ما بين السياسي والاقتصادي
يفتح جواد النوحي في هذه الدراسة التي هي أطروحة لنيل للدكتوراه نوقشت في جامعة محمد الخامس سنة 2008، نقاشا نظريا شكّل محورا مركزيا في التحاليل التي اهتمت بالنظام السياسي وطبيعة الدولة في المغرب منذ الاستقلال وارتبط بشكل بوثيق بالجدال الإيديولوجي السياسي حول التغيير السياسي ومعوقاته. ينصب هذا النقاش على مدى وجود رأسمال خاص، سواء كان وطنيا أو أجنبيا، ذي قاعدة اقتصادية قوية من جهة، ومن جهة ثانية على مدى تأثير هذا الرأسمال على صنع القرار السياسي.
تكمن أهمية هذه الأسئلة في كونها تقارب موضوع التغيير الذي يعرفه الاقتصاد المغربي ومخلفاته على البنيات الاجتماعية، وتتساءل عن آفاق تبلور رأسمال خاص و طبقة برجوازية قادرة على فرض خياراتها على النظام السياسي الذي ظل يعتبر تقليديا ومحافظا وغير عقلاني.
أفرزت الإجابات عن هذه الأسئلة، والتي لا تقتصر على فترة الاستقلال بل نجد جذورها في كتابات فترة الحماية والتي سيكون من المفيد إعادة تقييمها اليوم، اتجاهات نظرية متباينة تأثرت بالأطروحات النظرية السائدة على المستوى الأكاديمي العالمي، وبالمواجهات السياسية المتقلبة بين القصر والحركة الوطنية. وبالرغم من بروز نصوص بين الفينة الأخرى أبرزت آفاق الرأسمال الخاص والاستثمارات الأجنبية في إحداث النمو الاقتصادي، فإن الاتجاه الغالب في الدراسات التي عالجت هذا الموضوع، بقي وحتى الثمانينات يوثق لعجز الرأسمال الخاص على الدفع بالنمو الاقتصادي، وللتعارض القائم بين الرأسمال الأجنبي والتراكم الاقتصادي على المستوى الوطني.
ولم تكن هذه الوضعية المتخلفة للرأسمال والرأسمالية قادرة على إحداث أي تغيير على المستوى السياسي، بل إنها كانت منسجمة مع نظام المخزن التقليدي. شكلت الماركسية ومدرسة "التبعية" المنبع النظري الرئيسي لهذه التحاليل، وكان حقل الاقتصاد الأكثر غزارة في إنتاج الدراسات في هذا المجال. منذ الثمانينات حدثت تغييرات كبرى سارت في اتجاهات متعارضة مع هذه الأطروحات، إذ أن التقويم الهيكلي أعاد الاعتبار للرأسمال الخاص باعتباره أداة أكثر فعالية لإحداث النمو على حساب تراجع القطاع العام الذي لم يعد مصدر التدبير العقلاني من أجل تحقيق المصلحة العامة، بل مجالا لتبذير وإهدار الموارد، وتسخيرها لأغراض السياسة والمصالح الخاصة. ومثّل سقوط المعسكر الشيوعي ما اعتبرته تحاليل كثيرة، الدليل في مستوى الممارسة والتجربة على فشل بدائل الرأسمالية والقطاع الخاص في التدبير الاقتصادي. كما أن العولمة وأطروحاتها المدافعة عن مزايا السوق الحرة الدولية، وفوائد المبادلات التجارية وتوسع الاستثمارات الأجنبية، أدت إلى أن تهميش مدرسة التبعية ومنظريها. رافقت هذه التحولات هيمنة لم تكف عن الترسخ في الكتابات الأكاديمية، وشكلت في نفس الوقت مرجعيات فكرية للسياسات الاقتصادية الليبرالية التي همت معظم دول العالم. لم يخرج المغرب عن هذا التحول، حيث حدث شبه إجماع على خيار اقتصاد السوق، واختفت الأطروحات الأكاديمية المناهضة للقطاع الخاص وللرأسمال الأجنبي. وفي نفس الوقت، فإن الدراسات التي اهتمت بالتحول السياسي، غلبت فيها المقتربات التي أهملت الأبعاد الاقتصادية في النظام والممارسات السياسية، وحصرت اهتمامها على الأبعاد الثقافية أو السياسية والقانونية.
أضع دراسة جواد النوحي في هذا السياق العام، والذي أعاد طرح الأسئلة التي أهملتها الأبحاث الجامعية في المغرب منذ التسعينات مركزا على جانبين بالغي الأهمية. أولاها يرتبط بالتعريف بحجم الاستثمارات الأجنبية وتتتبع تطورها خلال ست عشرة سنة منذ 1990. و يقارب النوحي ثانيا مسألة تأثير الاستثمارات الأجنبية على النظام السياسي. يوثق البحث التنامي المتواصل للاستثمارات الأجنبية بالمغرب، بالرغم من التقلبات التي عرفتها خاصة خلال 2001 و2002. ويوظف معطيات إحصائية توضح تطور هذه الاستثمارات في المغرب وتقارنها بشكل جد مفيد مع عدد من البلدان. لكن المساهمة البارزة لدراسة النوحي تبرز في الفصول التي تعالج المسألة الشائكة، نظريا وتجريبيا، لمدى تأثير هذه الاستثمارات على النظام السياسي. الجواب الذي يقدمه النوحي هو أن "توسع الحرية الاقتصادية لا يعني إضعاف النظام السياسي أو خلق ظروف سياسية للدفع بالتطور الديمقراطي، بل إن الاستثمار الأجنبي قد يشكل حلقة لتقوية موارد مشروعية النظام السياسي وتوسيع قدراته للتحكم في المجتمع."وتوصّل إلى هذا الاستنتاج معتمدا على قائمة طويلة بالكتابات التي عالجت النظام السياسي المغربي، وعلى النصوص القانونية، وعلى معطيات من الصحافة الاقتصادية، وعلى تتبع الخصائص السوسيولوجية لعينة من الفاعلين على مستوى الحكومة والإدارات والقطاع الخاص، موليا اهتماما خاصا للاتحاد العام لمقاولات المغرب. إن نتائج هذا المجهود الفكري مُرضية بدون شك، ومفيدة بالنسبة للدراسات التي تهتم بهذه الإشكالات التي من المتوقع أن تعود إلى الواجهة مرة أخرى، مع استمرار توسع الاستثمارات الأجنبية في المغرب، سواء تلك المرتبطة بالمشاريع الكبرى، والتي حصر النوحي اهتمامه عليها، أو بالمقاولات المتوسطة والصغرى التي تستثمر في مناطق مختلفة من المغرب والتي لا زلنا في حاجة إلى دراسات حولها. نحن أيضا في حاجة إلى دراسات تعيد التمحيص في أطروحة النوحي معتمدة على عينات أوسع من الفاعلين، وعلى معالجة مستفيضة لحالات ميدانية عن العلاقة بين المستثمرين الأجانب، وبين مراكز القرار سواء على المستوى المركزي أو المحلي. وهذه كلها مشاريع أبحاث ستساهم في إعادة خلق التقارب بين البحث السياسي والاقتصادي، والذي تراجع مع هيمنة المقاربات الثقافية للظاهرة السياسية، والتي تطبع البحث الجامعي في بلادنا منذ ما يناهز العقدين.
المصدر: http://www.ribatalkoutoub.com/index.php?option=com_content&view=article&...