متاهات التنمية الثقافية العربية ثقافة الاختلاف ومعاداة التغيير

د. محمد ياسر شرف

ملأ العرب مئات آلاف الصفحات عن التنمية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والثقافية والسياسية والعسكرية وغيرها، على مستويات متعدّدة وآماد متلاحقة،

منذ سنين مديدة. وما تحقّق من ذلك كلّه في المنظور الثقافي كان الأقلّ حجماً على مستوى المقاربتين الكمّية والكيفية، بما يجعل هذه المسألة واحدة من العقبات المعنّدة واللافتة للنظر في الوقت نفسه.‏

 

ولتضييق مجال البحث وتخفيف المجادلة وسدّ الطريق على المماحكين والكذَبة والبيروقراطيين، سأذكر بعض المعطيات ذات الصلة من الربع الأخير للقرن العشرين حتى الآن، أي بعد حدوث «ثورة الاتصالات» التي قلّصت الفروق بين الدول المتخلّفة والنامية والمتقدّمة بالنسبة لنقل حلول المشكلات ووضع خطط التطوير المستقبلي وتحديث الوسائط المستخدمة.‏

فقد وضعت دراسات النمو الثقافي ضمن معطيات متغايرة، تأثّرت بالاتجاهات السائدة في كل دولة عربية على حدة، رغم استلهامها بعض الأهداف العامة المشتركة أحياناً، وهي تتراوح بين أقصى التخلّف وأقصى التقدم بالنسبة للانفتاح على الآخر والاستعداد لأخذ التكنولوجيا وطرائق التعليم ومناهج التربية الحديثة، التي كانت من أكثر الجوانب تقارباً في خطط المؤسسات العربية المشتركة ذات الطابع الهيكلي الدولي.‏

الحامل التربوي والاجتماعي للثقافة:‏

يرى التربويون وعلماء الاجتماع أنّ إقامة صرح ثقافة واعية قادرة على مواجهة أحداث المستقبل وإعداد صيَغ ثقافية مناسبة للاستمرار «الهوّية الوطنية» يحتاج إلى تخطيط نظام تربوي مرن يقبل إدخال التعديلات المستمدّة من الاكتشافات العلمية وحصائل التجارب الحديثة، إضافة إلى تمتين الأبنية المجتمعية الراهنة بحيث تقبل دخول المكتسبات التطبيقية والنظرية الناجمة عن صياغات القواعد الاجتماعية الناتجة عن مقاربات الظروف المحلّية والبيئية.‏

وقد عمدت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1976 إلى اقتراح «استراتيجية لتطوير التربية العربية» تنطلق من دعامتين: تتمثل الأولى في التأكيد على أنّ خير ما يواجه به العرب تحدّي الثورة العلمية ومتطلبات سدّ الفجوة التقنية هو «تحديث العقل العربي بجملته، وتمكينه من استيعاب روح العصر في صيغتها السليمة مجرّدة من عيوبها وسلبياتها»، باعتبار أنه تحديث يؤاخي بين العلم وما يتطلّبه من منهجية عقلانية صارمة وما يترتّب عليه من تقنية دقيقة قابلة للتطبيق والاستثمار.‏

أما الدعامة الثانية فهي اعتبار «منظومة التربية» واحدة من جملة «منظومات» موجودة في المجتمع، ولا يمكن النظر إلى واحدة منها بصورة سليمة ووافية في معزل عن النظر إلى المنظومات الأخرى. ولذا فلا بدّ أن يتمّ «فهمها على حقيقتها» من خلال إدراك صلاتها بالمنظمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، على أساس أن منظومة التربية تتلاقي مع نظائرها من منظمات فرعية مثلها تنبثق جميعاً من «منظومة أكبر هي المجتمع» الذي تكون فيه، وتتبادل هذه المنظومات تأثيرات متنوعة أخذاً وعطاء.‏

ولذا فإنّ غالبية جهود العاملين في الشؤون التعليمية والتربوية اتجهت نحو إبراز دور التربية والتعليم والتدريب في مواجهة مشكلات التخلّف والتجزئة وتحقيق تنمية بديلة، ولاسيما في مجالات: التعريب وتعليم الإناث وتكوين الأطُر الفنّية المتوسطة واختيار أنظمة الامتحانات حسب معايير الكفاية لا التلقين وتوفير فرص التعليم وتنويع قنواته وتطويره.‏

ووقف دون تحقيق المعادل الاجتماعي المناسب لهذه الأغراض ما لم تستطع الخطط الرسمية تغييره بصور جذرية في مجال ارتفاع النسب المئوية لما يسمّى «الأمّيات» الهجائية والعلمية والصحية المنتشرة في الوطن العربي، رغم تأسيس بعض صناديق المعونات المالية لذلك، ولم تتيسّر تسهيلات استيعاب التحصيل المدرسي وتعليم الكبار، وسيطرت الظروف الاقتصادية والاجتماعية السالبة على المشهد العام.‏

وجمدت نتيجة ذلك كلّه المنجزات على الصعيد الثقافي الذي كان أكثر المجالات افتقاراً إلى وضوح رؤية المستقبل الذي يمكن لكل دولة عربية أن تصرّح ببذل جهودها لبلوغه، دون أن تقطع شوطاً ذا قيمة فعلية، ولاسيما بالنسبة لما تدفع به الثقافات الغربية والأجنبية الأخرى من اتجاهات جديدة ومذاهب مستحدثة، في العلوم الإنسانية والتطبيقية والآداب والفنون التشكيلية والموسيقا حتى الفولكلور والرقص.‏

واستمرّ طغيان الاتجاه المؤسسي الرسمي الذي جهد لتكريس تدخّل الحكومة وهيئاتها وموظفيها في المحافظة على «القيم والأوضاع» المجتمعية التقليدية، والحيلولة دون الاستفادة القصوى أو البالغة من منجزات دراسة الأدوار السالبة التي تؤديها القيم والرموز والأفكار في العلاقات المجتمعية وأنماط تنظيم المؤسسات الفاعلة.‏

واستمرّت دراسة الثقافة في هذه الأجواء كما لو أنها «منتجات» تظهر في «فراغ مؤسسي» منقطع الصلة بالعلاقات بين أفراد الناس أو السكان، في إطار السلوكات الفردية والجماعية التي يمارسون من خلالها مقتضيات «وجودهم» المجتمعي الإنتاجي في الحالات المتنوّعة، وعبر أداء المهمّات وتحصيل المنافع التي تحقق لكل منهم طموحاته الخاصة وتدفعه إلى الشعور بالرضا عن الانتماء والمشاركة في الحياة الجمعية.‏

ثقافة الاختلاف ومعاداة التغيير‏

سادت القيود الرقابية في البلاد العربية دون استثناء في مجالات انتقائية من الإنتاج الرسمي لكل دولة، في نطاق التربية والتعليم بمراحلهما المختلفة. وأعاقت المؤسسات الرسمية وبعض الجهات الشعبية وشبه الحكومية كل ما من شأنه أن يتخطّى الأغراض النفعية التي وضعتها البيروقراطيات الحاكمة، في ضوء مصالحها الفردية والفئوية، وتوجيهات القادة والمستشارين والمنتفعين، إلى جانب المموّلين الماليين والمساندين الإعلاميين وأصحاب الأغطية السياسية.‏

وبقيت دعوات المحافظة على الماضي من حيث هو «تراث الأمّة» رغم غموضه وعدم تحديده، بمثابة صلات يجب تقويتها وتوفير أسباب استمرارها، ولو من خلال اختلاق دراسات «منهجية» ترمي ـ بصورة مخططة مسبقاً ـ إلى توصيل فكرة مفادها ضرورة المحافظة على الماضي في أي صيغة مستقبلية قريبة أو بعيدة لمستقبل المجتمع العربي، سواء في القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والحرص على بقاء الترابطين الزمني والسببي.‏

وقامت مجموعة من الجهات ذات الصلة بنقل مقولة «التكامل» الاقتصادي إلى المجال الثقافي، ونشرت مزاعم تتحدث عن عدم ضرورة أن يكون في كل «قطر عربي» كتّاب «مميّزون وعالميون» للرواية مثلاً، مادام بعض كتاب بعض الدول العربية قد حققوا ذلك، وأنه لا ضرورة لاستحداث «مخابر للغة» بغرض تهذيبها وتطويرها في كل قطر، مادام هناك بعض مجامع لغوية مرسومة لذلك، وأنه لا حاجة إلى تدريس علوم «غزو الفضاء» في بلادنا طالما أنّ بعض الدول «الصديقة» تتعب نفسها في هذا المجال ويمكن أن تبيعنا بعض ممتلكاتها القديمة.‏

 

بل إنّ الاختلاف بين الدول العربية امتدّ بأشكال متنوّعة إلى النقاش الدائر حول كيفيات دراسة المستقبل على الأصعدة المختلفة، وحول ما إذا كان من المسموح قطع صلته ببعض المخرَجات الماضية، من أفكار وعادات وتقاليد وشخصيات لا يمكن الدفاع عنها بسبب انقطاع صلتها بالعلوم الحديثة والمنجزات الراهنة حتى مجريات الحياة اليومية.‏

وجرى الاحتيال على النسيج الثقافي في غير شكل، حتى لقد نُسبت تسميات بعض الشوارع في الخطط التنظيمية العمرانية إلى أشخاص ذوي «خلفيات تاريخية» غير مشرّفة، بعد ادعاء إمكان الفصل بين «الاسم» وسمات «الشخصية التاريخية» التي كانت تحمله. وتكرّرت أسماء بأعيانها في الدول العربية، رغم أنها تعيد إلى ذاكرة المختصّين والطلاب والمثقفين عداوات الماضي وحروبه وأوجاعه وأضغاثه، وتجبر الأجيال الجديدة على نكء الجروح القديمة لمعرفة بعض المعلومات التي لا ينتج عنها أكثر من فتح صفحات إضافية لخلافات ضارية أذكت الصراعات العنيفة وأثارت الضغائن.‏

ووجدت النجاحات القطرية في الاقتصاد مناخاً جيداً للمطالبة بأنّ الثقافة التي تُنسَب إلى مواطن العرب في شبه الجزيرة والمناطق القريبة منها هي التي يجب أن تشكّل المنهل الأنسب لاستنباط الأغراض منه، وأنه يجب التوجه إلى «إعادة إنتاج» تلك المجتمعات القديمة في أشكال معاصرة، لكي تتمّ المحافظة على ما تسمّيه بعض أخبار التاريخ المكتوبة في دوائر الحكام والسلاطين والقادة العسكريين «أمجاد الأجداد»، متجاهلين حركة العداء التي استمرّت عبر مئات السنين ضدّ الفلاسفة والكيميائيين والفيزيائيين والأطباء والمشتغلين بالرياضيات وعلم تركيب الأدوية وغيرهم.‏

وبقي حتى اليوم، اعتماداً على ذلك الخط المعلَن أحياناً والخفي أحياناً أخرى، من يذكر أن «العلوم الدخيلة» في الثقافة العربية تضمّ: الفلسفة والطب والتنجيم والطبيعة والكيمياء والإلهيات. وبقي من يرى أنه يجب تعظيم أمر المشتغلين بخدمة الفكر الديني السلوكي، وكذلك الأشخاص المختارين من جانب الحاكم والمعيّنين في المناصب الإدارية ذات الصلة بالشؤون الرقابية المختلفة، والمكلّفين بالرد على منتقدي الخطّ الرسمي للأفكار السائدة وما يستجدّ من آراء المخالفين، لإغلاق الأبواب أمام دعاة التفكير العقلي ذي الطرق الشائكة الزاخرة بالمتناقضات، وحصر الثقافة في واقع سطحي ظاهري وبسيط حتى لو كان ساذجاً.‏

مقاربة العولمة واستثناء الثقافة‏

تتسم الأفكار التي روّجتها الجهات الرسمية وغيرها في الدول العربية بكثير من المرونة وقابلية اللّوي والمطّ والتجزيء، تحت شعار «قبول التغيير» الذي لقي رواجاً لفظياً، ومعاندات تطبيقية حزبية على مرّ السنين، في الوقت نفسه، ولاسيما من جانب دُعاة إعادة إنتاج الماضي.‏

وتمّ التذرّع في كثير من الأحيان بأنّ الثقافة العربية لا تحتاج إلى ما أنتجته ثقافات شعوب أخرى، بل إنها مدعوّة إلى أن تستغني عن ذلك في أمور متعدّدة، مع تأكيد زعم سبق العرب وأقرانهم المسلمين إلى كثير من الأفكار التي تقوم عليها بعض إنجازات حديثة من تشابه في «الصيغة العامة» بين محاولات الماضي ومعطيات الحاضر. وأذكى ذلك ما تؤكده أوضاع عدم قدرة أغلب الحكومات العربية على إدارة الاحتياجات والموارد بصور متوازنة، وعدم قدرتها على التدقيق في الأمور الفعلية التي تحتاجها المجتمعات المحلّية.‏

وقد جرى عدّ الحياة الاجتماعية ـ وليس العلم ـ مصدر تفضيل اندماج الأشخاص والفئات المجتمعية ومدرسة الحياة الإنسانية الأفضل، خلافاً لنتائج جميع الدراسات المقارنة التخصّصية الحديثة التي يؤكد الواقع حاجة الناس إليها للتخلص من ربقة استعباد الطبيعة أو الماضي لشخوصنا المتفاعلة مع واقع راهن يكاد يختلف عن كل ما سبقه من حالات ومعطيات معرفية.‏

واتخذت غالبية الدول العربية موقفاً سالباً من «العولمة» التي روّج أكثرهم أنها جاءت لنزع العرب من ثقافتهم وتاريخهم ودورهم الحضاري على المستوى الإنساني. ولما كشفت المناقشات الدائرة حول هذه المسائل كذبة هذا التشويه، عمدت بعض الدوائر والجهات والأشخاص إلى الانضمام لنظائرها في دول أخرى تدعو إلى «استثناء الثقافة» من جهود تطبيق «قوانين وأنظمة واحدة في مجالات العلاقات الدولية» لضبط الفاعليات والإجراءات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية حتى الثقافية، بغرض تضييق الفجوة التشريعية والتطبيقية بين دول العالم المختلفة.‏

وقد ساعد في ذلك محاولة الدولة الأميركية تصوير أنّ «العولمة تساوي الأمركة» للدول الضعيفة وترويج انتصار «الليبرالية» بصورة نهائية، وتوظيف أشخاص وأطروحات نظرية وجهود مؤسسات ذات أغطية علمية، لإشاعة تصورّات تخدم هذا التوجّه، ولاسيما بعد أن شارك «موظفون ثقافيون» في إثارة الحماسة بين صفوف المفكرين والباحثين العرب ضدّ التوجّه نحو العولمة بعد وضع تعريفاتها وحدودها جميعاً في «سلة واحدة» يحملها الشيطان إلى الهاوية.‏

هكذا بدا انتصار الأنظمة المحافظة والرجعية في الوطن العربية في فرض ثقافة «انعزالية مهزومة» أمام فورة العولمة الراهنة إنجازاً يجب الحفاظ عليه، وتطويق الاتجاهات الثقافية العربية بأسوار من الوصاية والرقابة والتوجيه لكي تبقى داخل «حظيرة» ثقافة «السلف الصالح» التي يتمّ التأكيد على أنها ماتزال بمثابة ملاذ من عاديات أحداث يذكر التاريخ أنّ أعلامه أنفسهم كانوا ضحايا بعض ما أصابته شظاياها.‏

المصدر: http://www.google.com/imgres?imgurl=http://thawra.alwehda.gov.sy/images%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك