تكن مغلوقة على سكانها، ولاممنوعة على الذين يعيشون خارجها. ولذلك أصبح الإختلاط والتفاعل مع الآخر، والإلفة لمعتقداته هي السمة السائدة بين أتباع هذه الأديان.

وكان لهذا التفاعل مظاهر عدة في الحياة، تكوَن منها نسق عام، وما كان يحصل خارج هذا النسق، إنما كان استثناءا للقاعدة، وخارج نمط العلاقة الطبيعية.

وكان من هذه المظاهر، توثق العلاقات الإجتماعية بين هؤلاء العراقيين من صداقة وتزاوج، وحضور الاحتفالات والمناسبات الدينية وغير الدينية.وقد كان المسلمون يتطلعون إلى حضور هذه الإحتفالات والمشاركة فيها، وللشعراء المسلمين بعض الشعر في ذكرها، أشارت إليه كتب الأدب والتاريخ.فهم كانوا يحتفلون مع المسيحيين في عيد اسمه يوم السعانين ( أو الشعانين).حتى قال أحد الشعراء المسلمين

حبذا يوم السعانين وما  نلت فيه من نعيم لو يدوم

كما كانوا يخرجون إلى ألأديرة بأعداد كبيرة لمشاركة المسيحيين مناسباتهم . بل إن العلاقة بين أتباع الأديان قد وصلت أحيانا إلى مستوى الصداقة الوطيدة.فمن ذلك مايذكره الجاحظ أن أبا الطمحان الأسدي "كان نديما لأناس من بني الحدَاء وكانوا نصارى حمد منادمتهم فقال

بنو الصَلب والحداء كل سميدع   له في العروق الصالحات عروق

وإني وإن كانو نصارى أحبهم   ويرتاح قلبي نحوهم ويروق

وقد عُرف أبو اسحق الصابئ بصداقته الوطيدة، مع اثنين من شخصيات المسلمين المثقفة المعروفة، كما يذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء، فكان بين الصابئ وبين الصاحب اسماعيل بن عباد الوزير، "مراسلات ومواصلات"، وكذلك بينه وبين الشريف الرضي "مودة ومكاتبات". ثم يضيف يا قوت "وكان هذا مع اختلاف الملل وتباين النحل". وكان الرضي قد رثا أبا اسحق بقصيدة عصماء عندما توفي، كان مطلعها

أعلمت من حملوا على الأعواد  أرايت كيف خبا ضياءُ النادي

وكان من ابياتها

إن لم تكن من أسرتي وعشيرتي   فلأنت أعلقهم يدا بودادي

وقال الشاعر ابن عبدل أو غيره في مجوسي ساق عنه صداقا (ساعده على دفع صداق زواج)

كفاني المجوسي مهر الرباب  فدى للمجوسي خالي وعم

هذه مجرد أمثلة قليلة على العلاقة الإجتماعية الطبيعية بين أتباع الأديان، وربما كان هناك غير هذه مما لم نطلع عليه، أو لم يصل إلينا. ومن مظاهر قبول الآخر والإنفتاح عليه، ما كان يحصل في مجال الدراسات العلمية، حيث كان أتباع الأديان المختلفة يدرسون على أيدي أتباع أديان أخرى، فنحن نقرأ أن المسيحي يحيى بن عدي، الذي وصفه ابن أبي أصيبعة، بأنه كان مترجما وناسخا ومنطقيا، ومعه المسيحي متى بن يونس، الذي انتهت إليه رئاسة المناطقة في عصره، كما تذكر المصادر، يدرسان على يد الفيلسوف المسلم أبي نصر الفارابي، وكانت ليحيى بن عدي حلقة درس يحضرها التوحيدي وغيره،  كما يذكر هو في كتابه "الإمتاع والمؤانسة". ونقرأ أن الطبيب المسلم عيسى بن على، كان قد قرأ على المسيحي حنين بن اسحق، وأن ثابت بن قرة الصابئي كان قد درس على يد المسلم محمد بن موسى من أولاد شاكر، وأن عيسى بن أسيد العالم المسيحي، الذي كان مترجما من السريانية إلى العربية، كان يدرس على يد ثابت بن قرة، وكان ثابت كما تذكر المصادر يقدمه ويفضله، وكتب له كتابا بعنوان جوابات ثابت لمسائل عيسى بن أسيد . وكان المجوسي علي بن العباس الطبيب المعروف يدرس على يد موسى بن يوسف بن يسار، وأكثر مايمثل هذا الإنفتاح في المجال العلمي، هو ماذكر عن أبي الفرج عبد الله الطيب، الذي وصف ب"الإمام الفيلسوف العالم، الذي كان كاتباللجاثليق ومتميزا في النصارى ببغداد" كما يقول ابن أبي اصيبعة، والذي كان الشيخ الرئيس ابن سينا يحمد كلامه في الطب، يُدرِس تلامذة كانوا خليطا من أديان مختلفة، مثل المسلم أبي الحسين البصري(المتكلم والطبيب المعروف) وزهرون، وعلي بن هلال الصابئيين، وابن بطلان المسيحي، والأمثلة على ذلك كثيرة.كما درس بعض اليهود النحو على أيدي النحاة المسلمين، وأصبح بعضهم معروفا بهذا الإختصاص، بل ألف بعضهم كتبا في هذا العلم، مثل النحوي هارون بن الحائك الضرير (كان بعضهم تحول إلى الإسلام فيما بعد). ومن مظاهر هذا النسق العام ما كان يحصل في مجالس المناظرات بين أتباع الأديان والمذاهب، والتي كانت تعقد في العراق، في البصرة وفي بغداد .فصاحب الأغاني يروي أنه كان في مسجد البصرة حلقة قوم من أهل الجدل يتصايحون في المقالات(المعتقدات) والجدل فيها، وعرف عن المعتزلة، أنهم كانوا يجادلون المسيحيين واليهود والمجوس. وكان أبو اسحق الكندي الفيلسوف يناظر ابن الراوندي، الذي كان يتهم بعقيدته، وناظره ايضا مجموعة من العلماء في بغداد منهم الصالحي وابو عيسى وابو العباس الناشئ. وعندما كان الجاحظ يخرج للدراسة في مسجد البصرة، كان يلتقي بابن ماسويه وسلمويه وحنين بن اسحق وشمعون الطبيب .وبغداد خاصة كانت معروفة بمجالس المناظرة والجدل. إذ يذكر لنا التوحيدي في بعض كتبه، أن هذه المجالس كانت تعقد ليس في البيوت الخاصة حسب، وإنما كانت في بعض الأماكن العامة مثل سوق الوراقين في بغداد، وكان يحضرها بعض العلماء ممن كان يفد على بغداد. ولم يقتصر حضور هذه المناظرات على من كان يؤمن بدين فقط، بل كان يحضرها ممن لايؤمن بدين، ممن كانوا يسمون الدهريين والطبيعيين وغيرهم. وقد وجدت عالمين يحكيان تجربتهما الشخصية في هذه المجالس، أحدهما يهودي، معروف بين اليهود، وله أكثر من مؤلف باللغة العربية، وهو أبو يعقوب يوسف البصير من القرن الحادي العاشر الميلادي، الذي يعتقد أنه كان عراقيا، والذي كان معروفا بمناظرته لأتباع الأديان الأخرى، وهو يتحدث عن مجلس اجتمع فيه مع بعض العلماء المسلمين، فيقول أنه بعد نقاشه معهم شعر بالتعب والانهاك، فطلب منهم أن يرتاح لوحده منفردا، ثم يرجع للنقاش، فعزل نفسه في مكان منفرد ثم صلى ودعا أن يثبت الله أقدامه وقرأ عبارة من المزمور119 التي تقول "ثبت خطواتي في قولك فلا يتسلط علي من الإثم شيئ" كي تساعده في نقاشه، ثم رجع إلى مجلس النقاش، وهو أكثر ثباتا وعزيمة كما يقول. وهو لم يذكر لنا عما انتهى إليه النقاش سوى قولِه عن مناظريه، بأن لغتهم كانت بليغة وجميلة. والبصير كان يجيد العربية، وكتب أكثر مؤلفاته بها ومنها كتابه المعروف في قضايا علم الكلام "المحتوي".والمجلس الآخر يذكره الحميدي المؤرخ عن عالم أندلسي، اسمه أبو عمر أحمد بن محمد بن سعيدي جاء إلى زيارة بغداد. ويذكر لنا هذا العالم شيئا عن طبيعة هذه المجالس ببعض التفصيل. حيث يقول أنه عندما رجع إلى الأندلس بعد زيارته العراق، سأله الناس عما إذا كان قد حضر بعض مجالس المتكلمين، فقال نعم لقد حضرت مجلسين من هذه المجالس، ورفضت أن أحضر في مجلس ثالث، وعندما سئل عن السبب قال لهم ستعرفون السبب وأرجو أن تفهموه

فقد حضرت المجلس الأول ولم يكن الحضور فقط من أتباع المذاهب الإسلامية، بل كان الحضور أيضا من بقية الأديان من الصابئة واليهود والنصارى والدهريين والملحدين، بل من مختلف المعتقدات غير الدينية.وكل مجموعة من هؤلاء، كان يرأسها شخص مهمته أن يتكلم بالنيابة عنها ويدافع عن آرائها. وفي كل وقت كان يدخل أحد هؤلاء الرؤساء يقوم له أتباعه احتراما ولايجلسون إلى أن يجلس هو، حتى أصبح المجلس مزدحما بالناس .ثم قام شخص من غير المسلمين، وخاطب الحاضرين بالقول، نحن جئنا هنا للنقاش والشروط معروفة للكل، فأنتم المسلمون لايحق لكم أن تستدلوا على عقيدتكم من كتبكم، ومن سنة نبيكم، لأننا ننكر كليهما ولذلك على كل شخص أن يستدل بأدلة عقلية، ووافقه الحاضرون على ذلك. ويقول هذا العالم وبعد أن سمعت هذا الكلام قررت أن لا أحضر مجلسا آخر . وعندما أخبرتهم بذلك عرضوا علي أن أحضر مجلسا ثانيا في مكان آخر، وحضرت ولكن كانت الكارثة نفسها.

وقد وجدت بعض الشروط التي اشير إليها في النص أعلاه. فكان منها "أن يؤثر المناظِر التصادق، وينقاد للتعارف، وأن يكون الحق ضالته والرشد غايته" ، وهذا الشرط يمثل هدفا ساميا، يتمثل ليس فقط في أن لايكون هناك تصادم وعداوة بين المتناظرين، بل يؤكد على التعارف والصداقة بين طرفي المناظرة . ومن مظاهر هذا النسق العام أن بعض الكتب التي ألفها من لم يؤمن بدين، أو في نقد الأسلام كانت تنشر، وتباع في الأسواق، وكانت معروفة للناس، ونحن نعرف هذا من تحذير المتدينين المتشددين لأبناء جلدتهم من شرائها وقراءتها والإطلاع عليها.وكان رجل الدين اليهودي سلومون بن يروحيم من القرن العاشر الميلادي، الذي كان متشددا في تدينه، يحذر أبناء جلدته من الإطلاع على هذه الكتب والبحث عنها ويقول

"إن من يتجول في المدن وفي الأسواق، ويبحث عن العلوم غير الدينية في كتب الفلسفة، وكتب ابن الراوندي وابن سويد، التي لاتعترف بوجود الله، ولا بكتب الأنبياء والتوراة، فإن الله سيعذبه، ويكون مصيره جهنم إلى ابد الآبدين"

وابن سويد هذا هو عثمان بن سويد من مصر، عاش في القرن التاسع الميلادي وألف بعض الكتب أحدها كتاب "مناظرات العلماء ومفاوضاتهم" وقال عنه ابن النديم، إنه كان معروفا بصناعة الكيمياء ورأسا فيها. كما يذكر لنا ياقوت الحموي في معجم الأدباء أن مكتبة الصاحب بن عباد كانت تضم بين كتبها كتب ابن الراوندي.

وقد ذكر عن أبي يعقوب البصير الذي ذكرناه أنه كتب رسالة في نقد الإسلام، وكذلك ألف سعد بن منصور بن كمونة كتابه "تنقيح الأبحاث في الملل الثلاث" عن اليهودية والمسيحية والإسلام، والذي ضم نقدا للإسلام .

وكان من مظاهر هذا النسق العام ما تذكره لنا كتب التاريخ أن أفرادالعائلة الواحدة في بعض الأحيان، انتموا إلى دينين مختلفين، وكانت العلاقة عادية بل طيبة بينهم، فقد ذكر عن أوس، وكان رجلا يهوديا من بني قريضة أن امرأته قد أسلمت وهو لم يسلم، وقد دعته إلى الإسلام فرد عليها بثلاثة أبيات من الشعر، قال فيها

دعتني إلى الإسلام يوم لقيتها/ فقلت لها بل تعالَي تهودي

فنحن على توراة موسى ودينه / ونعم لعمري الدينُ دينَ محمد

كلانا يرى أن الرشادة دينُه / ومن يُهد أبواب المراشد يَرشدِ

وكان الفيلسوف والطبيب أبو البركات أوحد الزمان هبة الله(ناتنئل)

(من القرن الحادي عشر) يهوديا وأسلم، ولكن بناته الثلاث لم يسلمن وبقين على يهوديتهن وعشن معه، وقد طلب من الخليفة مساعدتهن في الحصول على إرثهن بعد وفاته. وهذا فيما أرى يمثل سلوكا حضاريا متقدما للإعتراف بتعدد الأديان.

وهذه الأمثلة التي ذكرتها على قلتها(إذ التاريخ لم يسجل لنا كل ماحدث) يمكن أن نستدل بها على وجود نسق عام عاشه أتباع الأديان والمذاهب، بروح يحكمها الإحترام ويقننها الإعتراف بالآخر وقبوله.وهو ما شهدناه في جيلنا الحاضر وعاصرناه في كل أنحاء العراق، والذي هو كما أرى امتداد واستمرار لما كان يحدث في القرون الماضية. ومانشهده اليوم من محاولات لتغيير هذا التركيب البنيوي للمجتمع العراقي، وتخريب العلاقة بين أتباع الأديان والمذاهب، إنما هو شيئ غريب على هذا النسق العام، وخارج عن مساره الطبيعي، الذي وضعت أسسه منذ القديم .ومن الضروري اليوم أن نؤكد بكل وسيلة سلمية متاحة، ليس فقط على أهمية بقاء هذه التعددية وضرورتها لاستمرار مجتمع آمن سليم، بل يجب التأكيد أيضا على نشاز مايحدث من حالات اضطهاد لأتباع دين من الأديان، أو مذهب من المذاهب الدينية، أو تهميشهم أو تهجيرهم، أو فرض طريقة حياة عيش معينة عليهم، والتي شهدنا بعضها في الفترة الأخيرة،  لأن استمرار هذه المحاولات سيقود في النهاية إلى كارثة تمزق نسيج المجتمع وتدفع به إلى مستقبل مظلم .وبودي لو أن التربوييين وواضعي المناهج الدراسية، يستفيدون من بعض هذه الأمثلة التاريخية ويُدخلون بعضها في مناهج المراحل الأولى من مدارسنا، لينشأ أطفالنا على تقبل الآخر، كما كان الوضع بالأمس .

 

.....................

* شارك الكاتب بهذه الورقة في مؤتمر هيأة الدفاع عن أتباع الأديان والمذاهب الذي عقد في نهاية الشهر الماضي (تشرين الثاني)

المصدر: http://almothaqaf.com/index.php/%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك