الاتجاه نحو ضفة الأطلسي.. وجوه أمريكا المتعددة في الرواية العربية

فخري صالح
يدور جزء من المتن الروائي العربي حول العلاقة بالآخر الغربيّ. ويمكن القول إن حركة تطور النوع الروائي العربيّ تتصل اتصالا وثيقا بعملية التفكّر بالآخر سرديّا، وتقليب علاقة الشرق والغرب على وجوهها لغرض فهم الذات قبل فهم الآخر. نعثر على بذور هذا الاشتباك مع الآخر الأوربي بصورة خاصة في أعمال سردية تنتمي إلى القرن التاسع عشر مثل «الساق على الساق على الساق في ما هو الفارياق» لأحمد فارس الشدياق؛ وكذلك في أعمال تنتمي إلى القرن العشرين، خصوصا النصف الأول منه، وصولا إلى ستينياته، مثل «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس، و«موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح، لنذكر بعضًا من أبرز الأعمال التي ركّزت شغلها الروائي على ثيمة العلاقة بالآخر وحاولت قراءة وجوه الصدام واللقاء من خلال الرحلة إلى الغرب. وقد سعت أجيال متعاقبة من الروائيين العرب، الذين ينتمون إلى حقبة اللقاء بالغرب عن طريق الرحلة أو الدراسة، إلى التشديد على استحالة اللقاء، انطلاقا من صعوبة توافق روحانيّة الشرق وماديّة الغرب (كما في «عصفور من الشرق»)، أو بسبب جرح الاستعمار الغائر والسعي إلى تحقيق غزوة معاكسة في عقر دار الغرب (كما في «موسم الهجرة إلى الشمال»). لكن تنوّع صور الغرب، ومفارقتها لهذا التصوير النمطيّ والاستقطاب الحاد، لم يتحقق إلا بعد رحيل الاستعمار عن العالم العربي بعقود من الزمن، وانفتاحِ كلا العالمين الغربي والعربي على بعضهما من خلال أشكال لا تحصى من التجارب وسبل اللقاء والاحتكاك والصدام، لتصبح صورة الآخر الغربيّ أكثر معقوليّة وأقلّ نمطيّة. هكذا شهدنا خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكذلك في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فيضًا من الأعمال الروائية التي تدور حول تجربة اللقاء بالغرب بصور متعددة يحتاج رصدها إلى عمل بحثيّ واسع. لكن ما أرغب في تناوله هنا يتمثّل في تغير جغرافيّة الغرب في الرواية العربية خلال الوقت الراهن لتصبح أمريكا في قلب هذا المشهد لا على حوافّه كما كانت حتى وقت قريب. تفكيك صورة أمريكا يمكن أن نعزو تركيز الروائيين العرب الآن على كتابة روايات تدور أحداثها في الولايات المتحدة، أو أنها تتفكّر في علاقة الصراع القائمة بين العرب وأمريكا، إلى الاصطدام وجهًا لوجه مع شرطيّ العالم وقطبه الإستراتيجي الأوحد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الاشتراكيّة في ثمانينيات القرن الماضي. ثمّة عشرات من الروايات العربية الصادرة خلال العقد الأخير تدور أحداثها في مدن الولايات المتحدة وتسعى شخصياتها على الأرض الأمريكية، حيث تقدم كلٌّ منها صورة مختلفة لأمريكا: أرض الفرص وفضاء الحريّات الفرديّة والتعددية، أو أرض إبادة السكان الأصليين والتمييز الحاد بين الأعراق والثقافات، أو الدولة الغازية التي تعيدنا مرة أخرى إلى زمان الاستعمار التقليدي الراغب في نهب ثروات الأمم تحت ستار نشر النسخة الأمريكية من الديمقراطية. لكن هذه الروايات لا تكتفي بتقديم صورة نمطيّة أحادية الجانب، كما فعلت الروايات التي سبقتها في تصوير الغرب الأوربي، بل تمزج بين هذه الصور جميعا مقدمةً صورة شديدة التركيب والتعقيد والنسيج المتشابك لأمريكا والعلاقة معها. إن الروائي العربي، بحكم تطوّر المدوّنة الروائية العربية، وكذلك بسبب تجربة عيشه في الفضاء الأمريكي وقدرته على أن يلمس الخارطة السياسية والاجتماعية والثقافية المعقدة للديار الأمريكية، ينجح في تقديم صورة مختلفة لأمريكا أخرى غير تلك التي يُكن لها العرب عداء مبررا على خلفية تحالفها الإستراتيجي مع إسرائيل، وكذلك بسبب دعمها للمستبدين والطغاة والفاسدين في العالم العربي. هكذا يجري في عدد من الروايات العربية الطامحة إلى تفكيك صورة أمريكا وإعادة تركيبها سرديّا تقديمُ أمريكا مشقوقة من الداخل، أمريكا تتراتب فيها الأعراق والطبقات ويسحق الفقر ملايين من البشر فيها، بحيث ينكشف الوهم وتتبدد أسطورة أرض الفرص وانصهار الأعراق والثقافات. ولجلاء هذه الصورة المتحوّلة سوف ألقي نظرة طائر على عدد من الروايات الصادرة خلال العقد الأخير والتي تشيّد فضاءها السرديّ التخييلي ضمن الجغرافيا الأمريكية. أرض الفرص في «أمريكا» يعيد الروائي اللبناني ربيع جابر تمثيل مقولة «أرض الفرص» من خلال تصوير مسار حياة الشابة السورية الجميلة والفقيرة مرتا حداد التي ترتحل في العام 1913 من قريتها «بْتاتر»، الواقعة في جبل لبنان، بحثًا عن ابن عمها وزوجها الذي انقطعت عنها أخباره بعد زواجه منها ورحيله إلى أمريكا. ولكنها تصطدم بحقيقة غياب الزوج واختفائه تمامًا من مدينة نيويورك التي قيل لها إنه كان يسكنها، ثم عيشِه في كنف امرأة أمريكية غنيّة. وهو ما يدفعها إلى الامتناع عن لقائه حين تراه من بعيد جالسًا مع عشيقته الأمريكية، مصرّة على الكفاح ليل نهار لتصبح مالكة مزرعة كبيرة في باسادينا، بعد أن طوّحت بها الحياة يمينا وشمالا، بين وهدة الفقر وسدّة الغنى. ورغم أن الرواية تتنقّل بنا في الجغرافيا الشاسعة للولايات المتحدة، بين ساحلها الشرقي وساحلها الغربي، وصولًا إلى جبهات القتال في أوربا خلال الحرب العالمية الأولى، فإن المسعى الأساسي للعمل هو تصوير الرحلة المنهكة التي تقوم بها امرأة صغيرة فائقة الجمال، بلا حول أو طول، ومن دون معين، في الجغرافيا الأمريكية التي تبعث الرعب في عقول وأجساد عتاة الرجال. تشترك مرتا في إصرارها على العمل وتكوين الثروة مع من يطلق عليهم في التاريخ الأمريكي «المؤسسين الأوائل» الذين بنوا الولايات المتحدة، كما تقدم صورة ناصعة للمهاجرين السوريين إلى أمريكا في أوائل القرن العشرين ممن كافحوا من أجل اندماج الجالية السورية في نسيج الشعب الأمريكي. ومن هنا فإننا لا نصادف في الرواية سوى المجتمع الأمريكي الطيّب، مع استثناءات قليلة لا تغيّر كثيرا من الإطار العام للصورة الكليّة لمجتمع ودود عطوف متراحم تعصف به الطبيعة الغاضبة سيئة المزاج. بهذا المعنى يكتفي الكاتب بتصوير صراع الطبيعة والإنسان، مُغفِلا صراعات البشر في أمريكا، وتكالب الناس في «أرض الفرص» على الثروة، ناقلا الصراع إلى خارج الولايات المتحدة، إلى أراضي أوربا التي تدور فيها حرب كونيّة يموت فيها زوج مرتا لتتحرر من عقد زواجه منها وتتزوج بعد ذلك زواجًا مدنيّا من رجل درزي يدين بغير ديانتها المسيحية، في إشارة إلى ما توفره أمريكا أيضًا من تسامح وزوالٍ للفروق والحواجز بين الأديان والطبقات والأعراق والثقافات. إنها صورة نمطيّة مصنوعة لأمريكا تغمض العين عن حقائق الصراع الذي يدور في تلك الجغرافيا السياسية الطبيعية الشاسعة. ولا يختلف تصوير ربيع جابر، من حيث أحاديته ونمطيته ورؤيته للجانب المشرق من العيش الأمريكي، عن تصوير توفيق الحكيم للثنائية الشهيرة التي تتقابل فيها روحانيّة الشرق مع ماديّة الغرب في حوار محسن مع إيفان. أمريكا العلم المعرفة في سياق آخر من تقديم إطلالة مختلفة على أمريكا تبني الكاتبة الفلسطينية الأردنية ليلى الأطرش في روايتها «رغبات.. ذاك الخريف»، وعلى خلفيّة التفجيرات الإرهابية التي ضربت عددا من فنادق مدينة عمّان في 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 2005، شبكة معقدة من الأحداث والتفاصيل تتداخل فيها الجغرافيا السياسية والاجتماعية لأردن القرن الحادي والعشرين مع صورة أمريكا في جانب من جوانبها. لكن ما يهمّنا هنا هو الفصول التي تدور في مدينة أيَوا الأمريكية، وتصوير وصول طالب دراسات عليا أردني إلى تلك المدينة الأمريكية الشهيرة بمكانتها العلمية والثقافية بين مدن الولايات المتحدة، وذلك لمتابعة دراسته لعلم الجينات وتأثيره على الأمراض الوراثية. تحكي الرواية عددا من القصص التي تدور أحداثها في أماكن عديدة: عمان، فلسطين المحتلة، الكويت، بيروت، باريس، وكذلك أيوا، لتلتقي هذه الحكايات في النهاية في مصبّ الرواية الأخير، أي في حوادث التفجير المروّعة التي ضربت هدوء عمان في ذلك الخريف الأردنيّ الدامي. وتمثّل حكاية غيث الحسنات العائد من أمريكا في ذلك الخريف الصورةَ الملتبسة لطالب العلم الذاهب للتزوّد بالمعرفة، فيعود مثقلا بالمال الذي توفره «أرض الفرص» الأمريكية للطامحين بالثروة. تُصَوَّر أمريكا هنا بوصفها «أرض البحث العلمي» التي يمكن للمواهب الآتية من أصقاع الأرض جميعها، شمالها وجنوبها، غربها وشرقها، أن تجد فرصتها في التعلم والتفوق وتحقيق آمال طمحت إليها ولم تستطع القبض عليها في أوطانها. هذا ما تفعله هبة، خطيبة غيث، وكذلك خالها، والطالب الصيني المثابر زميل غيث، والفتاة الكمبودية اللقيطة التي تبناها زوجان أمريكيان عاقران من أحد الملاجئ، بعد أن تخلت عنها أمها البيولوجية. وتؤشّر هذه النجاحات في ميدان البحث العلمي على الأرض الأمريكية، وباستخدام المال والتقدم العلمي اللذين توفرهما الولايات المتحدة للعاملين من العلماء فيها، بغضّ النظر عن الأوطان التي جاؤوا منها، الجانبَ المشرق من التجربة الأمريكية. إنها أسطورة «أرض الفرص» في صياغة معاصرة، بل راهنة. وليس حديث غيث في الحوار الذي يدور مع الخال الطبيب والعالم الشهير في جامعة أيوا حول إبادة السكان الأصليين من الهنود الحمر، الذين كانوا يسكنون المدينة، سوى ذكرى شبحيّة آتية من ماضٍ بعيد لا يلوّث صورة الحاضر ولا يؤثر كثيرًا في الصورة النهائيّة لأمريكا التي تفتح الباب واسعًا للعقول النيّرة لتصبح جزءا لا يتجزأ من الثروة المعرفيّة والعلميّة لأقوى دولة في العالم. ولهذا فإن نكوص الطالب الأردنيّ المتفوق عن متابعة بحوثه العلمية واختياره أن يلاحق الثروة والربح، من خلال العمل في العقارات، ليسا سوى انعكاس لفرديّته وعدم قدرته على العمل الجماعيّ في فريق البحث العلمي في جامعة أيوا، على عكس زميله الصينيّ الذي يعمل بدأب ونشاط من دون تذمّر ويحوز ثقة أستاذه الأمريكي الذي يرأس فريق البحث في علم الجينات. بغضّ النظر عن كون هذا الجزء من رواية ليلى الأطرش تفصيلا صغيرا من بين تفاصيل كثيرة تحكي عن حيوات عديدة لأناس متباينين لا يعرف بعضهم بعضًا، حيث تسعى الروائية إلى جمع خيوط نسيجها الروائي في مشهد التفجيرات الإرهابية، فإنه يبدو كاشفًا في النهاية عن صورة نمطية متداولة لأمريكا: أمريكا التي توفّر للذاهبين إليها النجاح والثروة والتقدم. لكن هذه الصورة، كما سنرى في الروايتين التاليتين، خادعة وغير حقيقية. إنها تمثل وجها واحدًا مشرقًا إلى جانب وجوه بشعة كثيرة، وخصوصا أن تمويل البحوث العلمية التي تقوم بها الجامعات من قبل شركات الأدوية يكشف كذلك عن تواطؤ البحث العلمي مع رأس المال وتحوّله أحيانا إلى خادم ذليل لشركات الأدوية العملاقة التي لا يهمها سوى تحقيق الربح الوفير، حتى لو كان ذلك على حساب المرضى المساكين وراء البحار ممن لا يستطيعون توفير ثمن الدواء. هويّة مزدوجة توفر رواية «الحفيدة الأمريكية» للكاتبة العراقية إنعام كجه جي صورة أخرى لأمريكا في عمل تنطلق أحداثه من مدينة ديترويت الأمريكية وتنتهي في الأرض العراقية، كما أنها تبدأ في الأرض العراقية لتنتهي في ديترويت. هكذا يتأرجح صوت «زينة»، الراوية وصاحبة الحكاية، بين ماضي جدّها وجدّتها في الموصل، وأمها وأبيها في بغداد، وحاضرها وحاضر أسرتها الهاربة من قمع نظام الرئيس العراقي السابق صدّام حسين إلى أمريكا. وتعتمد كجه جي نوعا من السرد الدائري الذي يسعى إلى إضاءة حكايات الحاضر من خلال الإشارة إلى حكايات الماضي. تمثّل رواية «الحفيدة الأمريكية» محاولة لاستكشاف المعاني المركبّة لمفهوم الوطنيّة، من خلال تقديم مقاربة سردية للاحتلال الأمريكي للعراق. وهي تنتسب إلى نوع «الميتارواية»، أو الرواية داخل الرواية، حيث يكشف الكاتب عن البعد التخييليّ في عمله، كما تشتبك الشخصية مع صانعها وتتمرد عليه في حكاية، تشبه حكايات مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» للكاتب الإيطالي لويجي بيرانديللو. في هذا السياق من الصراع المحتدم، بين الكاتبة والشخصية التي تصطنعها، تتوضّح لنا رؤيتان متعارضتان لمفهوم الوطنيّة، فالكاتبة في الرواية ترى أن الشخص لا يستطيع أن ينتمي إلى الوطن الأم والوطن المتبنّى في الوقت نفسه، فيما ترى الشخصية أن ذلك ممكن ولا يشكّل عملا من أعمال المستحيل. إن الشخصية تحاول تبرير وضعها كفتاة عراقية تعمل مترجمة للعدو الأمريكي الذي يحتل بلادها، وتساهم مع قواته الراجلة والمحمولة في اقتحام بيوت أهلها العراقيين. لكن تبنيها لهويّة أمريكية - عراقية مزدوجة يمزقها ويشقّها في الحقيقة من الداخل، تاركًا شروخًا وندوبًا عميقة في نفسها بعد أن تقرر العودة إلى الولايات المتحدة على أثر وفاة جدتها حزنا وكمدا على «الحفيدة العراقية التي تعمل مع الأمريكان». تبدو الصورة التي تقدمها هذه الرواية للوطن المتبنّى أمريكا سوداء كابية، ليس فقط بسبب إشارتِها العابرة إلى أحداث سجن أبي غريب، وكذلك تصويرِها للمداهمات الليلية التي يقوم بها الجنود الأمريكان للعراقيين الأبرياء، أو ذكرِها لواقع الدمار والخراب الذي تسبب به الاحتلال الأمريكي للعراق، بل لتبنيها أيضًا هويّةً مزدوجة: كاتبة وراوية تسعيان إلى وضع الوطنيّة العراقيّة المتكبّرة مقابل العنجهيّة الأمريكية السافرة التي لا تتورّع عن القتل تحت ستار التبشير بنموذج الديمقراطية الأمريكية، وفرض هذا النموذج على الشعوب، والادعاء بأنها تخلّص هذه الشعوب من الاستبداد والطغيان. وكما يقول أخو «زينة» في الرضاعة، الملتحق بجيش المهدي الشيعيّ، «فقد خلّص الأمريكان المدينة من كينغ كونغ ولكنهم أخذوا العراق مكافأة لهم على ذلك». تحضر أمريكا في رواية إنعام كجه جي كدولة استعمارية غازية، ويُصوَّر جنودها، رغم تعاطف الشخصية مع قتلاهم الذين ترتفع شواهد قبورهم في المقبرة الأمريكية البعيدة، بوصفهم ضحايا الحلم الأمريكي الذي تحوّل إلى كابوس ثقيل في بدايات القرن الحادي والعشرين. إنها أمريكا أخرى لا تشبه تلك التي رأيناها في رواية ربيع جابر «أمريكا» أو في الفصول الأمريكية في رواية ليلى الأطرش «رغبات.. ذاك الخريف». تشريح أمريكا بالمقارنة مع الروايات الثلاث السابقة، فإن طموح رواية «أمريكانلي» لصنع الله إبراهيم هو تقديم تشريح شديد العمق لأمريكا تاريخًا وحاضرًا معاصرًا، وذلك من خلال رحلة أستاذ أكاديمي متخصص في التاريخ إلى مدينة سان فرنسيسكو لينجز مع طلبة الجامعة حلقة بحث في التاريخ المقارن. وعلى طريقة صنع الله إبراهيم في المزج بين التخييل الروائي والوثيقة، تتكشّف أمريكا في جوانب من ماضيها وحاضرها للقارئ الذي يتبيّن النسيج المتشابك المتعدد للمجتمع الأمريكي. ولجلاء صورة أمريكا بطبقاتها المتراكبة، يلقي الكاتب الضوء على بعض مظاهر المجتمع الأمريكي في التاريخ والحاضر المعاصر، حيث يكلّف الأستاذ الجامعي طلبته بكتابة بحوث حول عدد من الموضوعات التاريخية الخاصة بالمجتمع الأمريكي أو المجتمع المصري، ليخلص الراوي المشارك في «أمريكانلي»، أي الأستاذ المصريّ الزائر في الجامعة، إلى عرض الجوانب الكاشفة في هذه البحوث، مزاوجًا بين تلخيص ما يقول إنه بحوث قام بها طلبته، وسردِ الحياة اليومية والتجارب التي تصادفه أثناء رحلته التدريسيّة في أمريكا، متجوّلا في شوارع سان فرنسيسكو ليشاهد جوانب التطور والتقدم العلمي والمعرفي والعمرانيّ، والتنوع الإثنيّ والثقافي، والتشابك الحضاريّ في هذا المجتمع؛ وليرى في الوقت نفسه مظاهر الجريمة المنظمة، وتعقيدات العيش والتباين الهائل في دخول البشر وانقسام المجتمع الأمريكي إلى قلّة تملك وكثرة كاثرة تجاهد للعيش على حدود الكفاف. في هذا السياق من المزج بين الوثيقة، أو البحث التاريخي، وحكايات الشخصيات الروائية، من طلبة وأساتذة وعاملين وباحثين في الجامعة، يسعى صنع الله إلى تقديم رؤية مغايرة لأمريكا الغنية مانحة الفرص، كاشفًا عن زيف ما يسمى «الحلم الأمريكي»، عبر العودة للبحث في إبادة المستوطنين للسكان الأصليين من الهنود الحمر، أو البحث في صيغ تكوّن الثروات في أيدي مجموعة قليلة من أصحاب المال في أمريكا، أو أشكال تعامل أمريكا مع الغرباء الوافدين إليها من دول عديدة، أو حديث بعض الشخصيات عن الأحلام الثورية التي راودتها في شبابها أثناء صعود الحركات المناهضة للحرب على فيتنام، ما يمكّن القارئ، من خلال تتبعه لنمو خيوط النسيج الروائي، من الوقوع على صورة أمريكا المنقسمة على ذاتها، ويبدد الصورة البرّاقة التي تقوم أمريكا بترويجها عن ذاتها. وكما يقول لاري، أحد الطلبة المشاركين في حلقة البحث التي يديرها الراوي، فإن هناك قدْرًا كبيرًا من المبالغة في الحديث عن «سان فرنسيسكو كمدينة التسامح والتعايش. فقد قامت المدينة عمليا فوق جثث الهنود الحمر. وتعرّض المهاجرون الشيليون الأوائل للاضطهاد من جانب المستوطنين البيض. وعندما اكتمل بناء خط حديد الشرق وقعت أزمة اقتصادية حادة، فألقى هؤلاء باللوم على المهاجرين الصينيين الذين عملوا في بنائه. وجرى اضطهادهم وملاحقتهم ووشمهم بالحديد المحمي أو قطع ألسنتهم وآذانهم وحرق محالهم. وتكرر الأمر بعد ذلك خلال الحرب العالمية الثانية مع اليابانيين ثم مع السود الذين حلّوا محلّهم. حتى منتصف الستينيات كانت بعض المطاعم تعلّق على أبوابها لافتة «ممنوع دخول الزنوج والكلاب»». (ص: 257- 258) وهذا كلام يجري تعزيزه من خلال البحوث التي يتقدم بها طلبة آخرون، وكذلك من خلال الحكايات الشخصية للراوي، سواءٌ تلك التي تنتمي إلى ذكرياته وتجاربه السابقة أو عبر معايشته اليومية واستكشافاته وجولاته في ظاهر المدينة وباطنها. من الواضح في رواية صنع الله إبراهيم، الذي يضع لها عنوانا مزدوجا يقصد منه تشريح أمريكا من الداخل والمحاكاة الساخرة لعلاقة العرب والمصريين بأمريكا المهيمنة والباسطة نفوذها الإستراتيجي في هذه المنطقة من العالم: أمريكانلي (أمري كان لي)، أنها تسعى إلى تعميم صورة سان فرنسيسكو المدينة على أمريكا الدولة العملاقة، دون أن تقع في التبسيط الشديد المُخلّ الذي يزيّف الصورة الفعليّة للمجتمع والدولة الأمريكيين، ويدفع القارئ إلى اكتشاف الغايات الأيديولوجية والفكرية التي تقيم في أساس هذا العمل الروائي. ومن هنا تلعب الوثيقة، أو المادة الوثائقية الكاشفة والموجهة والقائمة على عملية بحث دؤوب في التاريخ الأمريكي، دورًا مركزيًا في تقديم صورة توحي بالموضوعية، وتدّعي في الوقت نفسه أنها مجرد آراء يلقي بها الطلبة في حلقة بحث دراسية جامعية. وهو ما يحفظ رواية صنع الله إبراهيم المتشابكة الملتفّة، متعددة الشخصيات والحكايات والحبكات، من الوقوع في دائرة السحر الأمريكي من جهة، أو الاكتفاء برجم أمريكا وتقديم صورة مشيطنة لها من جهة أخرى. الروايات
|