الحوار والهويات الصلبة
عبد الله المطيري
المنظومة الأخلاقية للهوية "الصلبة" حادة جدا، بمعنى أنها ترسم خطا واضحا بين الخير والشر، يتم من خلاله تصنيف الناس إلى أخيار يشبهوننا وأشرار وفاسدين يختلفون عنّا
انتهت المقالة الماضية عند الحديث عن نوع خاص مما يمكن تسميته بـ"إنسان المظهر". قلنا إن إنسان المظهر يأتي كمقابل لـ"إنسان الجوهر" في الحوار. بمعنى أنه الإنسان الذي يريد الظهور في الحوار ظهورا يختلف عما يعتقد أنه حقيقته أو شخصيته الحقيقية. المثال الصارخ لإنسان المظهر هو الإنسان الذي يدخل العلاقات الإنسانية لأغراض عملية لا مانع لديه من أن يتقمّص أي شخصية لتحقيقها. أي إنه الشخص الذي لا يعتقد أن من حق الناس عليه أن يصدق معهم بقدر ما يعتقد أن السلوك الاجتماعي هو عبارة عن تقمّصات متعددة لأدوار مختلفة وأن النجاح الاجتماعي يتطلب القدرة على تقمّص هذه الأدوار. قلنا إن هذا هو المثال الصارخ، ولكننا قلنا أيضا إن هذه ليست كلّ الصورة. هناك إنسان مظهر غير مدفوع بوعي نفعي أناني بقدر ما هو مدفوع بتشكيل معيّن لهويته يجعل من سلوكه الحواري تعبيرا عن هويّة أخرى ليست بالضرورة هويّته الخاصة، أو أنه، وإن اعتبرها هويته الخاصة فهي مفروضة عليه اجتماعيا ولم تتحول بعد إلى هوية شخصية. هذه الشخصية هي موضوع هذا المقال.
شخصيتنا اليوم هي نتيجة لجدلية في حياة البشر. هذه الجدلية تتكون من نقيضين جوهريين. الطرف الأول يتكون من واقع بشري يتشكل من حقيقتين سأتحدث عنهما هنا بشكل مختصر. هذا الواقع هو التالي: تشكيل الهوية الشخصية عملية معقدة وإحدى الحقائق البشرية أن الإنسان يبقى لمدة طويلة من عمره عالة على الآخرين ودوره محدود في تشكيل هويته الشخصية. أحكي تحديدا هنا عن فترة الطفولة الطويلة من عمر الإنسان، والتي يبقى فيها الفرد عالة على غيره لتوفير أساسيات الحياة. هذه الفترة هي أيضا فترة أساسية في تشكيل الهوية الشخصية. إذن نحن أمام حقيقتين أساسيتين: الأولى أن الطفولة مرحلة أساسية في تشكيل الهوية، والثانية أن الإنسان يبقى عالة على غيره في هذه الفترة، مما يعني أن الهوية الشخصية، خصوصا في فترة تأسيسها، تتم بتأثير أكبر من الآخرين أكثر من الفرد نفسه. هنا يكون الفرد خاضعا لقدر كبير من الحظ والظروف الخارجية التي قد تضعه في بيئة ترعى فيه طبيعته الحوارية أو بيئة مغايرة تغلق فيه ممرات ومنافذ الحوار.
موضوعنا في هذا المقال ينتمي للبيئة الثانية. أي البيئة التي تكافح الطبيعة الحوارية عند الإنسان لتستبدلها بطبيعة منغلقة على ذاتها. الانغلاق هذا يتحقق من خلال إضعاف قدرة الفرد على رؤية آخرية الآخرين. أي إضعاف قدرته على رؤية طبيعية أو جمال اختلاف الناس عنه. الاختلاف بالنسبة للهوية المنغلقة هو انحراف وخلل والتعامل الوحيد معه هو إصلاحه أو القطيعة معه. هذه الهويّة تتحقق من خلال برنامج التربية والتعليم الذي يخضع له الأطفال ويستمر عليه الكثير منهم. المنظومة الأخلاقية لهذه الهوية "الصلبة" حادة جدا، بمعنى أنها ترسم خطا واضحا بين الخير والشر يتم من خلاله تصنيف الناس إلى أخيار يشبهوننا وأشرار وفاسدين يختلفون عنّا. نظرية المعرفة لهذه الهوية حادة أيضا، بمعنى أنها تحدد حقا لا يخالطه باطل هو ما نؤمن به، وباطلا لا يخالطه حق هو ما يؤمن به المختلفون عنّا. هذه البيئة عادة ما تنتج تربية حادّة في البيت والمدرسة وباقي المؤسسات الاجتماعية. الفضاء العام ليس مكانا للحوار بقدر ما هو مكان لإعلان الموافقات وللتأكيد على ما هو قائم ولتعزيز ما هو متقرر من قبل. كما نشاهد هذه المساحات ضيقة جدا للحوار، والهوية التي تتشكل فيها لا تعرف إلى قدر كبير دورا للحوار في الحياة وفي التواصل مع الناس.
النقيض الثاني في جدلية الهويّة القلقة هو هذه الحقيقة التي أشار لها سارتر من قبل، وهي أن كل الحواجز التي تضعها التنشئة والثقافة والتربية والأحداث التاريخية بين الناس لا تجعل التواصل بينهم مستحيلا. بمعنى أن هناك منفذا داخل كل إنسان لا يمكن إغلاقه بالكامل. الحياة الإنسانية قائمة على حقيقة التواصل وحقيقة الاختلاف. مجرد وجود الإنسان بجوار إنسان آخر يؤثر في سلوكه وتفكيره. مجرد نظر الإنسان في عين إنسان آخر يطلق شرارة تواصل لا تنقطع إلا بفراق فيزيائي، وفي كثير من الأحيان لا تنتهي أبدا. الخيار الوحيد للقضاء على الطبيعة الحوارية لدى الإنسان هو أن ينقطع فيزيائيا عن الناس، ونحن نعلم أن هذا الخيار مستحيل لغالب البشر. أولئك في السجون الانفرادية أو ضحايا الاكتئاب الحاد حالات استثنائية، وربما لو بحثنا في دواخلهم لوجدنا تواصلا لا مباشرا مع الناس بشكل مذهل.
شخصيتنا التي نفكر فيها هنا هي حالة تعيش هذه الجدلية، أو بالأحرى تشكّلت بهذه الجدلية، من جهة طبيعتها البشرية التواصلية مع الناس ومن جهة أخرى هويّة صلبة قامت ببناء حواجز بين هذا الإنسان وبين الآخرين في فترات من عمر الإنسان كان فيها الطرف الأضعف والأكثر فعالية في المعادلة المفروض عليها، فهو لم يختر عائلته ولا مدرسته ولا المجتمع والثقافة التي ينتمي لها. هذه الشخصية تكبر وتضطر في الحياة لتوسيع علاقاتها الاجتماعية في العمل وفي الزواج وفي المشاركات والمناسبات الاجتماعية. اليوم هذه الشخصية تعيش في عالم يتفجّر يوميا بإمكانات جديدة وسهلة للتواصل مع الناس على مختلف توجهاتهم وشخصياتهم. يتحرك في هذا العالم بهوية لم يتم تصميمها ولا تأسيسها لهذه الأغراض. لنلاحظ هنا أن هذه الشخصية ليست مشغولة بتحقيق مكاسب أنانية ولا تتحرك في هذه الأجواء بخطط مرسومة سلفا بقدر ما هي شخصية صادقة ومأزومة. صادقة لأنها لا تريد التمثيل ولا التقمّص، ومأزومة لأنها تحمل تاريخا ومضمونا يعيقان تواصلها مع الناس ويحرمها من رؤية الناس ككائنات مختلفة دون إطلاق أحكام تحجبهم وتبعدهم أكثر. لنا حديث أطول حول هذه الشخصية في الأسبوع المقبل.
المصدر: http://www.amnfkri.com/news.php?action=show&id=24607