ثقافة النفاق

كتبه:المقدم د.خالد شريدة الرويلي
لابد أن كثيرا منا ممن انخرطوا في الحياة العملية واجهوا بعض الفئات من الوصوليين والمتسلقين على أكتاف غيرهم، وأمثال هؤلاء نجدهم حاضرين دائما ليس في الحياة العملية فحسب وإنما أيضا في الحياة الأسرية والحياة الاجتماعية والعلمية... وغيرها من مجالات الحياة، فترى النفاق ديدنهم، والخداع والتدليس طبيعتهم، متقنعين بوجوه البراءة، والابتسامة الزائفة، والكلمات العذبة الرقيقة، بينما قلوبهم قلوب الشياطين في جثامين الإنس.
وللأسف الشديد فقد انتشرت هذه الثقافة لدى بعض الفئات من الذين فقدوا الثقة بأشخاصهم، فأصبحوا يقتاتون على نجاحات غيرهم، ويسعون لنيل الشهرة على حساب الآخرين، إما بدس الدسائس بين زملائهم من جهة، أو بين زملائهم ومديرهم في العمل، ويسعون بالوشاية لدى المسؤولين في عملهم، وهذه الوشايات لا تخرج في غالبيتها عن طابع الكيدية والمؤامرة.
هؤلاء\"المرضى\" لم يكونوا ليتواجدوا بيننا لولا أن أساليب التنشئة الاجتماعية ساعدت على انتشارهم، وأتاحت الطريق لهم إلى باب الشهرة من أقذر الأبواب، إضافة إلى غياب الشفافية والرقابة والمحاسبة، وضياع القيم الحميدة والمعاني السامية لدى البعض ممن ارتضى أن يكون من الدناءة والانحطاط الأخلاقي بحيث سخّر نفسه - وربما غيره - لتتبع عورات إخوانه وزملائه، فيفرح بعثراتهم وسقطاتهم، ليقوم بالمسارعة إلى تبهيرها وزخرفتها لدى مديره، مدعيا حرصه على العمل، وإخلاصه للجهة التي يعمل لديها، وشفقته على مصلحتها، وأنه لولا جهوده وتطوعه ما كان ليكشف هذا الخلل، وربما ساهم (متطوعا أيضا) في تقييم زملائه، متهما إياهم بالإهمال وعدم المسؤولية، وأنهم لا يفقهون شيئا، وأنه هو من عمل وثابر وكافح لنجاح المؤسسة أو الشركة أو الدائرة أو... إلخ، وليته اكتفى بذلك! بل تجده يتدخل في كل شيء بشكل ساذج يفهمه كل ذي خبرة ودراية، مدعيا فهمه في كل الاختصاصات، وتجده يمتلئ قهرا وغلاً عندما يرى غيره قد نال مكانة ومحبة بين الناس ورزق نجاحا في عمله، فيأخذ في الكيد له والحقد عليه ويحسده لأنه فشل في أن يكتسب مثل صفاته، ويدس له الدسائس ويحيك له المؤامرات كي يشوّه صورته ويحبطه عن مواصلة نجاحاته، ويسعى إلى تحطيمه بكل السبل.
فلله ما أشقى هذه النفوس وما أتعسها! كم تسببت في هضم حقوق، وقطع حبال مودة لطالما كانت موصولة بوصال الصفاء والمودة، وكم أدت إلى قطع أرزاق وتشتيت أسر! وكم كادت لأناس كان ذنبهم الوحيد أنهم كانوا مخلصين في أعمالهم، ولم يكونوا أفصح منهم بلاغة، ولا ألسن منهم في الخطاب! ولم يعرف النفاق والتملق طريقا إلى قلوبهم.
إن النفاق بكل أشكاله سواء أكان سياسيا أم دينيا أم اجتماعيا أم غير ذلك هو من الأفعال الكريهة المذمومة، ولا غرابة أن جاء الإسلام ليحارب من يتصف بهذه الصفات وينعتهم بأشد النعوت ويضع لهم أسوأ العقوبات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: \"تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه\"، قال القرطبي: إنما كان ذو الوجهين شر الناس لأن حاله حال المنافق، إذ هو متملق بالباطل وبالكذب، مدخل للفساد بين الناس. وقال النووي: هو الذي يأتي كل طائفة بما يرضيها، فيظهر لها أنه منها ومخالف لضدها، وصنيعه نفاق ومحض كذب وخداع وتحيل على الاطلاع على أسرار الطائفتين، وهي مداهنة محرمة.
ولعلي هنا أجد من المناسب أن أشير إلى أن النفاق يختلف في صوره وأهدافه عن المجاملة واللباقة الاجتماعية التي تتصف بالسلوك المهذب والتعامل الجيد والخطاب الراقي، ولعل من أهم الأسباب التي أدت – في رأيي - إلى ذم النفاق وتحريمه هو ما له من ضرر مادي واجتماعي، فهو يعتمد على التدليس والغش والكذب والغيبة والنميمة، تحت \"مذلة\" الخنوع والخضوع، وغياب الشفافية، وانسداد القنوات الإصلاحية، وأخشى ما أخشاه أن تتولد لدينا ثقافة يلعب أصحابها دور النموذج الاجتماعي الذي يحتذى به، وتُزَخْرِفُ لمثل هذا الفعل تحت مسميات مزيفة كما هو حاصل الآن، حيث نجد من هؤلاء من يوصف بأنه اجتماعي، أو مرن، أو براغماتي، أو يعرف من أين تؤكل الكتف... إلخ، ويصبح أمثال هؤلاء المخادعين قدوة لغيرهم، ممن تغرهم المظاهر دون المخابر، لنجد في النهاية من يعتقد أن هذه هي الطريقة المثلى للصعود الاجتماعي وعلينا - حتى نتدارك هذه الخطورة - أن نربي أبناءنا على الصدق والشفافية والوضوح في أقوالهم وأفعالهم، وأن نبين لهم ما لهذه السلوكيات من سلبيات، ونكون قدوة صالحة لهم، وأن نمنحهم مزيدا من الثقة حتى ينشأ جيل قوي واثق من نفسه معتد بذاته، يحمل روح الصدق والإخلاص ليقود أمته إلى النجاح كما أنه من الواجب علينا أيضاً أن نوضح لهم معنى أن يتحول الأنسان إلى كائن مشوة ، مريض ، يقضي جل حياته في اصطناع المكائد ، ودس الدسائس وحبك المؤامرات ، والعيش في مستنقعات الحقد والتفنن في اذى الآخرين.
همسه :
كم من منافق وصولي يعيش بيننا! الجواب لديك عزيزي القارئ؟
المصدر: http://www.aljoufnews.com/sa/articles.php?action=show&id=257