الإسلام والغرب: تعاون أم صدام

الإسلام والغرب: تعاون أم صدام

رالف بريبانتي
مقدمة:

يقدم هذا المقال في تسلسل منطقي تصوراً بديلاً للمبدأ القائل: إن الإسلام والغرب في طريقهما إلى صدام حضارات محتوم، فيكتشف القيم الأخلاقية المشتركة بين المسلم والمسيحي . ويحدد المجالات التي قد يفيد منها كل من الإسلام والمسيحية حال الاقتناع بأن بينهما قضايا مشتركة،ويمضي البحث فيقوض عدداً من قضايا الخلاف المتوهمة بين الإسلام والغرب. ويقدم نظرة محايدة في بوادر التقارب والتعاون بين الفاتيكان والحكومات والمجتمعات الإسلامية . وينعي الكاتب تدهور الأخلاق والفضيلة في أنحاء العالم، ويسترعي الانتباه إلى أن الصحوة الفجائية للتدين والروحية في المجتمعات الإسلامية المعاصرة لا تفيد الغرب فحسب، بل الإنسانية جمعاء، بناء على أنه إذا ما تلاقت الحماسة الإسلامية مع الأخوة المسيحية في ظل قضية مشتركة تولد الأمل وقف تدهور الحضارة.

الدعوة إلى العمل المشترك:

لقد تضمن مرسوم مجلس الفاتيكان الثاني الصادر عام 1965م استنكاراً مفاجئاً لموقفه من الإسلام؛ إذ ظل مهيمناً أكثر من خمسمائة عام، فقد محا بعبارات شاعرية رائعة تصوير دانتي لمحمد،كمروج للأكاذيب والفرقة. وإن صواب تقدير المرسوم للإسلام وإن جاء متأخراً لا يدانيه إنصافاً سوى العبارة الأخيرة من الفقرة الثالثة للمرسوم، التي وإن كانت أقل روعة في صياغتها، إلا أنها أسمى في دلالاتها، فقد جاء فيها:"بالنيابة عن البشرية كافة نأمل أن يتوصل المسيحيون والمسلمون إلى قضية مشتركة لحماية العدل الاجتماعي والقيم الأخلاقية ودعمها فضلاً عن السلام والحرية1. وفي حث واضح على العمل، واعتراف صريح بأخطاء الماضي، ودعوة إلى نبذ العداوة والبغضاء. يبين المرسوم مواضيع الاتفاق بين العقيدتين في أسلوب لا ينم على إضمار لنوايا عدائية يخفي وراءه إحساساً بالتفوق. وتمضي الوثيقة فتعلن باسم البشرية كافةً توكيداً ضمنياً لدعوى العالمية، التي تمثل بشكل حيوي أحد أبعاد كلا الدينين. واليوم –بعد مضي أكثر من ثلاثين عاماً على إعلان المرسوم –حان الوقت جهود العالمين الإسلامي والمسيحي، التي تستهدف الوصول إلى صياغة قضية مشتركة لتلك الدعوى، ولا سيما بعد أن اكتسحت الغرب منذ مرسوم 1965م موجة عارمة من الشعور المعادي للإسلام. تبدو آثارها المدمرة في الأفلام السينمائية والإذاعات المرئيـة وكتـب الثقافـة الشعبيـة. ووثقتهـا دراسات كتلك التي قام بها جاك شاهين وإدموند غريب2.وقاربت آثار هذا الشعور الذي تفاقم بفضل تعبيرات قادمة من قبيل " الإسلام والآخرون" و "الخطر الأخضر"3 قاربت آثاره حدودً الجنون من خشية الآخرين والإرتياب فيهم.

واستحوذ الخوف والمناخ العاطفي الذي صاحبته على النفوس ونجمت عن تياراته السلبية الصراعات الإسرائيلية الفلسطينية ثم أحداث مثل حظر البترول العربي سنة 1973م؛ بسبب الصراع المصري /السوري/الإسرائيلي في أكتوبر من نفس السنة ثم احتجاز الإيرانيين للرهائن وعدوان العراق والإرهاب . وعقلن هذه المخاوف وأضفى عليها طابعاً فكرياً ما ذهب إليه هنتنجتن Huntington عن صدام الحضارات المحتوم في بحثه الذي قدمه في عدد صيف 1993م من مجلة "الشؤون الخارجية" ثم في كتابه :"صدام الحضارات وإعادة هيكلية النظام الدولي" الصادر سنة 1996م4. ورغم اختلاف آراء المعلقين السبعة الذين كتبوا في عدد سبتمبر/ أكتوبر سنة 1993م من المجلة مع هذا المنظور فإن مفهوم "صدام الحضارات" زاد أوهام الخوف إلى حد جعل من المصطلح الجديد واحداً من المفردات السياسية العالمية،ولا سيما أن هذه المنظومة المستقبلية تنطوي على إيحاء بأن سلسلة المطامع الكونفوشية – ويُقصـد منهـاالصين-والإسلامية التي تتحدى مصالح الغرب وقيمه وقوته، وأنها قد تعتمد على الأسلحة النووية والكيماوية والبيولوجية لدفع هذه الطموحات قدماً، مما يضيف بعداً جديداً لهذا القلق.

العالم الإسلامي في عصر ما بعد الاستعمار:

من الواضح أن الأعوام منذ مرسوم 1965م تميزت بظاهرة استعادة الهوية الإسلامية؛ إذ آذنت نهاية عصر الإمبراطوريات بانطلاق قوى هائلة كان الاستعمار يقمعها ويكبتها، وكانت آثار هذا الانفجار عالمية المجال عميقة شريرة وطيبة معاً. ونادراً ما مر أسبوع منذ قيام دولة اسرائيل سنة 1948م دون أن يثير الإسلام انتباه العالم . وتتنوع هذه الأحداث بتنوع طبيعة الإنسان، ففيها الحرب والسلام، وفيها الحصار النفطي والحظر التجاري، وفيها تجميد رؤوس الأموال، وظاهرة تكون الدول وانحلالها والمجاعة والتخمة، وفيها الكوارث والإغاثة الإنسانية، والإرهاب واحتجاز الرهائن، والنزعات الحدودية، وتدمير المساجد، والعدوان والانفصال، وإنشاء دول جديدة .وشملت هذه الأحداث العالم كله، من فلسطين إلى كشمير، ومن الفلبين إلى الكويت، ومن قبرص إلى الشيشان، ومن بنغلادش إلى البوسنة ، ومن جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة إلى الغرب والصحراء، ومن تركيا إلى دار السلام عاصمة بروناي. وعلى هذا المسرح للدراما السياسية والدينية، قد تتخير الأزياء وخلفية خشبة المسرح من نمط الحياة الإباحي، مثلما كان في بيروت حتى سنة 1975م، إلى تزمت حركة طالبان الأفغانية، لكن حبكة المسرحية تحتفظ بسميتها الإسلامية . وظللنا نصف قرن غير قادرين على تفادي هذه الاضطرابات الدرامية المثيرة . فإذا غابت بعض الأحداث عن خشبة المسرح الإسلامي ، أوقفت مخطوطة المسرحية، فغالباً ما تكون كشمير وفلسطين تنتظران في الكواليس.

ولقد تبلورت الانطباعات السلبية عن الإسلام فيما عرف بالهلع المسرحي من الإسلام أو الإرهاب الإسلامي Islamopobia –وهو مصطلح شائع الاستعمال اليوم في أوروبة عامةً وفي فرنسا وبريطانيا خاصةً. أما في الولايات المتحدة –وبصورة أقل في أماكن أخرى –فإن هذا التيار ينحسر ببطء، لكن بدرجة محسوسة ويخلى مكانه لمصطلح خيرٍ منه، لعله يتضمن الأمل في تحقيق التفاهم العقائدي والتوافق لا الصراع. وفي الوقت نفسه،فإن عودة الروح إلى الهوية الإسلامية، وفي العالم الإسلامي لتبعث بصيصاً من الأمل في إحياء القيم الإسلامية وتألقها من جديد. تلك القيم التي حملتها باعتراف كل الحضارات دون استثناء. ولو تم ذلك لكان تحقيقاً منطقياً لعالمية الإسلام التي بشر بها القرآن الكريم . وقد وصف علي عزت بيجوفتش رئيس البوسنة والهرسك ذلك بدقة وتنبَّاه بقوله:"إن علاقة النسب بين الإسلام والمسيحية حريُ أن يوجه هذه العلاقة إلى أبعاد جديدة في عالم منقسم على نفسه. وهذا هو منحنى الطريق الثالث* أو الطريق الإسلامي5. وفي العالم غير الإسلامي، استعرض أمير ويلز في محاضرة أكسفورد التي ألقاها عام 1993م طائفة من إمكانات الوفاق البناء في ظل التعاون بين الإسلام والغرب، وأكد على أن الإسلام يمكن أن يعلمنا أسلوباً للعيش في العالم في جوٍ من التفاهم . الأمر الذي تفتقر إليه المسيحية نفسها. ثم أكدَّ على هذه الرؤية في تعليق متلفز سنة 1995م، عندما قال : إنه يفضل أن يغير لقب التاج البريطاني من حامي الدين ( المسيحي ) إلى حامي الأديان، وذكر الإسلام كأحد الأديان في بريطانيا. وقد أعيد طبع المحاضرة والتعليق الذي تلاها على نطاق واسع في العالم الإسلامي، حيث تلقاها المسلمون بحماس ملموس، في حين كانت الاستجابة لما جاء فيها أقل حرارة في بريطانيا، وهو أمر لا يثـير الدهشة .

وقد ازدهر الإسلام في بريطانيا على الرغم من بعض المخاوف والمحاذير، فقد ذكرت رابطة البحوث المسيحية وهي مؤسسة خيرية مقرها لندن –في تقرير لها أنه يتوقع سنة 2000م أن يصل عدد المصلين المسلمين في المساجد إلى 760 ألفاً، على حين يكون عدد الإنجيليين الذين يذهبون إلى الكنيسة إلى 756 ألفاً. وجاء في التقرير نفسه أن 32ألف مسلم انضموا إلى المصلين في المساجد في السنوات 92،93،94م، وهي السنوات نفسها التي نقص فيها عدد الإنجيليين الذين يذهبون إلى الكنيسة بمقدار أربعة عشر ألفاً سنوياً. وأصبح المسلمان اللورد نظير أحمد،واللورد وحيد علي من النبلاء في 20يونيه1998م، وأخذا مقعديهما في مجلس اللوردات6.ويوجد بالفعل مسلمان في مجلس العموم عن دائرتي جوقان بجلاسجو وبدفورد الوسطى. وقد تبدو هذه التعيينات والانتخابات غير ذات وزن إحصائياً؛ إذ كان في مجلس اللوردات 1160 عضواً في 3 أغسطس 1998م، وفي مجلس العموم 656 عضواً في نفس التاريخ، إلا أن تقليد اثنين من المسلمين رتبة النبالة يشير إلى الحنكة السياسية لحكومة "بلير" وقبول التاج يُعَدُّ اتساقاً مع تصريحات الأمير تشارلز عن الإسلام. وتشير عضوية مجلس العموم إلى زيادة النشاط السياسي للناخبين المسلمين بانتخاب مسلمين كممثلين لهم في المجلس، وهذا ينم على الاعتراف بقيم الإسلام، الذي سيحقق غاية مشتركة،كما عبَّر عن ذلك مرسوم سنة 1966م.

هوية سياسية عائدة:

إن العالم الإسلامي في عام 1419هـ اختلف كثيراً عما كان عليه منذ نصف قرن مضى، فهو يمر بحقبة قد تكون بداية فترة نهوض لفترة تدهور وهبوط، وإن الكثير من المؤشرات ينبئ عن عصر من التقدم والتميز، ومن علامات ذلك ما نلتمسه من زيادة متضاعفة في عدد الكتب والدوريات عن الإسلام،خلال ربع قرن مضى، واليوم تنشر مجلات أكاديمية كانت مكرسـة لموضوعات أكثر عمومية تحليلات عن الإسلام على نحو منتظم، فمثلاً من النادر أن يصدر أحد أعداد مجلة الشؤون الخارجية دون مقال أو أكثر عن موضوعات إسلامية، في حين كان المرء منذ عهد قريب يتحسر على كثرتها إلى حد التخمة. واليوم أضحت كل معاهد التعليم العالي تقريباً في الغرب تقدم مقررات تتصل بالإسلام، وقد شق الإسلام قنوات ذات باع في الحياة الفكرية الغربية رغم أنها لم تعمق بعد وتتوطد.

ولقد تحررت الشعوب الإسلامية من الاستعمار، غير أنها لم تزل خاضعة للتبعية الثقافية للغرب . وحققت قلة من الدول الإسلامية قدراً كبيراً من الثراء، ووزعت من ثروتها حصة لها وزنها، لتعزيز المصالح الإسلامية في أنحاء العالم. إلا أن الدول الفقيرة تتدمر بسبب ذلك. وتمثل الدول التسع والخمسون المسلمة قرابة ثلث أعضاء الأمم المتحدة الخمسة والثمانين ومائة. وينم انضمام فلسطين سنة 1998م-كعضو ليس له حق التصويت –على ثقة الدول الإسلامية بنفسها، كما ينم أيضاً على تنامي نفوذها . وقد كانت جهودها لحل مشكلة تفتيش مواقع الأسلحة الكيماوية في العراق سنة1996م دليلاً على ذلك النفوذ، وإن يكن بطيئاً ولا يزال هامشياً. وتبدو المواقف الروسية والصينية والفرنسية من الإسلام أكثر تعاطفاً؛ بسبب التنافس التجاري في جمهوريات آسيا الوسطى ، وبسبب الرؤية الأكثر تعاطفاً مع القضية العربية في فلسطين. وهناك مجموعة مؤثرة من المنظمات الدولية الإسلامية، إذا ما أخذت في إجمالها ، فإنها يمكن أن تتنافس مع الأمم المتحدة في نفوذها الدبلوماسي. يأتي على رأس تلك المنظمات منظمة المؤتمر الإسلامي ( م.م.أ ) بأعضائها الخمسة والخمسين، تضاف إليه خمس دول أخرى بدرجة عضو مراقـب7.وتنضـم الواحدة والعشرون دولة عربية في جامعة الدول العربية منذ سنة 1945م أما دول مجلس التعاون الخليجي الست فلها كيان إقليمي ناجح نجاحاً ملحوظاً كتب عنه العديد من البحوث التحليلية المترابطة . كما يقدم الاتحاد المغربي لشمال إفريقية والمجلس الاقتصادي الذي يضم ستاً من جمهوريات آسيا الوسطى المسلمة مثلين آخرين للتجمعات الإقليمية غير القومية. وحققت الأمة الإسلامية وجودها في المؤتمر الإسلامي، الذي يمثل العالم الإسلامي قاطبة هوية مؤسسية ذات نطاق جغرافي غير مسبوق . وعلى الرغم من عدم استقرار الأقلية بصورة مناسبة في مجتمعاتها غير الإسلامية،إلا أنها أصبحت قوى سياسية ذات تأثير. وإجمالاً يقترب الاعتراف السياسي بالمسلمين عالمياً، وفي الدول غير الإسلامية يقترب رونيرا من مستوى يتناسب ووزنهم ككتلة سكانية تمثل ربع سكان العالم.

ولقد تغيرت صورة الربط الدائم بين الإرهاب والنضالية الإسلامية المشروعة بشكل ملحوظ. ومن المعتاد الآن أن يغلق مسؤولو الحكومة الأمريكية ومتخدثوها الرسميون بل والإعلاميون تعليقاتهم بتوضيحات تدفع سوء الفهم من قبيل :"إن المجتمع الإسلامي عامةً محب للسلام وملتزم بالقانون ولا يمكن لومه بسبب جماعة صغيرة أو عصبة منشقة عنه، وإن الإسلام لا يقر الإرهاب ضد الأبرياء. ولا يعني هذا أن مثل هذه التوضيحات التي لم تكن لتسمع قبل خمس سنوات قد أزالت التفرقة ضد المسلمين في الولايات المتحدة ؛ إذ يقرر مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية أن حوادث التمييز ضد المسلمين زادت في العام الذي ينتهي بحلول إبريل 1998م بنسبة 60% لتصل إلى 248 حادثاً، في حين انخفضت حوادث التحرش والعنف في العام الماضي، أي في سنة 1997م إلى 36 حادثاً. وزاد مجمل الحوادث بنسبة 18% إلى 284 8. ورغم سلبية هذه الإحصاءات فإن التعليقات المعتدلة في وسائل الإعـلام تمثـل خطوات أولى نحو تفهم داخل الإسلام وإدراك حقيقة أن التعصب لا يمثله.

وينبأ تقرير الإدارة الأمريكية السنوي: أنماط الإرهاب العالمي -1997م عن نقيض من حوادث الإرهاب على الصعيد العالمي في السنوات من 1978م-1997م9، وعن أنها وصلت ذروتها في الفترة من 1985م- 1988م، حيث بلغت أكثر من 600 حادث سنوياً، على حين هبطت إلى أدناها في عامي 1996م و 1997م ( 304 حادث)، وارتكب أكبر عدد من الحوادث في الأعوام من 1992م إلى 1997م، منها 831 حادثاً في أوروبة تليها أمريكا اللاتينية ( 602 حادثاً ). وجاء الشرق الأوسط في المرتبة الثالثة (422 حادثاً)، وفي الأعوام نفسها بلغ عدد المصابين 7621 مصاباً في الحوادث الأوربية، و 2692 مصاباً في حوادث الشرق الأوسط. وينبغي ألا تؤخذ هذه الإحصاءات على أساس قيمتها الظاهرة، التي جرى تعديلها بسبب تورط مسلمين في حوادث جرت في أوربة. لأن التعديل على هذا الأساس لن يغير من حقيقة أن الإرهاب عالمي، وليس مقصوراً على المسلمين. فقد حددت وزارة الخارجية الأمريكية أسماء 34 جماعة إرهابية حتى 8 من أكتوبر 1997م أقل من نصفها ( 15جماعة ) تنتمي إلى الشرق الأوسط . وترتبط التسع عشرة الباقية بآسيا (9) وأوربة (6) وأمريكا اللاتينية (4). وتشمل الجماعات غير المسلمة كيانات، مثل الحقيقة السامية ( اليابان) وأيزو كادي نا اسكاتسوما ( الباسك بأسبانيا)، والجيش الجمهوري ( الإيرلندي )، وحركة كاهان تشاي ( إسرائيل )، والجيش الأحمر الياباني، وحركة السهم المضيئ الثورية (بيرو). أما انفجار القاعدة البحرية الأمريكية في بيروت الذي أسفر عن مصرع 201 أمريكي، وتفجير طائرة بان أمريكان فوق لوكربي باسكوتلندة، الذي قتل فيه 270، وتفجير القيادة العسكرية الأمريكية بالرياض عام 1996م، الذي قتل فيه خمسة أشخاص،وتفجير المجمع السكني العسكري قرب الظهـران سنـة 1996م الذي قتل فيه 19، فإن كل أولئك يضر بصورة المسلمين، وإن كانت هذه الحوادث قللّت من قيمة البيانات التي تدين الإرهاب على إطلاقه كتلك التي صدرت عن الجماعات المسلمة في أمريكا وأوربة وعن منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية ورابطة العالم الإسلامي ومجلس التعاون الخليجي وجامعة الأزهر وأن المسلمين لا علاقة لهم بأحداث ابن لادن.

إن عاموس يرلماتره، ويوسف بوانسكي ، وستفن إميرسن من أعلى الأصوات تحذيراً من الفوضى العالمية التي يثيرها الإرهاب، وقد يجدون في مثل هذه الأحداث ما يؤيد تشاؤمهم، إلا أن وجود منظور شامل لها أمر جوهري10. فاستخدام جماعة الحقيقة السامية البوذية الغاز السام، والتفجير الذي قام به مسيحي أمريكي في مدينة أوكلاهوما، وإرهاب الإيرلنديين الشماليين الكاثوليك الطويل الأمد، وعنف الهندوس والبوذيين في بورما ضد المسلمين والتطهير العرقي الخبيث الذي مارسه الصرب الأرثوذكس في البوسنة و كوسوفا، والعنف الذي تمارسه الغوغاء الكاثوليك ذوو العلاقة بتجارة المخدرات في أمريكا اللاتينية، وإرهاب الهندوس ضد الحكومة السنهالية البوذية في سريلانكا، كل أولئك يؤكد بوضوح على عالمية الإرهاب، وتنوع خلفياته الثقافية والدينية . فإذا كان ثمة إقرار بهذه العالمية، فإنه لا ينظر إلى الإرهاب على أنه إسلامي فقط.

إن بعث الهوية الإسلامية ليبدو واضحاً ملموساً في كل أرجاء العالم . فقد بني الكثير من المراكز الإسلامية في بيئات إسلامية أو غير إسلامية، ومولت العربية السعودية 210 عشرة ومئتي مركز من هذه المراكز في مدن، مثل أدنبرة ولندن ولوس أنجلس وروما وليون ومدريد وفي الولايات المتحدة، وتدل المجلات على أن أول جماعة من المصلين تكونت في روس بولاية نورث داكوتا سنة 1900م،وبنت مسجداً سنة 1929م، وأصبح فيها –أي في الولايات المتحدة –قرابة 700 مسجدٍ لا يزال أقدامها وهو المسجد الجامع الذي بني سنة 1934م مفتوحاً إلى اليوم، وتم تجديده وإعادة فتحه سنة 1991م. وبني في المدينة نفسها مسجد جديد بمساعدة مالية من الكويت والسعودية سنة 1971م، وتأسست جامعات إسلامية من مثل بنجلادش والنيجر وأوغندا، وقواضير مثل كوالالمبور وإسلام آباد وباريس . ويجري التخطيط لمجمع مبان جديد للمركز الإسلامي في جامعة أكسفورد. ويقوم معهد العلوم العربية والإسلامية في فيرفاكس بولاية فيرجينيا بالتدريس والتعليم وببحوث مهمة . فضلاً عن الأكاديمية الإسلامية السعودية في المنطقة نفسها. أما جامعات السعودية الثمان، ومن بينها ثالث جامعات إسلامية، هي جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة فإنها تجتذب طلاباً من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية ؛ لنيل درجات علمية عالية. وتطبع ترجمات معاني القرآن الكريم بعشرات اللغات من بينها الزولو ويعد مجمع فهد في المدينة المنورة أكبر وأحدث دار طباعة في العالم ،ويوزع منها ما يزيد على 10 ملايين نسخة في العالم. ويدرس الإسلام في بعض المدارس في جهات من ألمانيا وإنجلترا، ويتجلى المزيد من الحضور الإسلامي في الولايات المتحدة، في إلحاق الأئمة بالخدمة العسكرية كوعاظ والاحتفال بالعيدين في البيت الأبيض. وقد مولت السعودية أغلب هذه المشروعات فضلاً عن الدعم المتواصل للأماكن المقدسة لظهور آثار الحج التي تعكس التضامن بين المسلمين.

نظرة مسيحية جديدة إلى الإسلام:

إن المكانة السياسية المتصاعدة للإسلام على الصعيد العالمي تضاف إليها اليوم تطورات في الشؤون الدينية التي إن لم تكن أثراً لمرسوم عام 1965م، فإنها تنسجم مع فحواه ومراميه. وكان تغير المواقف بالغاً إلى درجة أنه لو قدر لدانتي أن يكتب الكوميديا الإلهية سنة 1999م بدلاً من 1300م لوضع محمداً في الفردوس وليس في جهنم. ولقد عدل التيار الأساسي في المسيحية استراتيجيته التبشيرية ورؤاه الاقصائية الماضية للأديان الأخـرى، ومـع ذلك لا تزال البروتستنتية الإنجيلية تحتفظ بالكثير من حماسها واندفاعها المسيحي، كما لم يضعف حماس الإسلام لهداية الآخرين، بل أنعشه السخاء السعودي بصورة أقل جدارة باحترام الجماعات المتعصبة، التي ترى في الولايات المتحدة الشيطان الأكبر.

ولقد أعلن البابا بول السادس الرؤية الجديدة للعالم الإسلامي في خطاب بابوي بعنوان"كنيسته"-أي كنيسة السيد المسيح- قال فيه:"من الصواب" ( أن تعجب بأولئك الناس-يعني المسلمين – لكل ما هو طيب وحق" "في عبادتهم لله (جل في علاه)". ولقد تأكد هذا الموقف في الخطاب البابوي الذي صدر بعد ذلك بشهرين سنة 1964م بعنوان "نور لكل الأمم"، الذي جاء فيه أن "مبدأ الخلاص يشمل أيضاً أولئك الذين يُقرُّون " " بوجودالخالق وفي مقدمتهم المسلمون".

وقد أسس مرسوم عام 1965م-الذي أوردنا منه جملة واحدة في بداية هذا البحث تؤكد على وضوح هذه العلاقة حيث جاء فيه: "تنظر الكنيسة أيضاً إلى المسلمين بعين التقدير، فهو يعبدون إلهاً" "واحداً حياً أبدياً، هو الرحيم القوي خالق السموات والأرض، منزل الوحي" "على الإنسان، يجاهد الناس أنفسهم للخضوع بإخلاص لأحكامه"، "حتى تلك التي تبدو لهم غامضة، كما فعل إبراهيم عليه السلام الذي ترتبط به" "عقيدة الإسلام. وعلى الرغم من أن المسلمين يقرون بالمسيح-عليه السلام-رسولاً معجزة من أم لها سورةُ في القرآن: سورة مريم ولا يقولون : إن المسيح إله، أو ابن الإله فإنه ما حدث من"عداءات ومنازعات بين المسيحيين والمسلمين في القرون الماضية، إلا أن هذا المجتمع المقدس " "يحث الجميع على نسيان الماضي والمجاهدة بإخلاص للوصول إلى فهم" "متبادل. وبالنيابة عن البشرية كافة ندعوهم مسيحيين ومسلمين " " إلى التكاليف لحماية وتعزيز العدل الاجتماعي والقيم الأخلاقية" " والسلام والحرية"، لأن الدينين يجلان الحياة الأخلاقية.

وهذا الكلام يحدد بوضوح نقاط التطابق في الدينين، ويبين في الجملتين الأخيرتين الاتجاه العام في المستقبل وهو –كما جاء في بداية البحث –الحض على العمل . وقد تعززت هذه الرؤى بالاتجاه الجديد إزاء الجهود التبشيرية، المعلن في ورقتين:"إلى كل الأمم" سنة 1965م و "التنصير في العالم الحديث" في سنة 1975م. وفي "رسالة المخلص" سنة 1990م دعوة إلى الحوار بين الأديان، وإلى تصور جديد لمصطلحات "الثقافات المتلقية" الذي كثيراً ما يستخدم للتعبير عنه مصطلح"التثقيف". هذا المصطلح إحياء واضح لمفهوم الهمجية والوثنية. ولقد لخص جون بول الثاني هذا الموقف الجديد في كتابه الصادر سنة 1994م:"اجتياز عتبة الأمل "11، حيث أكد على ورع المسلمين وتفاهمهم و إخلاصهم في أداء الصلاة، مع الاعتراف بأن كلاً من لاهوت الإسلام وأنثروبولوجيته* أبعد ما يكونان عن المسيحية. وقد بذلت الجهود لإبقاء روح مرسوم سنة 1965م ومن ذلك إنشاء بول السادس سنة 1964م سكرتارية للعلاقات مع غير المسيحيين كهيئة بابوية.

ولقد أنشئت في سنة 1974م لجنتان: لجنة لليهودية، وأخرى للإسلام ضمن كيان واحد يطلق عليه الآن " المجلس البابوي للحوار بين الأديان". والرئيس الحالي لكل من المجلس البابوي ، ولجنة العلاقات الدينية مع المسلمين هو الكاردينال فرانسيس إرنز رئيس أساقفتهم، أو ينشأ بنيجيريا سابقاً. وتؤكد أهمية مرتبة رئيس السكرتارية البابوية وتعيينهم رئيساً للجنة الإسلام الأهمية التي توليها الكنيسة للشؤون الإسلامية، والمعادل لهذه السكرتارية في الولايات المتحدة الأمريكية هو سكرتارية الشؤون المسكونية وشؤون الأديان في المؤتمر القومي للأساقفة الكاثوليك.

ولقد كان للرؤية الجديدة التي عكسها مرسوم سنة 1965م صداها في التيار العام البروتستنتي، كما يتضح في بيان السياسة الذي أقره المجلس الوطني للكنائس سنة 1980م. وتمثل الأصولية الإنجيلية البروتستنتية استثناءً من ذلك بإصرارها على عظمة الكتاب المقدس ومجيء العصر الألفي السعيد. ويعتنق الإنجيليون الذين يظهرون على شاشات التلفيزيون مثل جري فايول وبات روبرتسن وو.أ. كرزول وجمي سواجرت يعتنقون هذه المفاهيم، ويؤمنون أن المجيء الثاني للعرب خاصةً وللمسلمين عامةً. ويجعلهم يزدرون الإسلام كدين. ويشرح كتاب جريس هايسل" النبوة والسياسة" الصادر في 1986م بتفصيل أخاذ هزة الظاهرة الغربية المسترعية للانتباه12. ومن منظور القرآن الكريم، فإن المسيحية تتناغم مع الرؤية الإسلامية للعالم. ويخص المسيحيون اليهود والزرادشتيون بوضع يناسبهم كأهل كتاب أو ذميين . وتحمي قوانين الشريعة المحكمة والمفصلة غير المسلمين الذين يعيشون في أقطار إسلامية. ولكن نال من ها الاتساق بدرجة كبيرة التنافس بين الإسلام والمسيحية على الهيمنة العالمية والذي تمثل في صورة مصغرة في الحروب الصليبية، وأسهمت حركات التحرر من الاستعمار بالثورات غالباً- والتي بدأت 1947م أسهمت في البعد عن تعاليم القرآن بقدر إسهام تسوية المسيحية بالاستعمار.

ومنذ وقت قريب تنامى الخلاف بين الإسلام والمسيحية؛ بسبب قيام دولة إسرائيل، ومساعدة الغرب لها مساعدة غير مشروطة، تتزعمها الولايات المتحدة. وعلى قدر ما قرنت المسيحية في مناسبات متعددة بالاستعمار كان عنف الحركات المضادة للاستعمار تلك التي بدأت سنة 1947م، ومنها ما وصل إلى حد الثورة. وكان لهذا أثره في الخروج عن تعاليم القرآن. ورغم هذه التوترات بن الديان، فإن ثمة دلائل على التوافق والتعاون تتبع من الجانب المسلم. والأردن مثال بارز معاصر للتعايش الإسلامـي المسيحـي السلمي، فالمسيحيون يمثلون 3% من السكان، والمسلمون كلهم تقريباً من السنة. ويظهر المثال الأردني أن الحماس للتفاهم بين الأديان يمكن أن يصدر الفعل عن الجانب الإسلامي. وقد استمر المعهد الملكي لدراسات الأديان الذي أنشأه الأمير الحسن سنة 1994م راعياً للمؤتمرات والإصدارات بما في ذلك كتابه "المسيحية في العالم العربي"13.

وكانت الاتصالات الأردنية مع الكاثوليكية –خاصةً- مثمرة. فقد زار الملك الحسن الثاني الفاتيكان سبع زيارات، وزار البابا بول السابع الأردن سنة 1956م، واستمرت العلاقات الكاثوليكية مع المغرب ودية على نحو مشابه، فقد وصف جون بول الثاني زيارته البابوية للمغرب سنة 1985م تلبية لدعوة من الملك السنت الثاني بأنها ليست مجرد زيارة مجاملة، بل" إنها حدث ذو طابع رعوي بحق، إنها حدث غير مسبوق بالتأكيد". وثمة شواهد على التفاهم المتبادل بين الأديان في الإمارات المتحدة. فالعالم المصري والمستشار الثقافي لأمير دولة الإمارات الشيخ زايد، د.عز الدين إبراهيم يهتم منذ فترة طويل بهذا الموضوع وحاضر وكتب عنه14.

إن تجمع المسيحيين –مساوٍ تقريباً لعدد المسلمين- يوجد في لبنان. وقد تبدو هذه الإشارة العابرة للوضع اللبناني المعقد على نحو مثبط مناسبة في هذا السياق. ففي سنة 1954م كان المسيحيون وأغلبهم من المارونيين يشكلون 54% من السكان تقريباً. غير أن الهجرة وعدد مواليد المسلمين العالي، والحرب الأهلية سنة 1975م- 1976م، والغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1978م، ثم سنة 1982، كل ذلك قلَّص من هذه النسبة. ولم يجر أي تعداد سكاني منذ سنة 1932م. إلا أن بعض التقديرات الأولية للمختصين في دراسة السكان تقلل نسبة المسيحية إلى نحو الثلث. واستمرت الجماعات الخمس الرئيسية وهي : الموارنة والمسيحيون واليونانيـون والسنـة والشيعـةوالدروز بقرون طويلة منقسمة داخلياً إلى سبع عشرة جماعة عرقية دينية فرعية. ويعود التفكك الدائم للنظام اللبناني الطائفي بصيغته المعقدة للتمثيل في الحكومة إلى الانقسامات داخل الجماعات الطائفية، بقدر ما يرجع إلى الخلاف الإسلامي المسيحي. فبتحرير لبنان من الاستعمار العثماني، ثم لاحقاً من حكم الانتداب الفرنسي سنة 19432م، أصبح له كيان مستقل مضطرب. ولايمكن استنتاج نتيجة محددة حاسمة عن حالة التوافق الإسلامي المسيحي المتذبذبة، فقد شوَّه الصراع بين الطوائف داخل كل جماعة رئيسية، وقام دولة إسرائيل سنة 1948 م النظام السياسي في لبنان. ورغم ذلك تعايش الإسلام والمسيحية معاً، ولولا التدخل الخارجي، لاتسعت آفاق توافقهما.

وتطبق غالبية الدول الإسلامية الأخرى القاعدة القرآنية لمعاملة أهل الكتاب مع بعض التجاوزات أحياناً. يستثنى من ذلك السودان وإندونيسيا والجزائر ونيجيرنا، حيث لم ترد التقارير عن ممارسة الإرهاب ضد المسيحيين إلاَّ مؤخراً. وقد جعل تصاعد ظاهرة الأسلمة في هذه الأقطار وغيرها، مثل باكستان وإيران وأفغانستان التي يسيطر عليها طالبان، جعل الأقليات المسيحية تشعر، مؤخراً بأنها أقل أمناً عما كانت عليه من قبل. واُر فرض النصوص القانونية الإسلامية كالعقوبات على جرائم الحدود والقيود على زي وعمل المرأة وتعليمها على الممارسات الاجتماعية للمسيحية رغم أنها ليست موجهة ضد المعتقدات الدينية المسيحية. ويرمز افتتاح أكبر مسجد في أوربة في مدينة روما في ظلال الفاتيكان بتمويل سعودي سنة 1995م لهذه العلاقة الجديدة. وكان التقاء البابا بالأمير سلطان النائب الثاني لرئيس وزراء العربية السعودية في روما في 12/9/1997م حدثاً له دلالته الرمزية. وكانت هذه أول مرة يجتمع فيها فرد رفيع المقام من العائلة المالكة السعودية برأس الكنيسة الرومانية.

ويعد هذا تحقيقاً للرغبة التي طالما عبر عنها الملك فيصل بإقامة علاقات ودية وحوار مع المسيحيين، ولا تستبعد السياسة الإسلامية المعاصرة فير المسلمين من مناصب الحكومة المهمة ففي باكستان استمر ر.كوميليوس وهـو من الروم الكاثوليك عضواً بالمحكمة العليا مدة سبعة عشر عاماً. قضى ثمانية منها رئيساً للمحكمة، وعمل كامل س. أبو جابر عضو مجلس الأعيان الأردني وزيراً للخارجية، وعين ميشيل مارتو، وهو مسيحي أيضاً، وزيراً للمالية في أغسطس سنة 1998م، ويشغل طارق عزيز وهو مسيحي كلداني منصب نائب رئيس الوزراء في العراق. واستمر ليوبولد سنجور- من الروم الكاثوليك- رئيساً للسنغال لعقدين من الزمان. وكان بطرس بطرس غالب نائباً لرئيس الوزراء في صر وهذه هي الأمثلة البارزة من بين الكثير. وهناك مجموعة ضخمة من تقارير المؤتمرات والدراسات عن العلاقات الإسلامية المسيحية، على الرغم من أن ظلال التوتر المستعصي على العلاج قد نالت منها.وفي هذا المقام ، فإنه ليس من الحكمة تجاوز ثلاثة تطورات مؤسسية واعدة:

1-"مركز دراسة الإسلام والعلاقات المسيحية" في كلية رسلي أوك في برمنغهام بإنجلترا.

2-"مركز التفاهم الإسلامي المسيحي" في جامعة جورج تاون ويشترك هذان المعهدان في إصدار مجلة باسم: "الإسلام والعلاقات الإسلامية المسيحية".

3-ويصدر معهد الفاتيكان الباباوي للدراسات العربية كتاباً سنوياً باسم : "الإسلام والمسيحية" عد مصدراً بحثياً مرموقاً في هذا المجال.

وليست هذه سوى أمثلة من مجموعة أوسع من المشروعات المماثلة. إن دلالة التغير الموقفي الذي تنبئ عنه هذه التطورات لمذهلة حقاً، فهي تمثل نقيضاً لميراث فكري تأصل في الغرب أكثر من ألف سنة، ويقدم ها الاتجاه الجديد الأساس الفلسفي، والمناخ العاطفي، المشجع لقيام شراكة جديدة بين الإسلام والغرب ضد انحطاط الحضارة.

المشتركات العدقية: أساس العمل المشترك:

إن تغير المواقف يحد المجالين السياسي والكنسي، وهو مطلب جوهري للتعاون أو الوصول إلى قصية مشتركة، ويتعذر تحقيق ذلـك دون عمـق في المشترك المعرفي، وقد أشير إلى ذلك آنفاً باقتباس فقرة من رسوم 1965م، ويمكن القيام بعرض موجز لنقاط الالتقاء بين الإسلام والمسيحية من خلا مثلين مثيرين متباعدين تماما، وساء في الزمان او المناخ الثقافي. أولهما التجربة التي مر بها مونكورد كونواي وهو قس أمريكي من طائفة الموحدين كما قصها في كتابه "حجي إلى حكماء الشرق" المنشور سنة 1906م15، ففي سنة 1905م التقى كونواي في كالكتا بجماعة من البراهمة والمسلمين والزَّرادشت لمناقشة موضوعات دينية وفلسفية. وسألأه أحد البراهمة عن رأيه في الولادة المعجزة للمسيح عليه السلام فرد كونواي بقوله: إنه ينظر إليها كأسطورة ولادة عذراء لإله النهر (هوفلي): قصة ذات أهمية أسطورة وشعرية، لكن لا ينظر إليها كقصة تاريخية. وقال البراهمي إن هذا هو رأيه أيضاً في كلا الحدثين، واستمر كونواي في قصته: "أما المسلمون الذين كان اثنا عشر منهم من ذوي المكانة الرفيعة في الحجرة فلم يقولوا شيئاً، وانبرت ملاحظتي بأنني أود سماع رأيهم، وعندئذ قارب المسلمين رؤوسهم المعممة، وأخذوا يتحادثون في مشاورة خاصة، ثم قام أحدهم وقال: إنهم جميعاً يشعرون بالالتزام بقبول القصة كما هي بالبط في "العهد الجديد". وخلص كونواي من ذاك إلى أن المسلمين كانوا المسيحيين الأرثوذكس* "الوحيدين الحاضرين" وفي كولمبو بسريلانكا، وجد كونواي الرؤية نفسها "الذين يؤمنون حرفياً بكل المعجزات المنسوبة للمسيح عليه السلام" ، ولمولده في الأناجيل، ومن النادر جداً أن يوجد بينهم شاك في هذا".

المثال الآخر حدث معاصرٌ في إنجلترا أوردته التقارير سنة 1993م، حيث قدمت سلسلة حلقات تلفزيونية عنوانها العـام " صـورة مقززة "، قدمـت في إحدى حلقاتها دمية للمسيح عليه السلام على شكل هيبي Hippie (خنفس)16، فاحتجت إحدى الروابط الإسلامية في بريطانيا، موضحة أن المسلمين يجلّون المسيح –عليه السلام- كل الإجلال، وأنه يجب عقاب المسؤولين عن اللقات التلفزيونية بصرامة. وبعد سحب الدمية قال المنتج إنه ناقش المسألة قبل إنتاج البرنامج مع قادة كنيسة إنجلترا الذين نظروا إلى الدمية الساخرة على أنها عمل "بريء"، وخلصت الرابطة الإسلامية إلى أن الريادة التي يقدمها المسلمون البريطانيون ينبغي أن تشد من أزر الأكليروس (رجال الدين) الإنجيليين في الاحتجاج على العيب "المسيحي".

وتشير هاتان المناسبتان إلى وجود العديد من نقاط التلاقي الإسلامي المسيحي، وتوحي تجربة كونواي بقوة بانطباعين: أولهما العصمة المطلقة للقرآن الكريم الذي انزله الله تعالى على محمد صلى الله عليه وسلم وحياً مباشراً على لسان رئيس الملائكة جبريل عليه السلام. ويشبه المسلمون في هذا الصدد المسيحيين الأوليين، الذين يمثل الإنجيل عندهم كلمة الله جل جلاله الموحاة التي يجب الإيمان بها حرفياً، ويؤمن المسلمون ببشارة جبريل عليه السلام للعذراء مريم بمولد المسح عليه السلام. وقد وصف القرآن الكريم ذلك في بيان بالغ في سورة آل عمران :الآيات 42-52، وسورة مريم: الآيات 16-36. وهذا يفسر سخرية كونواي من المسيحيين في قوله إن المسلمين أكثر تمسكاً بالمسيحية منهم. وقد أولى ديفد جنكنز أسقف درم الإنجيلي، وسبونج أسقف نيو أرك البروتستنتي- وكلاهما الآن متقاعدان- والعديدون غيرهم أولوا اهتماماً واسعاً بالرأس المتعاظم في المسيحية الذي يدعو إلى نبذ الالتزام الحرفي بالإنجيل لصالح التفسير المجازي،مما يضفي على ملاحظات كونواي القائل بإله واحد طابع النبوءة. ويجد بعض المسلمين غرابة بالغة في تراجع الالتزام الحرفي بالكتاب القدس، ليصبح الإسلام بذلك الملاذ الوحيد للعديد من العقائد المسيحية.

وتصور مشكلة الدمية المطاطية بوضوح الاحترام الذي يكنه المسلمون للمسيح- عليه السلام- كرسول. وفي الحقيقة يولي المسلمون كل أنبياء العهد القديم من إبراهيم عليه السلام إلى المسيح عليه السلام كل الاحترام، ولا يبخس مسام حقهم، وتظهر قصة الدمية المطاطية أن تجربة كونواي تعيش منذ سنة 1904م، وهي تتجلى من أشكال مختلفة كتجديف سلمان رشدي في "الآيات الشيطانية" التي أدانها العالم الإسلامي كله، وأدت بإيران إلى الدعوة لقتل سلمان رشدي17. وثمة نظائر أخرى وقصة الدمية، فقد أكد المستشرق الفرنسي الذائع الصيت لوي ماسينيون الذي يعتقد أنه أثر بقوة على آراء بول السادس وإعلان سنة 1965م، فقد أكد على السيدة مريم-عليها السلام- ونقطة التقاء حيوية بين الإسلام والكاثوليكية، ويشير جيمس بل، وجون ألدن إلى أن الاحترام الذي يوليه المسلمون للسيدة فاطمة –رضي الله عنها ابنة النبي صلى الله عليه وسلم شبيه برؤية المسيحية للسيدة مريم عليها السلام18.

إن تراث الصوفية من التبصر الروحي لعنصر مهم في تحليل ما سينيون، الذي تخصص في أعمال المتصوف الكبير الحلاج، وهو أيضاً بؤرة الاهتمام في أعمال هنري كوربن الباحث الفرنسي في التراث الشيعي،19الذي يجيز طلب الشفاعة. ويمثل النظام الهرمي لطبقة رجال الدين وسلطتهم في الأمور الزمنية والروحية معاً، ومثل احتفالات شهر المحرم، باستشهاد الإمام علي رضي الله عنه، ومشاهد التعزية المؤثرة، وجلد المحتفلين أنفسهم بالسياط. أما المجتمعـات السنية فإنها لا توافق الشيعة في هذه الظواهر العقدية ولا تشاركها، غير أن هذه الممارسات ظواهر مهمة في المذهب الشيعي. أما مسينيون فقد هجر المسيحية سنوات متعددة في آخر المطاف وصار قساً على المذهب الملكاني في الكنيسة الكاثوليكية اليونانية، وكتب عن ذلك يقول: "في سنة 1908م أصبحت متأسلماً داخلياً، ثم تحولت إلى المسيحية في حضرة الرب- كما عرفته في الدين الإسلامي20-. ففي احتفائه بثراء الإسلام اكتشف ماسينيون كاثوليكية من جديد، وكان في ذلك يؤكد على تلاقي المبادئ الإسلامية والمسيحية الأساسية، ورغم ذلك لا يمكن أن تخفى أوجه التشابه الاختلافات العقدية التي درسها علماء اللاهوت قروناً طويلة.

في كل حال، فإن إيمان المسلمين بوحدانية الله جل جلاله يمنحهم القوة، بحيث أنهم حذرون أيَّ فكر يوهن من هذا التوحيد الراسخ، لذا كان محور الخلاف بين الإسلام والمسيحية هو تباين مفهوميهما للمسيح عليه السلام الذي نظر المسلمون إليه كرسول، وليس كإله، أو ابن الإله. ولا يقرون مبدأ التثليث الذي ينظرون إليه على أنه يضعف من التوحيد المطلق. وإنكار المسلمين للتثليث صارم راسخ، حتى إن كثيراً من المسلمين يتساءلون عما إذا كانت المسيحية ديانة توحيدية أصلاً، وينبذ المسلمون كذلك "مأساة الفداء" وينكرون صلب المسح عليه السلام بل يقولون إنه حيّ وهو في السماء الثانية، وسوف ينزل في آخر الزمان، كما لا يقرون مبدأ الرهبنة والتبتل، حتى مع وجود بع الخلوات عند المتصوفة.

وليس في الإسلام السني أية شعائر، غير الصلوات المفروضة، والزكاة، وصوم رمضان، وأداء شعائر الحج. ويستمد المسلمون معرفتهم عن المسيحية من منظور مصدري الشريعة اللذين يعتبران الإسلام ينتظم المسيحية واليهودية، ويتممهما، ويخلص الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية من التحريفات، وعليه فإن الإسلام-وهو المرحلـة الخاتمة في تطور التوحيد الإبراهيمي –يؤكد حقيقة سلفية، ويدحض عنهما الباطل، وينهي النبوات بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. وإنه لتبدو في ظل هذا المنظور استحالة قيام حوار ذي معنى بين الأديان من ناحية، ولكن من ناحية أخرى قد تقود المشتركات إذا ما فصلت عن القضايا السياسية المتداخلة، كالنزاع الإسرائيلي الفلسطيني إلى التعاون، وإن كان محتملاً أن تتعرض روح التعاون بين الأديان للخطر من جراء التنافس على هداية الآخرين. فالإسلام والمسيحية، من بين أديان العالم، يتسمان بدوافع دينية نحو عولمة مجالهما الديني، وقد ظل ذك مصدراً للصراع عبر القرون، دون أن يتخلى أي من الدينين عن دعواه التبشيرية، حتى عندما يظهر الدينان احتراماً عظيماًُ متبادلاً، لأن كليهما يمضيان في جهودهما التبشيرية بنشاط أكبر. وقد أوضح كل من "التبشير في العالم" و"رسالة الخلاص" أن على الكنيسة أن تستمر "في النضال من أجل روح العالم"، وأنه يجب ألا ينتقص التبشير الجديد من محورة التثقيف، الذي يحقق التكيف مع الثقافات والأديان المحلية الأصلي، هذا في الوقت الذي استمر فيه الانتشار العالمي الإسلامي بمعدل عالٍ؛ نتيجة ارتفاع عدل المواليد، والحماس التبشيري المتزايد. وق واجه جون بول الثاني في "اجتياز عقبة الأمل" التقدير المستقبلي لأنه بحلول سنة 2000م سيفوق عدد المسلمين عدد الكاثوليك لأول مرة في التاريخ.

القانون الطبيعي ركيزة التفاهم:

وتتضاءل دلالات التشابه والاختلاف التي وصفناها أمام أهمية هذا المبدأ الجوهري، الذي ينبغي أن يكون مرتكز العمل في أية قضية مشتركة، فالقانون الطبيعي هو-بدون شك- مجال مشترك بين الإسلام والمسيحية ، رغم أن أصوله وتعريفه ما تزال قضية جدلية في الغرب21، فبعد استمرار الجـدل بـدأ مـع توماس الأكويني Thomas Aquinas وجون كالفن John Calvin وهو جو جيروتيس* Hugo Grotius وغيرهم إلى يومنا هذا ومحور الجدل هنا هو: هل القانون الطبيعي ككيان من القواعد الأخلاقية الملزمة مستمر من مصدر علوي، أم من أنماط السلوك الشائعة، التي ت إقرارها من خلال التجربة على أنها قواعد واجبة، فإذا كانت أنماط السلوك هي المصدر، فإن مثل هذا القانون الأخلاقي، أو نمط السلوك مستقل ذاتياً، ولا يستمد صلاحيته من مصدر سماوي.

وقد حدد توماس الأكويني في كتبه ملامح معينة للقانون الطبيعي، ظلت محورية في الفكر الكاثوليكي. ويتصور جيورجيو دل فتشيو Giorgo del vecchio-أحد فلاسفة القانون الطبيعي الإيطاليين البارزين- هذا القانون كمنظومة من الحقائق العليا التي تقوم على عناصر عامة في طبيعة الإنسان. في حين ابتعد مؤيدون آخرون-ولاسيما فيكتور كاثرين Victor Cathrein –عن الأصل ما وراء الطبيعي للقانون، واختاروا الأخذ بالأصول الدينية له ومن ثمَّ، فإن المصدر الأول هو الله جل جلاله، ويجب أن تتوافق قوانين البشر مع الأقل الذي أنعم به تعالى شأنه وكماله وأن لا تتجاوزه بحال ويصنف عالم الأحياء ادوارد ويلسن Edward Wilson هذه الرؤى مابين رؤى ما وراء الطبيعة والرؤية التجريبية22. ويقول عن الرؤية الأولى إنها تستند إلى قانون سامٍ، إلهياً كان، أو متأصلاً في عظام الطبيعة. ومن الحكمة أن نعلمه ، وأن نجد الوسائل للتوافق معه ويصف المذهب التجريبي قائلاً:

"تجعل المشاعر الفطرية القوية والخبرات التاريخية تصرفات معينة" "مفضلة ومرغوبة، فقد جربناها ووزانا بين نتائجها، ووافقتا على " "العمل وفق القواعد التي تعبر عنها".

إن مسألة أصول فكرة الأخلاقية البشرية قضية فلسفية لاهواتي جوهرية في عصرنا,. سيكون لحلها أثر عميق على الحرية الإنسانية. وقد عبر ولسن عن ذلك بأسلوب شائق قائلاً: "إن الاختبار بين الرؤى المتباينة في هذه القضية سيكون طابع النضال من أجل روح الإنسان في القرن القادم، فإما أن يبقى المنطق الأخلاقي متمحوراً حول مصطلحات اللاهوت والفلسفة كما هو الآن، وإما أن يتجه صوب تحليل مادي، يقوم على العلم. وعلى كل حال فسوف يتقرر الأمر بنا على أن رؤية من هذه الرؤى، ستثبت صحتها للإنسان، أو على الأقل ندرك على نطاق أوسع من غيرها على أنها صحيحة" وقد وقف ولسن موقفاً قوياً في الدفاع عن الرؤية التجريبية، ونقلها إلى آفاق جديدة، وأنكر النظرة التجريبية لمبادئ الأخلاق- أي القانون الطبيعي- وذهب إلى أن هذه المبادئ ستتبع نسقاً أخلاقياً تطوري يقوم على علم الأحياء ولاسيما ما جاء فيه عن فاعلية الجينات. وتتناقض هذه النظرة مع مبدأ ثبات قوانين الوجود وهي السمة المركزية في كلتي العقيدتين الإسلامية والكاثوليكية. وتعلي من أهمية نسبية الأخلاق بالإشارة إلى ثبات أثر الجينات التطور البيولوجي في آن واحد.

إن العقيدة الكاثوليكية المستمدة من استدلالات توماس الأكويني ذات جذور عميقة في نظرية الأصل الغيبي للقانون الطبيعي، وهذا القانون هو هبة من الله جل جلاله23. ويميز توماس الأكويني بين أربعة أنماط من القانون : القانون السرمدي، والقانون القدسي، والقانون الطبيعي، والقانون البشري.

ويشرح الباحث اليسوعي ر.ج هند العلاقات فيما بين هذه القوانين فيقول: إن القانون السرمندي لا يعلمه إلا الله جل جلاله وحده، وهو شامل للكون The Universe أما القانون القدسي فهو القانون الموحى به في الإنجيل، وهو أساس استدلال الإنسان على القانون الطبيعية في حدود قدراته العقلية (النظرية) والعملية، التي هي أداة إدراكه للقانون القدسي الأبدي. أما القانون البشري فهو من صنع الإنسان، وهو تشريعات ونظم، يضعها الإنسان في حدود إدراكه لدلالات القانون السرمدي والقانون القدسي. ويبين كتاب : "الكنيسة الكاثوليكية في سؤال وجواب" أن القانون الطبيعي المبني على التجريب يسمح بالاستدلال على أساس خبرات الإنسان. والقانون الطبيعي مكتوب، بل محفور في أعماق كل إنسان؛ لأنه العقل الذي يأمره بعمل الخير ، ويمنعه من اقتراف الخطيئة، لكن هذا الذي يأمر به العقل لا تكون له قوة القانون إذا لم يكن صابراً من أجل التعبير عن إرادة عقل أسى منه تخضع له النفس والعقل، أرادت أم أبت24. والقانون الطبيعي غير قابل للتبديل، دائم "عبر متغايرات التاريخ" وقد جاءت صيغته الأولى في "الوصايا العشر"، وجاء كذلك في العهد القديم The Old Testament الذي لم يكن الكلمة الأخيرة، بل كان بمثابة إعداد "للإنجيل" أو "القانون الجديد" الذي يكمل ويصقل ويتجاوز القانون القديم، ويقوده إلى كماله. وليس ثمة شرح للقانون الطبيعي أوضح ولا أفصح من منشور بول الثاني البابوي العام: "روعة الحقيقة" الصادر سن 1993م (35: 1-53/3) الذي لم يتقبل التحول إلى نزعة نسبة الأخلاق التي دافع عنها ولسن وغيره من الأخلاقيين العلميين،/ الذين ينكرون الأصول اللاهوتية للقانون الطبيعي؛ إذ رفض المنشور البابوي الاعتراف بصحة تحديد القيم الأخلاقية بالقيد الإحصائي لتصرفات الإنسان، وأكد من جديد على عمومية القانون الطبيعي واستمراريته، وذلك على أن كلية الإنسان توجد في أجواء ثقافية تعينه، ولكنه لا يتقيد بتلك الثقافة والطبيعة الإنسانية تتجاوز الثقاقة، والإنسان ليس سجن ثقافته.

وتدعم نظرية القانون الطبيعي الفكر السياسي لإعلان الاستقلال" الأمريكي، الذي ينادي بأن الإنسان مخول بقانون الطبيعة، ومن رب الطبيعة سبحانه وتعالى بحقوق طبيعية معينة، لا ينبغي التدخل فيها على الإطلاق ويؤكد الإعلان ثانية على أن خالق البشر جل جلاله هو الذي منح الإنسان هذه الحقوق، ولكن الإعلان يفتقر في هذه النقطة إلى الوضوح الذي نجده في العقيدة الكاثوليكية. وينم على المصدر الإنجيلي للإعلان الخلفية المسيحية لمفسريه وهم إنجيليون، ولكن لم يلبث التغير في الخلفية الثقافية للمفسرين المعاصرين، وهم من المشرعين ورجال القضاء، لم يلبث أن نال من معايير التطبيق الإنجيلي لمبدأ القانون الطبيعي، وان تحد منها ومن فاعليتها في التفسير ، ولا يمكن توافر الحرية الإنسانية في نظام سياسي إذا كان معيار السلوك الأساسي لا يقوم على قوانين وضعها الإنسان إلى التنكر لمبادئ نواميس الفطرة، وتزايد أهمية القوانين التي يبتدعها الإنسان25، وهذا –كنا يذهب كارل .ف. هنري، هو أقصر الطرق إلى الفوضوية26. ونواميس الفطرة إ`ا ما نظر إليها على أنها من أصل غيبي، فإنها تلتقي عندئذ بالإسلام.فالقرآن الكريم هو الجامع لتلك النواميس، يليه المصدر الثاني السنة الشاملة(سنة الرسول وسنة الخلفاء الراشدين)وهو المحدث الشريف ثم القياس والإجماع (والاستصلاح ) والقرآن الكريم تليه هذه المصادر أساس التشريع الإسلامي.

ويختلف المنظور الإسلامي عن الكاثوليكي من جهة الوحي كأصل لنواميس الفطرة، "فالوصايا العشر" و "العهد القديم" و"العهد الجديد" يعتقـد أنها إلهام من جبريل عليه السلام بأمر الله جل جلاله. وهذا هو ما ذهب إليه الكاثوليك. أما المسلمون فيعتقدون أن القرآن الكريم وحي من الخالق سبحانه وتعالى نزل به جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عله وسلم، وهذا يعني أن عصمة القرآن وصدق الإنجيل صفتان متوازيتان، وهذا التوازي في الرأي بين المسلمين والكاثوليك حري أن يثمر درجة من التعاون بين الإسلام والمسيحية في كل زمان ومكان. ولسوف تنعكس آثار هذا التعاون بدورها على الساحة السياسية. وسيكون من آثار ذلك أيضاً تقديرٌ أعمق لنواميس الفطرة من حيث قيمتها وحرمتها. وإذا كما توافر المنطق السليم في النظر إلى الزمان والمكان، فإن الناتج السياسي لذلك هو إضفاء قيم احترام أكبر للآخر، فضلاً عن الأثر السياسي الأثقل وزناً. مثل هذه المكان المتميزة للآخر، لها ثقلها الرمزي إن لم يكن الواقعي في سياسات العربية السعودية التي تتخذ من القرآن الكريم دستوراً.

وإن الهوة لتتسع باطراد بين المعايير المادية السائدة في الولايات المتحدة، وفي معظم البلاد الغربية، وبين المعايير الإسلامية، وذلك رغم ما نلمس من تزايد في تقدير أوجه الشبه بين القيم الاجتماعية الإسلامية والمسيحية، هذا في الوقت الذي تنتشر فيه الهيمنة التكنولوجية للولايات المتحدة، ومنعها المعايير الخلقية الأمريكية، الأمر الذي استمر لفترة طويلة مصدر قلق في البلاد الإسلامية، وغير الإسلامية على حدٍ سواء. ولقد قال موريس دقرجيه في فرنسا: إن ثمة خطراً داهماً يهدد أوربة، هو الحضارة الأمريكية27، ووضح سرقان شريير الحضارة الأمريكية بأنها "مسخ كاريكاتوري" يجدر بأوربة أن تحذر تقليده28. وعبر الكثير من البلاد الإسلامية عن قلق مماثل، ففي الباكستان، وحتى من أعظم البلاد الإسلامية اعتماداً على المعونة الأمريكية، عبر زعيم بعد آخر عن الأسف لوقوع بلادهم في شراك تلك المعونة ومن مؤشرات هذا القلق أن أيوب خان اختار لكتابه عنوان:"أصدقاء لا سادة"،29 وتبعه ذو الفقار علي بوتو بكتابه "أسطورة الاستقلال"30. وفي اجتماع لجنة O.I.C. منظمة التعاون الدولي للعلوم والتكنولوجيا هاجم فاروق ليجاري بضراوة اعتماد العالم الإسلامي اعتماداً كلياً على الغرب31. ويزيد شباك الاعتماد على الغير إحكاماً، التدخل المشوب بالتعالي من قبل المؤسسات العامة الوطنية والدولية، كما تزيدها إحكاماً كذلك جماعات الضغط التي تنادي بعولمة المعايير والمؤسسات، وحرية الصحافة ونقابات العمال، كما تنادي بضرورة تعريف جديد لمصطلحات مثل : "العائلة" و "الإجهاض" والتحكم في عدد السكان، والإصلاح القضائي، وإصلاح نظام الانتخاب، ونشر الثقافة الجنسية، ويزيد الموقف تعقيداً أن معظم هذه الصيحات تجيئ من جماعات ضغط عنيفة، لا تمثل الرأي العام، ولا السياسية الوطنية، ويزد من قوتها الفورات الثقافية، وتآكل السيادة الوطنية بسبب الأحلاف الدولية والإقليمية. وهكذا فإن مساحة الشؤون الداخلية، التي كانت في الماضي، بعيدة عن منال الدول الأخرى تضيق حثيثاً. حتى لقد أصبحت أطرافها أكثر عرضة للتدخل الخارجي.وإذا ما أضحت شباك الاعتماد في المجالات التكنولوجية والعسكرة والثقافية تعزل بخيوط من ذهب على هيئة منح وديون، فكيف يتأتى للشعوب الفقيرة أو الضعيفة عسكرياً أن تقاوم التيار؟ إنه في فورات باسلة لوضع حد لهذه التجاوزات، وللتأكيد على أولوية جذورها الإسلامية، ولو بالعودة إلى صره قبل التكنولوجيا لجأت أقليات من الجماعات المتطرفة أحياناً إلى العنف في محاولات يائسة لوضع حد لتسرب معايير السلوك المقيتة. وفي حالة إيران وأفغانستان تحت حكم طالبان، طردت ثورة شاملة النفوذ الغربي، وأكدت سيادة القيم الإسلامية. وهناك احتمالات لن تسلك دول إسلامية أخرى هذا السبيل الثوري، ومن ثمَّ تكسب توقعات الصدام بين الإسلام والغرب شيئاً من الصحة.

نموذج فريد للعمل المشترك في مجال القيم الاجتماعية:

لم يحدث قط أن قدم الإسلام مبادئه الأخلاقية والعقدية بأسلوب سلطوي، تلك المبادئ التي حجمها السلوك غير المر، حتى من بعض الدول الإسلامية، ولكن يمكن أن يعيد التأكيد الواضح على تلك المبادئ بإقامة دعامات من القيم الأخلاقية تدعم في آن واحد صرح الثقافة غير الإسلامية الواهن والسلوك الإسلامي، الذي يتخفى وراء ستار من الصياغات البليغة لتعاليم القرآن الكريم، ولو تم ذلك فإنها سيثري الحضارة الإنسانية قاطبة.

إن نسق القيم الإسلامية سلسلة أخلاقية وسلوكية متصلة الحلقات، وهو نسق شامل، وسلطان عالمي، ومتحرر من قيود الزمان والمكان والعنصر. ولربما كان قدر الإسلام ليس تحويل الناس عن معتقداتهم للإيمان به، بل أن يعيد الحيوية إلى عالم البشرية الأخلاقي والسلوكي، فتدهور القيم الأخلاقية ليس مقصوراً على العالم الغربي، بل إنه رغم ما في المثل الإسلامية من سمو، فإنها لم تجد بعد المجتمع الذي يمارسها ويلتزم بها بدقة. فالمجتمعات الإسلامية نفسها حافلة بالانحرافات الأخلاقية، التي قد تختلف عن تلك التي في الغرب، إلا أنها تنجز في الإسلام وفي الحضارة العالمية.

وينبغي تحسباً لهذا التآكل، تبيان قيم الإسلام السياسية والاجتماعية بوضوح، وتوطيد علاقاتها بالقيم الحارة السائدة في العالم، ويجب أن يشمل ذلك المشاركة الإيجابية في العملية السياسية في المجتمعات الديمقراطية ، ويكون ذلك بالحرص على التصويت في العمليات الانتخابية وتنظيم جماعات المصالح، وكسب المعارك الانتخابية للمناصب العامة. وقد يستغرق نضج هذه المشاركة جيلاً بكامله تقريباً. فالجيل الأول من المهاجرين المسلمين غالباً ما يكون مشغولاً بتحقيق الأمن الاقتصادي ، ويفتقد الثقة بالنفس للقيام بدور سياسي نشط، أمل الجيل الثاني فإنه باكتسابه الجنسية بالمولد ومعرفته الناضجة بثقافـةالأغلبية فإنه غالباً ما يتولد فيه من الثقة، بحيث يجعله يشارك على نحو فعال في عملية تشكيل السياسات العامة. وها هو الموقف السائد اليوم في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وفرنسا.

وبدلاً من مقولة إن الإسلام ضد الغرب، أو الغرب ضد الإسلام، يجب على العالمين الإسلامي وغير الإسلامي أن يفكر أثر مؤمنين بالحياة الروحية ومتحدين بالاستراتيجية لإعاقة الوقاية من الحالة المتردية للقيم الأخلاقية في العالم. ويوحي هذا العرض الموجز غير الوافي بان هناك تناظرات عقدية تكفي لقيام برنامج عمل مشترك، ويجب ألا يعني العمل على تصفية تأثيرات الغرب الملوثة على الإسلام أن يعرض المسلمون عن مساعي التعاون مع قطاعات الثقافة الغربية. وتميل الجوارات المتعددة عن المسيحية والإسلام إلى اليوم إلى التركيز على أوجه التباين والتشابه اللاهوتية والكتابية . ألا يمكن أن نضيف إلى مثل هذه الحوارات تركيزاً على الجهود المشتركة؛ للتعامل مع المشكلات الاجتماعية الرهيبة التي تواجهنا جميعاً فتثمر توافقاً ملحوظ بين المؤمنين المسلمين والمسيحيين حول المشكلات الاجتماعية ذات الصلة بالخلاق ، كما سنتعرض لها لاحقاً في هذا البحث.

إن كل المشاكل الاجتماعية في زماننا، كالطلاق وحمل المراهقات، والإدمان، وجرائم العنف في المدارس والشوارع، وإيذاء الزوجات والأطفال، والانتشار الرهيب للأمراض التي تنتقل عن طريق الجنس بما فيه الاتصال الجنسي غير المشروع بين البالغين والأطفال، كلها تنجم في الواقع عن انحلال الأسرة كوحدة اجتماعية يبنيها الوالدان الأب والأم. وليس ثمة قضية اجتماعية تشغل قلوب المسلمين والمسيحيين على حد سواء أكثر من حرمة الأسرة. وهذا الاهتمام المشترك ليس بالجديد، فقد كان موضوع المؤتمر الإسلامي المسيحي الثاني الذي عقدته الأكاديمية الملكية لبحوث الحضارة الإسلامية في عمان سنة 1985م وكان فيه اتفاق كامل بين الأربعة والثلاثين باحثاً من مختلف الأجهزة الإسلامية والمسيحية حول هذه القضية، وتوجد إمكانية كبيرة للعمل السياسي – في مقابل اللاعمل أو الكلام البليغ- بين المسيحيين والمسلمين، للدفاع عن حرمة الأسرة والتأكيد على جميع المبادئ الأخلاقية.

ويقدم مؤتمران دوليان، عقداً مؤخراً بشأن بع القضايا الاجتماعية الحيوية أملة على الإمكانات السياسية للعمل الإسلامي المسيحي المشترك. وقد عقد مؤتمر الأمم المتحدة العشري للسكان والتنمية في سبتمبر 1994م في القاهرة وحضره ممثلو 178 من الدول في المنظمة، ومن بينها 22 دولة إسلامية32، وكانت العربية السعودية واضحة بغيابها في حين حضرت منظمة المؤتمر الإسلامي وست هيئات إسلامية أخرى ممثلة في المؤتمر، وحاول الفاتيكان تشكيل جبهة موحدة مع الإسلام لإلغاء المواد الخاصة بالإجهاض في وثيقة البرنامج التي أقرها المؤتمر وكان ممثلو منظمة المؤتمر الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، ومؤتمر العالم الإسلامي، قد التقوا في يونيه من نفس العام بممثلي الفاتيكان في روما، وصدر عنهم بيان رسمي يعارض مشروع وثيقة مؤتمر الأمم المتحدة المقترحة التي "سيقود توجهها الفردي إلى انهار المجتمع، وإلى حالة من الانحلال الأخلاقي والخلاعة، وطمس القيم الاجتماعية".

ووقع البيان الإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر بالقاهرة، وهذا أقرب ما يكون إلى إعلان يعبر عن العالم الإسلامي بأجمعه، كما تمثله البنية الفضفاضة للكيان العالمي الإسلامي، الذي ليس فيه سلطة مركزية معترف بها. وكمن المفارقات حقاً أن الخصم اللدود للكرسي المقدس (البابوية) في مؤتمر القاهرة كان امرأة مسلمة من باكستان هي د.نفيس صادق، طبيبة أمراض النساء. وكانت د.نفيس قد التقت بالبابا قبل المؤتمر بصفتها السكرتير العام للمؤتمر، طلباً لموافقته على برنامج العمل المقترح، ولكن لم يجر أي تلاق في الأفكار حول قضايا الإجهاض وتحديد النسل. وذكر ماركو بوكنيتي وبرنشتاين في تقرير لهما أن الدكتور نفيس صادق جعلت جمهور الحضور يشعرون أن البابا"متحجر القلب،ومغلق، ومتصلب الفكر، ويفتقد التعاطف"33.

وعلى حين كسب البابا الاتجاه الإسلامي إلى جانبه، إلا أنه لم يستطع إقناع منظمتي المؤتمر الرئيسيين الذين يمثلون الرؤى النسوية الغربية، والإسلامية. وسجل عدد كبير من الأقطار في تصريحات شفهية أو مطبوعة تحفظات على برنامج عمل المؤتمر يتعلق غالبها بتعريف الأسرة والإجهاض والتفضيلات الجنسية. وسجلت هذه الأقطار كلها تقريباً توضيحاً بان أية إجراءات تتخذ، يجب أن تكون متسقة مع ثقافة الأمة ومعتقداتها الدينية ، وذكرت أغلب الدول الإسلامية أن مثل هذه الإجراءات والأنشطة يجب أن تكون مطابقة للشريعة الإسلامية. ومما له دلالته فذ هذا الصدد أن الدول الإسلامية الاثنتين والعشرين كلها، والدول الخمس عشرة الكاثوليكية في أمريكا اللاتينية ، وبعض الدول الكاثوليكية الأخرى، كالنمسا والفلبين، سجلت تحفظاتها على تلك القضايا. وذكر ممثل السلفادور للمؤتمر أن دول أمريكا اللاتينية موقعة على المعاهدة الأمريكية لحقوق الإنسان (ميثاق سان خوسيه)، الذي يوجب حماية الحياة منذ لحظة الحمل. ولم تكن هذه التصريحات المعارضة تتسم بتفضيل تحفظات الكرسي البابوي، إلا أنها عكست موقفه على أي حال. وصدرت أكثر التصريحات قوة عن بيناظير بوتو رئيسة وزراء باكستان حينئذ، من حيث استرعاءها الانتباه إلى الثغرات الخطيرة في بان المؤتمر الذي تجاهل الكثير من القيم الثقافية العظيمة في المسجد والكنيسة، وقالت- مستشهدة بالقرآن الكري: عن الإسلام –ومن ثم الباكستان- يرفض الإجهاض، ولا يقبل بأي تنازل عن محورة العائلة التقليدية، "كاتحاد يضعن الزواج عليه القداسة" "اتحاد قائم على أساس وطيد" "من الوحدة الزواجية". علاوة على ذلك، فإنه لا ينبغي النظر إلى المؤتمر على انه يسعى لفرض شرعية الزنا، والتربية الجنسية ، مما شابه ذلك على الأفراد والمجتمعات والأديان التي لها قيمتها الاجتماعية الخاصة. وقد أثار مؤتمر المرأة العالمي الذي يجمع كل عشر سنوات القضايا ذاتها في اجتماعه في بكين سنة 1995م في جوٍ من الرغبة في زيادة صلاحيات المرأة وليس تحديد النسل34. وكان من بين 189 دولـة مملة في المؤتمـر 32 دولـة إسلامية. واختارت السعودية مرة أخرى عدم الحضور، وكانت منظمتان إقليميتان إسلاميتان فقط ممثلتين في المؤتمر هما جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وكما حدث في القاهرة أعلنت الدول الإسلامية الاثنتان والثلاثون عن تحفظاتها وتصريحاتها التفسيرية، شأنها شأن خمس عشرة دولة أمريكية كاثوليكية و 23 دولة أخرى. وكان بيان الكرسي البابوي مرة أخرى هو الطور والأكثر تفصيلاً على حين اتفقت أغلب التصريحات على التعريف التقليدي للأسرة وحرمة الحياة، وكان بيان برناوي هو الأكثر بلاء في موقفه "ينبذ الاتصال الجنسي غير الشرعي" وضد أ شكل من أشكال الشذوذ الجنسي أو السلوك الجنسي المنحرف الذي يترادف مع اللواط والسحاق". وأعاد التأكيد من جديد على حرمة الأسرة الشرعية التي تقوم على "عقد زواج بين رجل وامرأة" ووصفت بناظير بوتو، في خطاب مثير، الحالة المأساوية للمرأة في الدول النامية وفي مواقع النزاع مثل البوسنة،وذكرت المؤتمر بتعاليم القرآن بمساواة المرأة،وانتقدت بحوث المؤتمر باعتبارها ضعيفة العلاقة إلى حد يتعلق بدور الأسرة التقليدية، إلا انه بكيانها لم سيكن بقوة خطابها في القاهرة وزلا في تأثيره.

إن تقارب المصالح الإسلامية والمسيحية في هذه المؤتمرات أكثر نجاحاً مما يعتقد غالباً. وقد وزعت ورقة دعوة في مؤتمر بكين تحض على إعادة تقويم الوضع القانوني للفاتيكان في الأمم المتحدة35. وقد بادرت بهذه الورقة عشر منظمات غير حكومية على رأسها: "منظمة الكاثوليك للاختيار الحر"، وفيها يعرف الفاتيكان –كدولة من مدينة واحدة- بأنه "الكرسي المقدس"، وهو مراقب دائم غير عضو في الأمم المتحدة، لا حق له في التصويت كدولة في الجمعية العامة، لكن مسموح له بالتصويت في مؤتمرات الأمم المتحدة ذات المواضيع الخاصة. وقد نشأت هـذه الورقة التي أبدتها أكثر من 100 منظمة من دول العالم، نشأت عن إدراك خطورة حملات الكرسي المقدس ضد الاتجاه السائد نحو إرساء قواعد حرية السلوك الاجتماعي من القيود، وقد مهد التوافق الإسلامي المسيحي في هذين المؤتمرين الطريق لموقف جديد من التعاون، فقد ذكر السكرتير العام لرابطة العالم الإسلامي في لقائه في 7/10/1997، مع الإيطاليين في بادوا بإيطاليا ذكر أن المسلمين والمسيحيين يقفون معاً ضد الإلحاد والفسوق الاجتماعي والظلم والتمييز وأنه عليهم العمل معاً لمقاومتها هي وغيرها من الدواء الاجتماعية.

إن رؤى المسلمين والكاثوليك حول القاضيا الاجتماعية ولاسيما الزنا والفسوق والشذوذ الجنسي وما يتعلق بالأسرة وحرمة الحياة والمخدرات والكحوليات والميسر رؤى متقاربة بما يكفي لإحساس المسلمين بالارتياح نسبياً للمبادئ الاجتماعية الواردة بالتفصيل في كثير من البيانات البابوية العامّة وغيرها من الوثائق لدرجة التغاضي عن مفاهيم مثل "التجسد" و" الصلب" و "القيامة"، وقد عالج منشور جون بول الثاني: "الإيمان والعقل" الصادر سنة 1998م هذه المعتقدات بجلاء واستفاضة. وكان استدلاله الفلسفي – عدا ما يتعلق بهذه المواضيع العقدية- مألوفاً للمسلمين.

وقد أقرد منشور ليو الثالث عشر عن " رأس المال والعمل" الصادر سنة 1891م، ومنشور " العام المائة" الذي أصدره ون بول الثاني لإحياء الذكرى المئوية لمنشور ليو، أثر المنشوران دافع الربح عند الرأسمالية، وأقرا أيضاً بآثاره المتناقضة غير العادلة. وكلتا الوثيقتين أكدت على الحاجة إلى آلية واحدة لتوزيع الأرباح على مجمل النظام الاجتماعي.

وهذا مضمون حيوي ن مضامين العدل في الإسلام ، تصيغه د.منى أبو الفل بألمعية ، بأنه دافع من دوافع الوعي الإسلامي ، وهـدف من أهدافـه36، فثمة ثابتان في العدل هما الإحسان والمساواة اللذان يمكنان من توزيع أكثر عدالة للسلع الاجتماعية، من خلال آلية الزكاة. كما أن منشوري جون الثالث عشر: "السلام في الأرض" الصادر سنة 1963م وبول السادس :"كرامة الإنسان" الصادر سنة 1965م مرضيان للمسلم الورع، ويجد المسلمون أنفسهم متفقين مع المنشور البابوي العام: "إنماء الشعوب" الصادر سنة 1967م الذي يعالج مشكلة إنماء الأمم الفقيرة37، والذي دعا إلى وضع الأبعاد الأخلاقية للتنمية في الاعتبار ، ونصح بان يكون طموح الإنسان هو: أن يعمل أكثر، ويعرف أكثر، ويمتلك أكثر، حتى يصبح أفضل.

إن منشور جون بول الثاني "إنجيل الحياة" الصادر سنة 1995م بتأكيده على حرمة الحياة، وأولوية الإنسان على "الأشياء"، يستحق قبولاً مشابهاً، وإن لم يكن بنفس الدرجة. فئة خلاف حول قضايا، مثل منع الحمل، والإجهاض، وعقوبة الإعدام. فالإسلام يحل منع الحمل بأنه وسيلة أما التعاليم الكاثوليكية فتسمح بطريقة مراعاة مواعيد الحيض. وهناك خلاف فيما بينهم في أمر الإجهاض مع المبدأ الكاثوليكي، الذي يقول: عن الحياة تبدأ من لحظة الإخصاب: (" إنجيل الحياة": ص 57-63) ولايجوز إنهاؤها. على حين تعتبر العقيدة الإسلامية أن الجنين لايعد شخصية إنسانية إلا بعد أرعين يوماً من الحمل، وذلك عندما بنفخ الملك فيه الروح، وإن كان هناك خلاف حوا ما إذا كانت تلك الفترة أربعين يوماً أم أربعة أشهر، لكن التحليل الجديد للحديث الشريف وما يقوله علم الأجنة يؤيد الاعتقاد بأنها أربعون يوماً38. ومع أن الإجهـاض غير محرم خلال فترة الأربعين يوماً الأولى، إلا أنه لا يلغي قبولاً عاماً، كما يشير خطاب بناظير بوتو عن الإجهاض الذي ألقته في القاهرة.

إن التعاليم الإسلامية والكاثوليكية بشان عقوبة الإعدام متشابه، وكلنها غير متطابقة فكلٌّ منهما ينطلق من مبدأ حرمة الحياة الإنسانية، وتحريم قتل الأبرياء، وهناك آيات متعددة في القرآن الكريم تحرم القتل مثل الآية 151 من سورة الأنعام:قال تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منا وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلك وصاكم به لعلكم تعقلون. وتعبر الآية 33 من سورة الإسراء والآية 68 من سورة الفرقان عن نفس الرؤية. وقد ذكر " إنجيل الحياة" بوضوح بخصوص عقوبة الإعدام أن الجاني المذنب لايجوز إعدامه، إلا إذا لم توجد وسيلة أخرى للدفاع عن المجتمع، ومع ذلك، فإن مثل هذه الحالات نادرة الآن، إن لم تكن غير موجودة عملياً (الباب رقم 56)، نتيجة التحسن المطرد في آلية العقاب (القانون الجنائي)، وقد تحدث المؤتمرات الأسقفية المبادئ اللاهوتية التي تؤيد عقوبة الإعدام، لذلك استر استخدامها استثناء، رغم عدم حظرها بشكل مطلق39. أما في الإسلام فلم تتخذ أية خطوة مهمة لإلغاء الإعدام، ولايمكن أن تتخذ لأنها مأمورٌ يهل في القرآن كعقوبة للقتل العمد (وليس للقتل الخطأ). إلا أن تطبيق عقوبة الإعدام مقيد بعدة مبادئ إسلامية أخرى، فالقرآن يحث وكذلك السنة في مواضع متعددة على الإحسان40، فمثلاً بعض الدول العربية كالسعودية يكون لدفع الدية لأسرة الضحية نفس الأثر، كما يحد نظام الاستئناف المرفق والمتطور من تطبيق عقوبة الإعدام، إلى حد أنها لا تطبق، إلا عندما لا توجد أية عقوبة أخرى مناسبة. أو عندما يصبح النظام الاجتماعي معرضاً للاضطراب على نحو خطير، إذا لم تطبق تلك العقوبة.

وثمة قضية اجتماعية أخرى، تتقارب الرؤى الإسلامية والكاثلوليكية بخصوصها، وهي قضية حماية البيئة، ففي الفكر الكاثوليكي يفرض الوجهة السابقة احترام سلامة الخليقة، وتقر سلطان الإنسان على الكائنات الحية وغير الحية مقيد بالالتزام الأخلاقي، برعايته لمصحة الأجيال المقبلة41. وفي الأجزاء 34-1و 34-6 من منشور جون بول البابوي العام: "حول الاهتمام بالقضايا الاجتماعية" الصادر سن 1987م في الذكرى العشرين "بيان تقدم الشعوب" في تلك الأجزاء بيان أشد قوة من حماية بيئاتنا الطبيعية، ومفهوم الاستخلاف والرعاية البيئة لصالح الأجيال القادمة يجده بقوة مماثلة في الإسلام42. وقد حلل "سيد حسين نصر" بعموم التشابه بين الفكر اليهودي والمسيحي والإسلامي في هذه القضية43. وبملاحظة أن الاستجابة المسيحية المعاصرة للأزمة البيئية تقوم على معطيات علمانية وعلمية مع بعض الاستثناءات أكد سيد حسين نصر "أن المدخل المقدس وحده هو الذي يمكننا من تكرار التأكيد على السمة المقدسة للطبيعة ومن ثم إدراك قيمتها الحيوية القصوى الأبعد من مجرد قيمتها المنفعية". ويتطابق الإسلام عقيدةً وشعائر مع مبدأ قداسة الطبيعة.

ويذكرنا "سيد حسين نصر" بالحديث الشريف القائل: "وجعلت لي الأرض طهوراً" ومعنى هذا أن الصلاة يمكن أن تؤدى في أي مكان طاهر كم "الطبيعة العذراء" في أوقاتها المحددة فلكياً، للتتوافق مع الحركة الكونية، ومن ثم يتأكد تناغم الحياة الإنسانية مع حركة الطبيعة. وإن أبلغ وأدق تعبير عن الرؤية الإسلامية في هذا المقام هو في الحدي الشريف الجيد الإسناد: " عن الدنيا خضرة حلوة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون"44.

وقد عالجت مشكلة حماية البيئة العالمي قواعد تنظيمية محلية واتفاقات دولية، ودخلت هذه المشكلة نطاق النقاش العام الواسع. ولايجد هذا الاهتمام أساسه المنطقي حصراً في علوم البيئة والأرصاد الجوية فسب، فهو اهتمام وطيد له تاريخ طويل في التراث الديني. وهذه القضية – شأنها شأن قضية صياغة الأسرة – هي مشكلة اجتماعية جيولوجية، يمكن أن يواجهها العمل السياسي المشترك بين الأديان بفعالية واهتمام أصيل، ودون إعاقة من النزاعات العقدية، ويجد هذا الموضوع الأساسي للبحث مزيداً من التأييد في استخلاصات "سيد حسين نصر" فهو يؤكد أن النظرة المقارن للفهم الديني للطبيعة تقدم فرصة لا تزال الأديان بعضها بعضاً، أو استعادة دين معين لجوانب أصبحت منسية من تراث، من خلال التواصل مع تراث حي.

وعلى وجه التقريب، فإنه في كل سياسة عام تكشف عن مشاكل، سواء في أمريكا، أو في المجتمع العالمي، نجد في الإسلام لها حضوراً، جذورها في القرآن الكريم، أو الحديث الشريف، وفي خبرة أكثر من ألف عام، وإذا ما شئنا ذكر قلة قليلة منها، ذكرنا حماية البيئة وأولوية الأسرة في النظام الاجتماعي، وتضمان المجتمع الواحد، وتضمان الأمة كافة ومشكلة المسؤولية الفردية والاهتمام بضحايا الجريمة، وكبح جماح النفس، ومراعاة الالتزام في اللبس والسلوك، والامتناع عن المخدرات والكحوليات والتدخين والميسر والمساواة بين الأجناس البشرية، وعملية التغاضي ، وحاجتهـا إلى المشاركـةالوجدانية، وتقبل الإرادة الإلهية. وإن العمل السياسي المشترك في هذه القضايا الاجتماعية مع المسيحيين المؤمنين لهو التحدي الأكبر أمام الإسلام في الوقت الحاضر.

والمشكلة المحيرة اليوم هي مشكلة نشر القيم الإسلامية في العالم غير الإسلامي، فلاتوجد سلطة عالمية شاملة شبيهة بالخلافة في عصور سابقة أو بالفاتيكان الآن، وربما لا تصادف الفتاوى المعلنة من مصادر مختلة طاعة عامة، لكن هناك مؤسسات يمكن أن تملأ الفراغ كمجمع الفقه الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي والمجلس الإسلامي الأمريكي، ومثيله الأوربي ،أما التصريحات والإعانات والحوارات وتقارير اللجان فقد تكون في ذاتها خطوات أولى لها أهميتها، إلا أنها تكون منمقة وسرعان ما تذهب في طي النسيان.

بيان القيم الأخلاقية:

إن التأثير الاجتماعي والسياسي للأقليات المسلمة التي تعيش في الدول غير الإسلامية لهو أكثر قوى نشر القيم الإسلامية فعالية، لكن لم يول دور هذه الأقليات اهتماماً إلا مؤخراً، فتأسس "معهد شؤون الأقليات المسلمة" في جامعة الملك عبد العزيز سنة 1976م ولا تزال مجلته المتميزة تنشر في لندن، وعقدت حلقات بحثية عن الأقليات في لندن سنة 1978م، وفي شيربروك في كندا سنة 1981م، وفي بيرث بأستراليا سنة 1984م، وعقدت أحدث الندوات في لندن في يناير 1995م. وركزت هذه الندوات تركيزاً له ما يبرره على تصحيح الانطباعات الخاطئة عن الإسلام، وعلى تمكين الأقليات الإسلامية من الحياة الآمنة، ومن الحفاظ على عقيدتها. كما أولت اهتماماً بالمشاكل الخاصة بالأجيال الجديدة ولاسيما محافظتها على تراثها الثقافي. وهذه العناية بالأقليات المسلمة تشكل ثلث العالم الإسلامي تقريباً، وتعد جزءاً قيماً للأمة الإسلامية كملها لأهميتها البالغة. ومن المتصور أن يقوي هذا الاهتمام الهوية الإسلامية في تلك الأقليات، وأن يؤثر في النهاية على معاملتهم في الدول غير الإسلامية التي يعيشون فيها. يمكن أن يندعم موقفهم بأكثر من ذلك إذا منحوا نوعاً من التمثيل الرسمي في مؤسسات من قبيل منظمة المؤتمر الإسلامي.

هذا، ويمكن أن تصبح الأقليات المسلمة عاملاً قوياً لنق القيم الإسلامية، سواء في المجتمعات المسلمة، آو في المجتمعات الغربية غير المسلمة، بعد أن أصبح المهاجرون بقرارهم من المحن الاجتماعية والاقتصادية في بلادهم الأصلية متحررين من العديد من السلوكيات غير الإيجابية في أقطار كمولدهم، وأصبحوا واعين أيضاً النقائض الاجتماعية لوطنهم الجديد، رغم أنه يقدم لهم فرصاً اقتصادية وحرية شخصية لاعهد لهم بها من قبل. وبذا يصبحون-وقد رأوا الإسلام من منظور متحرر -0قادرين على رؤية أصول الإسلام النقية، منفصلة عن الأجواء الثقافية التي حرفته في أماكن أخرى، وإذا ما قاوم هؤلاء المهاجرون التأثير السلبي لوطنهم الجديد على عقيدتهم، فإنهم يصبحون في وضع فريد يمكنهم من التأكيد على الأساس الأخلاقي للإسلام ويمكنهم أن يقوموا بعكس ما قامت به البعثات التبشيرية في المجتمعات الإسلامية في الأجيال السابقة.

وإذ لم تستطع هذه البعثات تحويل المسلمين عن دينهم، فإنها ركزت جهودها على التعليم والصحة ورفاهة المجتمع، ومؤسسات مثل الجامعة الأمريكية في بيروت التي تأسست سنة 1866م، وجامعة القديس يوسف الكاثوليكية، وكلية روبرت في إستنبول، والجامعة الأمريكية في القاهرة، وكلية فيكتوريا في الإسكندرية، وكلية فورمان المسيحية في لاهور إن هي إلا أمثلة قليلة من الكثير، وقد تدرب العديد من القادة السياسيين والتربويين من الشرق الأوسط في تلك المؤسسات. وه إن لم يكونوا قد تخلوا عن الإسلام فإنهم على الأقل تشربوا ونشروا القيم الغربية وبعضها هي ذات القيم الإسلامية. ومن ثم فقد أضفت على المعتقدات الإسلامية قم دولة متجددة. فهل نأمل في هذا المقام أو نفترض إمكانية أن تنقلب هذه الأدوار في المستقبل؟ وأن يضطلع المسلمون مرة أخرى بالدور الذي قاموا به من القرن الحـادي عشـر الميلادي وما بعده كناشرين للعلم والمعارف الإسلامية الواسعة في الغرب؟ وذلك حين قام عباقرة الحضارة الإسلامية في كل المجالات بالتغلغل عبر صقلية وإسبانيا وإيطاليا في الحضارة الغربية وبرفعها إلى مستوى أعلى؟ إن الفرصة سانحة اليوم لتأثير إسلامي مناظر على الحضارة الغربية وإن كان ذلك التأثير سيتخذ شكلاً مختلفاً بعض الشيء. فلن يكون في مجال التكنوزلوجيا والعلم ولا حتى الفلسفة بل سيكون عاملاً فعالاً في توكيد القوة السياسية في قضية مشتركة من أجل المبادئ الأخلاقية.

ويمكن أن يجري عمل الجامعات المسلمة الإيجابي على المستويات الثلاثة التالية:

1-شرح مواقف الإسلام من القضايا الاجتماعية والثقافية ومنها الإرهاب . وسيكون في ذلك فرصة مواتية لتمحيص جوهر الإرهاب المضاد للنزعة الروحية وكذلك السياسات الاجتماعية والأخلاقية التي تحد منه. وإن في إعداد المجلس الإسلامي الأمريكي برامج تلفازية خطوة في الاتجاه الصحيح إلا أن القيام بعمل مؤثر في شكل إعلان شديد الوضوح عن القيم الإسلامية تصدره جماعة متميزة ممثلة للإسلام أمرً أساسي. مع الإقرار بأنه ليس من السهل إنجاز ذلك بسبب وجود العديد من الجماعات المتنافسة، سواء في البلاد الإسلامية، أو في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا، فإنه يدعي كل منها حق الحديث باسم الإسلام. وفي هذه الحالة فلن يخدم تفتت العالم الإسلامي ضمن الكيان الشبيه بالأسطورة"للأمة الإسلامية" نَعَم لن يخدم الإسلام سوى خدمة باهتة. إن رابطة العالم الإسلامي، والجمعية الإسلامية في شمال أمريكا، والمجلس الإسلامي في أوربة هيئات يجدر أن تؤخذ في الحسبان، فإن ذلك حري أن يخفف بعض الشيء من جو العداء الذي تعيش فيه أغلب الأقليات الإسلامية وفي أوربة خاصة.

2-إصدار بيان ثنائي أو ثلاثي عن المؤمنين. وهناك هيئات نشطة يمكن اتخاذها نماذج في ذلك،أولها"مركز القيم اليهودية والمسيحية" الذي تأسس في واشنطن العاصمة سنة 1995م كجزء من المؤسسة الدولية للأخوة المسيحية اليهودية التي تأسست سنة 1983م، وعمل عضو مجلس الشيوخ جوزف لبرمان الديمقراطي ودنبل كوتس الجمهورية كريستين شرفيين لها.

ومن بين أهداف المركز تأييد وحماية"حرمة الحياة الإنسانية، ومكانة الأسرة التقليدية، وقيمة الإخلاص في العمل والمسؤولية والأمانة والإخلاص والتراحم والتسامح والتعبير الحر عن المعتقد"45. وقد عبر السناتور لبرمان عن اعتقاده بأن المسلمين الأمريكيين يشتركون في هذه الاهتمامات، وإن المركز يخطط للوصول إلى المسلمين"ليناء تحالف قوي"؛ كرسالة ( المسيحيون في الألفية الثالثة) ذلك الإعلان الذي ظاهره قرابة الثلاثين من زعماء الكنيسة والشخصيات البارزة46. وفي النموذجين جهود ثنائية لإعلان وتدعيم القيم الأخلاقية الاجتماعية المشتركة في المجتمع؛ إلا أن تلك الجهود لم تشمل المسلمين للأسف. ويجد بعض الإنجيليين – بسبب رؤاهم الألفية التي بيناها من قبل-صعوبةًفي التكاليف مع المسلمين الذين ينظر إليهم، خطًأ كان ذلك أو صواباً. على أنهم معادون لإسرائيل، حتى إن بعضاً من المسلمين واليهود قد يجد حرجاً في التعبير عن تماثل رؤاهم بسبب المسألة الإسرائيلية، كل ذلك يحدث رغم أن الدينين اليهودي والإسلامي تجمعهما صلة الدم عن طريق إسماعيل عليه السلام وإسحاق عليه السلام ابني إبراهيم عليه السلام وتلك ظاهرة لا تتكرر مع دينين سواهما. لكن الذي حدث هو أن التعايش السلمي الذي دام بينهما عبر القرون مالبث أن تلاشى بسبب قيام دولة إسرائيل47.

ويمكن تقديم حجج مقنعة على التشابهات العقدية بينهما، بل إن هناك شبه إجماع بين اليهود المعتدلين والمسلمين على العديد من القضايا الاجتماعية. لكن رغم ذلك كان إقحام الصراع العربي الإسرائيلي أحد عوامل إفساد مؤتمر الباحثين اليهود والمسيحيين والمسلمين المنعقد سنة 1979م بالاشتراك مع الأكاديمية الدينية الأمريكية48. وفي العشرين سنة التي أعقبت ذلك، حدث تقدم في العلاقات الإسلامية اليهودية، وإن ظلت الحساسية بين الطرفين قائمة، وربما لم يحن وقت محاولة جديدة لإصدار إعلان ثلاثي وإن ظل ذلك مرغوباً. وقد يكون من الأيسر العمل بشكل تدريجي ومن خلال جهود ثنائية مبنية على الجهود المبذولة في القاهرة وبكين تمهيداً لتضمين اليهود في تلك الأنشطة.

3-تنظيم جماعات المصالح، وتعبئة الناخبين وانتخاب المسلمين للمناصب السياسية. وقد تعهد المجلس الإسلامي الأمريكي- على سبيل المثال –بتسجيل أكثر من مليون ناخب للانتخابات المختلفة ولم يقف على بعض المثقفين المسلمين ملاحظة مزايا التعاون الإسلامي المسيحي ولا سيما الكاثوليك، ومن أكثر المقترحات إثارة للاهتمام هذا المقترح الذي قدمه محمد أركون أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة باريس49. فقد دعا إلى إقصاء الأديان التوحيدية الثلاثة المتبادل، لأنساقها السياسية والأخلاقية والعقدية، ولرؤية الغرب للإسلام كقوة متجانسة، وليس متنوعاً أيديولوجياً، وكبنية مفتتة سياسياً، كما هو الواقع، ويقترح أركون لإكمال المبادرات التي اتخذها مجلس الفاتيكان الثاني أن ينعقد مجلس ثالث، وأن يحاول المجلس الجديد"صياغة لغـة أمـل جديـدة ونظام دلالي خاص بها، يصبح ملزماً لكل الضمائر في القرن العشرين"، ويجب أن يكون لهذا المجلس مصادره الثقافية والفكرية والمؤسسية الثقة والمصداقية الأخلاقية وقنوات الاتصال والرصيد التاريخي المتطلبة كلها اليوم لأي تدخل لصالح الإنسانية . على المجلس ، علاوة على ذلك، ألا يضع المسيحية في مركز السمو العقدي. بهذا ينجز المجلس رسالة تاريخية قادرة على منح الجميع رجالاً ونساء الأمل، ولا سيما إذا ما بنى تدخلاته على إنكار جلي للتمييز اللاهوتي وأصل محله اعترافاً لا رجعة فيه، وإدماجاً لتعددية الصياغات الإنسانية للدلالات أو المعاني –"في نظام دلالي شامل". ويعترف أركون بخصوص اقتراحه هذا بأنه طوباوي مغرق في المثالية.

وثمة عوائق –لم يعرض لها أركون-يمكن المجازفة بعرضها هنا؛ إذ لما كانت كل من الأديان الإبراهيمية الثلاثة يدعي وضوحاً مقصوراً عليه دون سواه، فإن إنكار ثلاثتها لمثل هذه الإدعاءات يبدو غير وارد، ولن يصادف مثل هذا الإنكار قبولاً من وجهة نظر الكاردينال ارينز، لأن "أياً من الأديان ليس في صلاحية الآخرين"50. ويأتي الحافز الفعال – كما يرى أركون –من الفاتيكان، وتحديداً من خلال مجلس الفاتيكان كمؤسسة مرجعية وطيدة الأركان، إلا أن انعقاد مجلس الفاتيكان حدث لا يتم إلا كل قرن من الزمان. فما بين انعقاد مجلس سنة 325م، ومجلس الفاتيكان الثاني سنو1962م، مرت 1637 سنة ميلادية لم يعقد فيها سوى 17 مجلساً للفاتيكان فحسب. وكانت الفترة الزمنية بين كل من ستة مجالس منها قرناً من الزمان أو أطول. ولما عقد مجلس الفاتيكان الأول سنة1869م، كان ذلك بعد مضي 324 سنة على انعقاد مجلس ترنت، وقبل 93 سنة من انعقاد مجلس الفاتيكان الثاني. ولا يعني هذا أن انعقاد مجلس الفاتيكان الثالث محكوم بأطول الفترات بين المجالس السابقة. فإن سهولة التنقل ويسر المواصلات المعاصرة جعلت مثل هذا الجدول الزمني غير ذي موضوع. وعلاوة على ذلك قد يكون اليوبيل الفضي – وهو المشروع الأثير لجون يول الثاني –مناسبة ملائمة لانعقاد المجلس الثالث بعد 38 سنة يخططون لليوبيل، ولن يكون هذا الحدث مقصوراً على العلاقات الإسلامية المسيحية، فقد تناول مرسوم سنة 1965م اليهودية أيضاً. وفي الترجمة الإنجليزية لهذا المنشور البابوي كان حظ اليهودية 58 سطراً وحظ الإسلام18 سطراً، ورغم ذلك فإن الإسلام هو الذي يعده الفاتيكان التحدي الأكبر في مجال التنافس التبشيري في حين العلاقات مع اليهودية تدور حول التكفير والتفسير والاعتذار عن الماضي. وليس ثمة إشارات عن عداء في المستقبل.

ونقترح في هذه الأطروحة، أن تأتي المبادرة من أجل قضية مشتركة من هيئة إسلامية، تعمل في تعاون وثيق مع جماعات المصالح، والمؤسسات غير الإسلامية. ولن يكون أي مقترح آخر سهل التحقيق. وأخذاً كذلك بالطبيعة المتدرجة والمحددة لرجال الدين في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، التي عملت بكفاءة إعلامية طيلة ألفي عام أخذاً بكل ذلك ، فإن مقترح أركون قد يكون الأكثر ملائمة، فإنه يركز اقتراحه على مناقشات تعمق الفهم المتبادل والاحترام بين الدينين، وتنقل من مرحلة الحوار"إلى مرحلة من الفكر عمادها التكامل والتضامن التاريخي بين كل الشعوب"، إلا أن فكر أركون يقصر دون تقويم المشتركات في الرؤى حول القضايا الاجتماعية التي تهدد الحضارة بأكملها.

كما لم يقدم خطة جهد مشترك للعمل على تعزيز القيم الأخلاقية الإسلامية والمسيحية، وفي هذا الخصوص يختلف مقترح أركون عما جاء في هذه الأطروحة، التي تؤيد نوعاً من النشاط السياسي والدبلوماسي، كالذي بدأ في مؤتمري القاهرة وبكين. إلا أن مدخل أركون رغم هذه الملاحظات، له دلالاته، فهو يوضح الإمكانات الهائلة للمفكرين المسلمين، لاستعادة عالمية وشمول القرآن الأخلاقي والجمالي، وإذا توافر مناخ التفاهم بين الإسلام والمسيحية على أساس ذلك أصبحا شريكين لا متنافسين كما يفترض في إطار هذا المقترح الفعالية الفائقـة العالمية النطاق للبنة الكهنوتية الكاثوليكية قبل عقيدتها. وحري بهذه البنية أن يسند المبادرة ولا سيما فيما يتعلق باستكشاف القضايا المشتركة. ورغم أن ذلك لا يحدد عملاً سياسياً مشتركاً في قضايا اجتماعية بعينها، إلا أنه لا يستبعد أن نرى مثل هذا العمل المشترك تماماً، كما لم يستبعده أركون احتمال ظهور بنية سلطوية عالمية، تجعل من مفهوم الأمة واقعاً سياسياً. ويشف مقترحه عن إدراك أن كلا الدينين يمكن أن يظاهر كل منهما الآخر، وإذا شاعت وجهة النظر هذه على نطاق واسع بين المثقفين المسلمين، فقد يظهر بصيص أمل جديد للإسلام والغرب معاً. وقد دعا الكاردينال أرينز في أطروحته اللماعة الصريحة إلى حد غير مألوف إلى التكاتف، لتعزيز القيم الأخلاقية والتطور والعدل والسلام51، كما أكد أن الجهود المشتركة بين الأديان لمواجهة مشكلات كل المجتمعات هي جهود ملزمة لا اختيارية، وذكر على سبيل المثال المجلس العالمي للدين والسلام الذي عقد مؤتمره العالمي الأول في كيوتو سنة 1970م، ومؤتمر القاهرة للسكان والتنمية، الذي نتحدث عنه في موضع آخر من هذا البحث. وهكذا حقق أرينز الدعوة إلى العمل في القضايا المشتركة، التي أعلن عنها قبل ذلك بأربعة وثلاثين عاماً في منشور بابوي عام1965م.

مئوية الإسلام الرابعة عشرة:مشاكل وآفاق:

نهتم هنا بتوضيح المثل الإسلامية في القرآن الكريم والسنة، وكما هو الحال في كل الأديان والأيدلوجيات لا يتوافق الواقع دائماً مع المثل فلا يمكن مثلاً تجاهل الانتهاكات المعاصرة للمعتقدات الإسلامية، فالحروب القبلية وتجارة المخدرات في أفغانستان، وعمالة الأطفال والحروب اللغوية في ب اكستان، واحتجاز الرهائن والاغتيال والإرهاب على نطاق مفزع، هي بعض الأمثلة على تلك الانتهاكات، إلا أن الربط بين الإسلام والإرهاب هو ما يسترعي انتباهنا. فالإرهاب أمر محتوم ومبرر إذا ما استنـد مرتكبـوه لتبرير عملهم إلى الإسلام عامة، أو إلى مفهوم معين منه، أو إلى باب من أبواب الفقه كباب الجهاد. وقد كفى ذلك في الحقيقة دافعاً غير إسلامي، أو تفسيراً خاطئاً للإسلام أو يخفي وضع مرتكبي جرائم الإرهاب كجماعات هامشية منشقة لا تمثل الإسلام في شيء. وقد يدينهم المجتمع الإسلامي الأكبر، أم يتم حرمانهم من الجنسية في بلدهم الأصلي كما في حالة أسامة بن لادن. والربط بين ذلك وبين الأمة عامة ربط جائر. لماذا تتم المطابقة بين الانحراف عن المثل الواردة في القرآن في العالم الإسلامي من ناحية وبين الإسلام نفسه؟ على حين تفصل الانتهاكات المشابهة التي تقع في العالم غير الإسلامي عن سياقاتها الدينية؟ السبب أننا في العالم المسيحي نجد مثل الكتاب المقدس متأصلة بعمق في النفس حتى إنها لتحجب أو تغمر انتهاكاتها، فلا يصنف الإيرلنديون، ولا الصرب ولا الألمان على أنهم مسيحيون، أما في الإسلام فالمثل القرآنية قد تكون أكثر تأصلاً في نفس المسلم، إلا أنها غير معلومة للعقل غير المسلم في حين سلوك وتصرفات المسلمين والدول الإسلامية واضحة تماماً. حتى لحجب السلوك المبدأ السامي ويحرف المثل غير المعروفة لغير المسلمين. وعلى قدر هذه الانطباعات التي يحرفها السلوك، يجب أن يكون التأكيد على المثل الإسلامية ومقارنتها بنظيرتها من المبادئ غير الإسلامية وبالمشاكل الاجتماعية العالمية الملحة في عصرنا. يجب أن يكون ذلك التأكيد من جانب المسلمين هو الأمر الأشد ضرورة. ونؤكد هنا معتمدين على الاحتمالات المتفائلة لمستقبل الإسلام والغرب لموازنة الصور السلبية للإسلام ، والاعتقاد الخاطئ بأن الإسلام يتربص بالغرب، إلا أننا لا نعيش في عالم من الخيال ، فثمة مشاكل عارمة تواجه الإسلام، قد تؤدي –إذا لم تحل-إلى تدهور، وليس إلى إحياء المكانة والنفوذ الإسلامي في العالم . ومن المفارقات الصارخة أن الإسلام تحرر من السيطرة الاستعمارية، وأن بعض قطاعاته تتمتع بقدر من الثراء، ولكن في الوقت نفسه ومبتلى بالصراعات الإسلامية الداخلية وبالعنف المتفجر على أيدي الأقليات، ومبتلى كذلك بالاعتماد على التقدم التكنولوجي في العالم غير الإسلامي . ولا يتأتى إنجاز عمل مشترك فعال أمام هذه العقبات، فالمشكلة الفلسطينية/ اللبنانية يجب حلها، والعداءات فيما بين الدول الإسلامية، وفيما بين السنة والشيعة يجب علاجها. ويساعد على حل تلك المشكلات العربية التي تهدف إلى محاربته. ويقدم مجمع الفقه الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي جهداً بارزاً؛ لتحقيق الاتحاد والتماسك؛ لمعالجة المشكلات الإسلامية على مستوى العالم.

ولا يمكننا تجاهل المشكلات الأخرى التي تعوق مسيرة العالم الإسلامي، مكونة سحابة تغطي على الروح المتفائلة في هذه الأطروحة، فغالبية المسلمين يعيشون في فقر مدقع، وينطبق ذلك خاصةً على العشرين مليون لاجئ مسلم، كما ينطبق على غالبية الدول والأقليات الإسلامية، وتزيد معدلات زيادة السكان العالمية من فقر الدول الإسلامية، وعلى سبيل المثال فإنه الزيادة الطبيعية في العراق وليبيا وسورية والنيجر وباكستان والأردن وإيران يتراوح بين 3-307%، وهي أعلى معدلات في العالم، ويعيش المسلمون في مجموعة مختلفة من النظم السياسية تتراوح بين النظام الجمهوري العلماني التركي، وأيديولوجيات (بانكسيلا) في إندونيسيا، ونظام ليبيا العربي الجماهيري الاشتراكي، وجمهورية إيران الإسلامية إلى النظام السعودي المتميز. وليس ثمة اتفاق على نظام خاص للدولة الإسلامية، فشخصية الأمة هي بالأساس روحية. على حين مفهوم الدولة في العالم أنها السلطة السياسية المسيطرة، أما مبدأ قيام وحدة شاملة للعالم الإسلامي فيضعف منه التوترات داخل الكيان الإسلامي عامةً وما بين إيران والعراق خاصةً.

إن مفهوم التغير الكامل المقترح في هذه الأطروحة، هو في جوهره تقدير لإمكانات التأثير الإسلامي على الغرب في القضايا المشتركة وليس الصدام معه، وما هذا المقترح بالجديد بل كان-سمة العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين لأكثر من 1419عاماً، لكنها سمة خمدت جذوتها، إن لم تكن انتهت تماماً، خلال قرني الاستعمار.وهذا هو الوقت الملائم لقيام الإسلام بدور إيجابي فعال؛ بأن ينقل قيمه إلى عالم الأخلاقيات المريضة الهابطة52. ويجب على العالم الإسلامي رفض مفهوم التغريب الخادع الأحادي الاتجاه، إن العالم الإسلامي مثال على دورة التغير الثقافي ونفاذية الحدود الحضارية، ولقد استمر العالم الإسلامي عبر التاريخ رغم كل شيء أحد المصادر العالمية الأثر لإشعاع القيم الحضارية واستقبالها ونقلها وترجمتها من ثقافة إلى أخرى. ولم يكن لأية حضارة أخرى، بما فيها اليونانية والرومانية والفارسية، مثل خيرة المسلمين العالمية النطاق في مجالات التغير الثقافي الخمسة، وهي الإشعاع والاستقبال والنقل والترجمة والحفظ.

وقد تستغل فورات الأقليات المسلمة النضالية، ويمتد نطاقها، وهي تسعى وراء ما تفقده حقوقها المشروعة في كشمير وألبانيا وكوسفو والشيشان والبوسنة وغيرها. ورغم ما قد تتسم به هذه الأنشطة من مشروعية، إلا أنها تنال من رصيد الاحترام العالمي للإسلام، وعلى المسلمين الالتزام بتنبيه العالم الغربي إلى مشروعية هذه المطالب، فإذا ما تحققت الاستجابة لها، وتضاءل شبح الإرهاب تمت معها استعادة ظافرة لعالمية الهوية الإسلامية،ومعها نفوذ سياسي، ونمو روحي كنتيجة لها. وتكمن أكثر التوقعات المستقبلية للعالم الإسلامي تفاؤلاً في انفراده بالطهارة في صلاته ونشاطه في العالم غير الإسلامي. وهنا يبدو نسق القيم الإسلامية أكثر أصالة واحتفاظاً بنقائه من مبادئ المسيحية، التي ما فتئت توغل في عالم الخرافة والتعصب. ويكتب عن ذلك مراد والفريد هوفمان سفير ألمانيا السابق لدى الجزائر والمغرب، الذي اهتدى إلى الإسلام قائلاً:"أصبحت أوربة، وقد نزع عنها طابعها المسيحي، حتى لقد أضحى من المستحدث أن يقدم المرء نفسه على أنه ملحد أو من اللاأدريين، واختفى مفهوم الإله واقعياً من الفكر العام53.

وستشرف ولفهارت بانتبرج من جامعة ميونخ احتمال ألا تستمر أية كيانات كهنوتية في الفترة الأولى من الألفية الثالثة، باستثناء الرومانية والأرثوذكسية من ناحية أخرى54، ويتشكل في بقاء الثقافة المسيحية دون دعم من البنى الكهنوتية، وقد تتضاءل شدة التقوى والحماس لها نتيجة لذلك. وعلى الجانب الآخر، فإن الإسلام في مرحلة تطور دنيمية وفورية نشيطة، رغم أن السلوك في المجتمعات الإسلامية ربما لا يتوافق تماماً مع القيم القرآنية ، ولا يمكن أن نتنبأ إلى متى ستستمر هذه الأوضاع، وما إذا كانت ستنعكس، فيصبح الإسلام على سبيل المثال في حالة هبوط، وما سواه في صعود، إلا أنه في هذا المنعطف من التاريخ تحمل ديناميات الإسلام وقيمه المحددة – بوضوح-إمكانات نظرية لوقف تدهور العالم الأخلاقي. ولن يحدث هذا إلا إذا توافقت صورة الإسلام على الشاشة العالمية وتصرفات المسلمين على الساحة العالمية مع مبادئ العدل والسلام وحرمة الحياة في الإسلام.

إن الحضارة تواجه تهديداً ليس للقيم الإسلامية فحسب، بل لقيم كل المؤمنين بالحياة الروحية، فالأبعاد العقدية للروح واقعة تحت الحصار ، وإذا ما ربط الإسلام نسقه من القيم بقيم العالم غير الإسلامي المشابهة من أجل جهد مشترك للتأثير على المجتمع البشري، فإنه يكون قد أنجز ما قدره القرآن الكريم.

المصدر: http://science-islam.net/article.php3?id_article=630&lang=ar

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك