الخطة الشاملة للثقافة العربية استطلاع نقدي.. وتطلع (واقعي)?!

 

سامي خشبة

كانت هذه الخطة عملاً هائلاً بكل المقاييس تجسّدت فيه طموحات نخبة من صفوة ممثلي الفكر العربي الحديث.

مع انتهاء سنة 2000 ميلادية, تكون قد انقضت خمسة عشر عاماً كاملة على صدور: (الخطة الشاملة للثقافة العربية), فقد وافق المؤتمر الخامس لوزراء الثقافة العرب (تونس - نهاية نوفمبر - 1985) على: (الخطة الشاملة للثقافة العربية في واقعها ومستقبلها), وبعد شهر واحد (نهاية ديسمبر من العام نفسه) اتخذ المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم, قراره المماثل بالموافقة على الخطة.

ومع انتهاء عام 2000, يكون قد انقضى عامان على انتهاء: (العقد العشري العالمي للتنمية الثقافية) الذي أقره المؤتمر العام لليونسكو (المنظمة الدولية للثقافة والتربية والعلوم) والذي دام على مدى السنوات العشر 1988-1998. وكان المؤتمر العام للمنظمة العربية قد أقر اعتبار الخطة الشاملة للثقافة العربية: (إسهاماً من الدول العربية والمنظمة في العقد العشري العالمي لتنمية الثقافة).

ولقد صدرت الخطة, في صورتها المكتملة والتفصيلية في مجلدات عدة, في دولة الكويت, حيث تولى الأستاذ عبدالعزيز حسين - وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء ورئيس المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويتي حينذاك - رئاسة اللجنة (العليا) التي تولت (التخطيط) لوضع الخطة عن طريق تشكيل لجان متخصصة عدة في مختلف مجالات الإبداع والعمل الثقافيين و (الخدمات) الثقافية, عقدت هذه اللجان أكثر من ثماني وعشرين ندوة, وشارك في العمل نحو خمسمائة مفكر ومتخصص وباحث من أقصى المغرب إلى المشرق, وقدم عدد منهم ما يزيد على ستين بحثاً - استرشدت بها اللجنة العليا - وبما دار في الندوات من مناقشات, واستمر العمل نحو ست سنوات كاملة منذ صدور توصيتي مؤتمري الخرطوم وطرابلس العامين للمنظمة في شهرين متتالين في بداية عام 1979 لكي تنتهي إلى الخطة التي شملت نحو أربعين مجالاً للعمل والإبداع والخدمات الثقافية في أقطارنا الواحد والعشرين.

لقد (كان) عملاً هائلاً بكل المقاييس تجسّدت فيه كل طموحات هذه النخبة المنتقاة من صفوة ممثلي الفكر العربي الحديث - في الثلث الأخير من القرن العشرين (مع الدكتور محيي الدين صابر - الذي كان يشغل منصب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الذي شارك في كل أعمال اللجنة العليا للخطة برئاسة الأستاذ عبدالعزيز حسين), وهي الطموحات (القومية) التي تمثلها وعبر عنها المؤتمر الأول لوزراء الثقافة العرب (عمان - ديسمبر 1976) في مسلماته الخمس: الثقافة قوام شخصية الأمة ودعامة وحدتها الشاملة, ضرورة وضع سياسة ثقافية عربية موحدة واضحة, ضرورة التكافل الثقافي العربي ودعم... التعاون و... التنسيق, الإيمان بالدور الحضاري الرائد للثقافة العربية وبقدرتها على متابعة رسالتها لخير البشرية وإغناء الفكر الإنساني وتعميق التواصل مع الثقافات الأخرى, مسئولية الأمة العربية في تقديم الثقافة العربية والتراث الإسلامي ونشر اللغة العربية بين المسلمين خاصة في إفريقيا وآسيا.

لقد جرت مياه كثيرة في أنهار (الأمة) العربية وبحارها وخلجانها, وتغيرت اتجاهات تياراتها - العلوية الظاهرة والتحتية الخفية- منذ أصدر الوزراء العرب المسئولون عن الثقافة هذه التوصيات, وما ضمنه بيانهم من مبادئ - من أهمها - على سبيل المثال: التصميم على القضاء على كل آثار الاستلاب الثقافي والغزو الفكري الظاهر والمستتر, ضرورة تحقيق التكامل والتنسيق بين عمل أجهزة الثقافة وأجهزة التعليم وأجهزة الإعلام لضمان (مزيد) من فعالية العمل الثقافي وتوسيع نطاق الخدمات للمواطنين, وتأكيد اعتبار الثقافة حقاً لجميع المواطنين مرادفاً لحقهم في التعليم ولحقوقهم السياسية والاجتماعية, ووجوب العمل على تعميم استعمال اللغة العربية في التعليم ووسائل الاعلام والثقافة.. إلخ.. إلخ..

جرت مياه كثيرة, وتغيرت اتجاهات التيارات - أكثر من مرة ولأكثر من اتجاه, منذ صدرت تلك المبادئ والتوصيات, ثم منذ أقر الوزراء - في المؤتمر العام - الخطة الثقافية العربية الشاملة بكل ما دفعها من الطموح وما (شحنها) من إيمان بــ(المبادئ) التي لا يتردد الجميع في إعلان - وتأكيد - اعتناقهم لها.

لا يجد هذا الكاتب الآن مفراً من سؤال يعتقد أنه يتردد في أذهان كل مواطن عربي على قدر معقول من الوعي بما يحيط به - من بغداد أو الدوحة إلى نواكشوط - و من أربيل واللاذقية إلى كسلا أو دارفور أو بسكرة أو مقديشيو - سؤال يقول: هل كانت صفوة النخبة من مفكرينا تخطط لتحقيق ما هو ممكن فعلاً ومتاح, أم ما هو ضروري, أو هل كانت تخطط في ضوء تصور واقعي وعملي للحقائق, أم في ضوء ما آمن به العقل العربي قومي النزعة ومثالي المنطق?

سؤال جانبي (أو سؤالان) لا يجد العقل (ربما: الوجدان, أو الضمير) العربي ما يجعله يتجنب الهجس به, ولكنه ليس السؤال المناسب عندما نستجيب لدعوة منبر (العربي) - وهو منبر صدق - لمناقشة خطتنا الثقافية الشاملة التي انقضى على وضعها وإقرارها خمسة عشر عاماً كاملة, واقترب عمر صياغة مبادئها العامة وتوصياتها قرابة ربع قرن - وهي مبادئ طوّرها العقل القومي العربي ودعا إليها قبل ذلك بنحو ربع قرن آخر, فكان بديهياً أن تتبناها صفوة النخبة الممثلة لهذا العقل, ومع ذلك, فإن الكثير جداً مما تضمنته توصيات الخطة, والمؤشرات التي استخلصتها اللجنة العليا من واقع ردود الأجهزة الثقافية في الدول العربية على (الاستبانة) التي أرسلتها اللجنة إلى هذه الدول (عدا الصومال وجيبوتي اللتين رأت اللجنة أن تعتبرهما قطرين لهما أوضاع خاصة, وباستثناء فلسطين لظروف الاحتلال الصهيوني, ولبنان لظروف الحرب الأهلية في وقت إرسال الاستبانة - فيما بين عامي 1983 و 1985), أقول إن كثيراً من تلك التوصيات ثم المؤشرات المسجلة تبعاً لإجابات - على حد تعبير اللجنة قبل نهاية الفصل الختامي من الجزء الرابع - الأخير من الخطة - يمكن أن تعتبر قضايا (عملية) واقعية الطموح إضافة إلى الضرورة القصوى للعمل على مواجهتها بالسرعة الواجبة في (عالم) القرن الواحد والعشرين وعصره (الذي يرى الكثيرون أنه قد بدأ عملياً منذ أوائل تسعينيات القرن العشرين!). وسوف نختار نماذج رئيسية من تلك (المؤشرات) المستخلصة من إجابات الدول, لكي نعود فنقارن بين المؤشرات والتوصيات, وبينهما - معاً - وبين ما نعرف (أو ربما: ما نتخيل!) أنه الواقع الفعلي.

على رأس ما سنكتفي باختياره ما ورد بشأن (اللغة) تحت رقم: خامساً (ص 78 - الجزء الرابع - المجلد الخامس), وسوف نتوقف عند واحدة من أكثر (القضايا) اللغوية أهمية, لتعلقها بكل من مبدأ (الوحدة الثقافية) العربية - وهو المبدأ الرئيسي الحاكم لكل مفاهيم الخطة بأسرها, ثم بمبدأ التطور الضروري لكل من عقلية الأمة السائدة وأسلوبها في استيعاب مستجدات المعرفة والفكر - محلياً وعالمياً - وفي التعامل الايجابي والفعّال مع العالم, وأقصد بها قضية (المصطلحات) وهي تحتل المرتبة الأولى بجدارة عند كتاب الخطة في قولها:

(تهتم معظم الدول العربية بقضية المصطلحات العلمية, وقد خصصت لذلك جهات بهدف الاهتمام بها واستخدامها باللغة العربية, وتعتبر معاجم المصطلحات المطبوعة قليلة العدد بوجه عام وقليلة الانتشار, كما أن بعضها ينتشر بصورة متوسطة وذلك حسب درجة استخدام المعجم وأهميته, وقد تم طبع معاجم عدة للمصطلحات في معظم الدول..).

وتقول اللجنة عن مسألة أو قضية: (المصطلحات) في تحديدها لـ: (أسس العمل للخطة..), تحت عنوان: المصاعب التي تواجهها اللغة العربية (ص 95 - الجزء الأول - المجلد الأول): (.. ثم إن العربية مدعوّة لاستيعاب المنجزات العلمية الحديثة, ومواكبة سرعتها في التطور المصطلحي, تحقيقاً لعلمية هذه اللغة وصلاحيتها في إطار المعاصرة الحضارية).

(ولنا ملاحظتان: لم تسجل: (المؤشرات) خطورة (تعدد) المصطلحات الجديدة التي يتم سكها (أو: ترجمتها أو تعريبها) - حيث يعمد كل من (عرب المغرب) و (عرب المشرق) بشكل عام, ثم عرب كل قطر نشط (أو غير نشط أحياناً) إلى سك مصطلحاتهم الخاصة في مجال علمي (جديد أو مستحدث في العالم عموماً أو بالنسبة للغتنا (ومعرفتنا) بشكل خاص), الأمر الذي لا يعد مجرد تبديد للطاقات, وإنما يعد إمعاناً في (البعثرة) الثقافية وفي التباعد بين أجنحة العقل العربي, فيما تسعى هذه الأجنحة إلى التحليق في سماوات معرفية ومفهومية جديدة عليها, فتكون النتيجة مزيداً من (التجزئة) الثقافية, حتى في إطار (اللغة) الواحدة: فاللغة ليست مجرد مجموعات من المفردات وقواعد النحو, وإنما هي - في أساسها العميق - منظومات متفاعلة من المفاهيم والدلالات الفكرية - شعورية ولا واعية معا - تمنح للمفردات - في سياقاتها الاجتماعية - المعرفية. معانيها.

وفي هذا الصدد - وإن بشكل جزئي - تقول اللجنة تحت عنوان: (المصاعب الأخرى) - (ص 96 - الجزء الأول/المجلد الأول) عن القضية ذاتها: (... حاجة اللغة إلى مسايرة العصر, فإن تكاثر المصطلحات الحديثة تكاثرا مذهلاً وعدم قدرة العلماء واللغويين العرب على اللحاق بها يزيد في إبعاد اللغة القومية عن تيار الفكر العالمي. يضاف إلى هذا أنه قد أضحى لكل فئة متخصصة معجمها من المفردات والتراكيب: فلغة للفيزيائيين, وأخرى للشعراء, وثالثة للمهندسين ورابعة للأطباء, وخامسة وسادسة وسابعة, وبطء التجاوب مع هذا التنوع اللغوي يدفع الاختصاصيين إلى اصطناع اللغات الأجنبية واستسهال استخدامها.

وهذه ملاحظة أصابت (سطح) كبد الحقيقة, في قولها: (لغة للفيزيائيين وأخرى للشعراء وثالثة للمهندسين... إلخ..) لأن قلب هذا الكبد المهدد بالتفكك يؤكد ضرورة قول: (لغة للمصريين وأخرى للمغاربة وثالثة للخليجيين ورابعة لأهل الشام وخامسة لليبيا وسادسة وسابعة...).

وهذا هو التفتت الحقيقي... وأساسه... غير أن الأكثر خطورة هو ما سيتلوه الآن: تستخلص اللجنة في (المؤشرات) المسجلة تبعاً لإجابات الدول (فلنتأمل علاقتها بالحقيقة التي نسمعها/نشاهدها كل يوم)... تحت عنوان: (اللغة المحكية) - (ص 79 - الجزء الرابع/المجلد الخامس) فنقول: (تتطور اللغة المحكية في معظم الدول العربية وذلك في اتجاه الفصحى, نتيجة لانتشار وسائل الاعلام (إذاعة وتلفزيون) وازدياد قوتها والاهتمام بالتعليم في جميع مراحله وزيادة الوعي الثقافي. وتختلط اللغة المحكية ببعض الألفاظ الأجنبية... ويعتبر الاختلاط محدوداً بوجه عام في معظم الدول - وتتميز اللهجات المحلية من دولة إلى أخرى, وقد تختلف في الدولة الواحدة من منطقة إلى أخرى).

ملاحظة جانبية عاجلة: ما مدى سلامة إطلاق اسم: (اللغة) في عنوان هذه الفقرة وفي متنها - قبل العودة في نهاية المتن إلى تسميتها بــ: (اللهجات المحلية) ألم يكن الأسلم أن نسمّيها (اللهجات) من البداية... أم ماذا?

ولكن اللجنة تشعر بخطورة القضية, وإن عادت (أو: سبقت) إلى استخدام عبارة (اللغة المحكية) في تحديدها لما تواجهه قضية: (العناية باللغة القومية) من مصاعب: فنقول تحت عنوان: (المصاعب الأخرى) - وهي ثالث المصاعب الأخرى في الترتيب (ص 96/الجزء الأول/المجلد الأول):

(... وجود لهجات لغوية عدة ضمن المجتمع العربي تباعد بين اللغة المكتوبة واللغة المحكية (العامية) المستعملة في الحياة اليومية وصل بعض المغالين لدرجة المطالبة بتقعيد اللغة العامية والكتابة بها لتصبح اللغة العربية لغات عدة).

ولنا ملاحظات: أولها على (المؤشرات): هل صحيح أن اللغة المحكية تتطور في معظم دولنا في اتجاه الفصحى, وبفضل (أيضاً) الإذاعة والتلفزيون, أم أن العكس هو الصحيح? إن غالبية البرامج الجماهيرية (المنوعات, الحوارات - من نوع التوك شو Talk Show) - بل حتى البرامج الثقافية وشبه الثقافية: عن السينما وأفلامها أو العلوم الحديثة - وكائنات البحار والغابات والحياة البرية... وحتى غالبية البرامج: التعليمية, ناهيك عن الإعلانات... إلخ, كلها دون استثناء تقريباً تقدم باللهجات العامية, بل إن الكثيرين من قادة الرأي (وغير الرأي) لا يتحدثون إلا بلهجاتهم المحلية حتى يؤثروا - بقوة - في (جماهيرهم): فما الحقيقة إذن, وما الحل, أم أن الأوضاع تغيّرت منذ كتبت ردود الدول. فمال الناس إلى عامياتهم وتحول الاتجاه إلى الاتجاه المعاكس?!

الملاحظة الثانية على فقرة بالغة الأهمية (ص 98/الجزء الأول/المجلد الأول) لأنها تأتي من اللجنة العليا نفسها - إذ تقول: (... وقد أوجدت وسائل الإعلام والكتب والمؤتمرات المشتركة ووسائل الاتصال المختلفة والأغاني والأفلام, ولاتزال توجد في الواقع لهجة عامة مشتركة يتزايد قربها من اللغة المكتوبة لدى الطبقة المثقفة, وهذا الأمر يفتح الباب للتوحيد اللغوي التدريجي بين أبناء الأمة الواحدة).

ليست المشكلة في هذه الفقرة - من آراء اللجنة - أنها تعبر عن معتقدات العقل القومي المثالي, وإنما تعبّر عن تصوّر متفائل لواقع قد يكون - عملياً -ليس وردياً إلى هذه الدرجة على الأقل, وما مدى فاعلية (المؤتمرات) المشتركة - مثلاً, أو (الكتيب) حتى إذا قبلنا بتقدير (المؤشرات) للأمية أنها تتراوح بين 5% و 30% (أليست تصل إلى أكثر من 90% في أقطار كبيرة الحجم, وإلى 70% - فعلياً في أقطار أخرى?), وماذا عن الأثر الفعلي للتعليم في ترسيخ معرفة واستخدام الفصحى (القومية), ثم ماذا - مرة أخرى - عن تأثير التلفزيون - بشكل خاص مع شيوع الغناء الشديد المحلية - بالمحكيات العامية (جدا) غالباً, ومع اضمحلال حجم إنتاج ومكانة السينما العربية في أقطارنا, وحلول مسلسلات التلفزيون الجماهيرية ـ بالمحكيات المحلية - مكانها?

***

لعل أكثر ما يلفت النظر (أو يثير الاهتمام - أم نقول: الشعور بالخطورة), فيما جاءت به تغيرات الأعوام الخمسة عشر المنقضية منذ صدور خطتنا الشاملة للثقافة العربية هو تزايد هيمنة: (وسائط الاتصال الجماهيرية) وبخاصة التلفزيون على عملية التثقيف الجماهيري - من ناحية, وتزايد وعي النخبة العربية المثقفة بأهمية التعامل مع الواقع العربي من منطلق الإقرار بالحقائق, وتغليب (الحقيقة) على التصور (الأيديولوجي) لواقعنا الاجتماعي القومي, ولعلنا لهذين السببين الرئيسيين: من بين أسباب أخرى كثيرة, نحتاج إلى مراجعة (نقدية لواقعنا الثقافي حتى يمكن (تطوير) الخطة الثقافية الشاملة بما يجعلها أقرب - قدر الإمكان - مع الواقع المتغير.

وسنكتفي لتوضيح ذلك بمثال واحد يتعلق - في اعتقادنا - بجانب من العمل الثقافي تثبت التطورات في منطقتنا وفي العالم أنه يمثل قضية مصيرية: أمنياً واقتصادياً - على الأقل - لأمتنا, أعني قضية: (البحث العلمي). أو ما أطلقت عليه الخطة - في العناوين الرئيسية: (الفكر العلمي) وأدرجت: (البحث العلمي) تحته كما استخدمت عبارة: (البحث العلمي) في تحليلها لما جاء في ردود الدول على الاستبانة (ص38/الجزء الرابع/المجلد الخامس) كما أشارت اللجنة إلى ما يخص القضية ذاتها في تحليلها لبيانات الجدول الخاص بالاستيعاب التكنولوجي (ص39/الجزء ذاته).

كانت اللجنة قد كتبت - بعبارات واضحة قوية - تصورها - من خلال اللجنة المختصة - عن التخطيط (الشامل) للبحث العلمي على المستوى العربي, وحين كتبت اللجنة هذا التخطيط (نحو عام 1983 إلى 1984) لم تكن البحوث العلمية في مجال الهندسة الوراثية - مثلا على الصعيد العالمي قد لفتت الأنظار (العامة) بعد (الحقيقة أنها لم تلفت الأنظار - من خلال الإعلام - إلا مع نشر قصة استنساخ النعجة دوللي وما صحب القصة من صخب حول خطورة احتمالات استنساخ البشر), وحين كتب التخطيط نفسه, ووصلت قبله أو بعده مباشرة ردود الدول على الاستبانة لم تكن هناك جهة عربية علمية أو أمنية واحدة تتحدث عن (حقيقة) خطورة السلاح النووي الإسرائيلي باعتباره يمثل تهديداً فعلياً للأمة - بيئياً إن لم يكن أمنياً, ولم تكن هناك أدنى فكرة عن ضرورة تطوير البحوث المحلية في مجالات بالغة الحيوية كالأدوية والأمصال والأسمدة أو المخصبات أو الليزر واستخداماته.. إلخ... إلخ.. ولا حاجة بنا إلى تكرار ما أشرنا إليه في موضع سابق عن (عدم) ترجمة عمل واحد من الأعمال الرئيسية في معظم - أو كل - العلوم الأساسية المتعلقة بمجالات هذه البحوث - أكرر: ولا كتاب واحد في الرياضيات الحديثة ولا الفيزياء الكلية (فيزياء وميكانيكا الكم) ولا البيولوجيا الخلوية ولا الكيمياء الفيزيائية ولا المعلوماتيات وما يرتبط بها من لغويات ومنطق وإلكترونيات... إلخ... إلخ..

ولكن تأتي إجابات الدول على استبيان اللجنة مدهشة - أو باعثة على السخط مع الدهشة - من إفراطها في التفاؤل والتبسيط والتعميم (أثناء كتابة هذا المقال, قرأ الكاتب مقالاً للأستاذ الدكتور أحمد مستجير أستاذ الوراثة في جامعة القاهرة, نشر في مجلة الهلال القاهرية عدد نوفمبر 2000 - يتحدث فيه عن تطوير أنواع من بذور تقاوى القمح لا يمكن الحصول من محصولها على تقاو جديدة: بالبذور تكون (ميتة) من الناحية البيولوجية... وقامت بالتطوير شركات أمريكية لتصدير القمح.

- والهدف واضح: هو إرغام مَن يرغبون أن يأكلوا على استيراد التقاوى باستمرار أو استيراد (الأكل) كله, وهو فيما لا يمكن تجاهله - ما يمكن أن يكون سلاحاً (أمنياً) وسياسياً لا يقل عن خطورة أي سلاح آخر للإبادة الشاملة.

هل يكفي هذا المثال للزعم بأننا نحتاج إلى (تطوير شامل) لخطتنا الثقافية الشاملة, تشمل برامج محددة تتولى تنفيذها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم - لتكون برامج (قومية) بالمعنى العملي الموضوعي البسيط للبعد (القومي) للكلمة, وهل يسمح ميثاق المنظمة, وميثاق منظمة جامعة الدول العربية, بأن تعقد منظمة التربية والثقافة والعلوم اتفاقات مباشرة بينها وبين دول بعينها - عربية أساساً - لتمويل إصدار برامجها التي يمكن أن يكون من أولوياتها: إصدار معاجم وموسوعات عامة ومتخصصة, عربية (شاملة) تكون أساساً صالحاً لتوحيد لغتنا (لغاتنا) الفكرية والبحثية والعلمية على الأقل?!

يفرض هذا بالطبع وضع برامج (واقعية) وعملية معاً, لتنفيذ (خطة) واقعية بدورها لتعميق وتوحيد (خطط) الترجمة, ولتطوير - بالتالي - برامج تعليم اللغة العربية - خاصة في علوم النحو والصرف - قبل المطالبة بتعميم استخدامها في التعليم العام والمتخصص وفي الإعلام - خاصة الإعلام المرئي والمسموع - وهو ما يتطلب أن يكون تطوير الخطة الشاملة للثقافة مرتبطاً بتطوير مماثل في الخطة الشاملة للتربية (والتعليم) التي كانت قد صدرت قبل الخطة الثقافية بسنوات, فهل سوف نستطيع إنجاز ما هو ضروري?!

يبقى هذا المشروع واحداً من الأحلام العربية الطموح من أجل السعي لتحقيق نوع من الوحدة الثقافية, فقد جاء وضع الخطة الشاملة للثقافة العربية في فترة كان النظام العربي في حالة من الهدوء النسبي يحاول فيها أن يلملم أطرافه ويستقيم بجسده الذي عانى كثيراً من الجروح والتمزّقات, في خريف 1978. في ذلك الوقت طرحت الجامعة العربية وضع خطة لإنجاز استراتيجية للثقافة, وقد تعزز هذا الاقتراح بعد ذلك في العديد من الاجتماعات الوزارية والفنية, وعلى أثر دعوة الأمم المتحدة إلى إقامة عقد للتنمية الثقافية, ولكن التحرك الحقيقي نحو إنجاز هذه الخطة لم يكن ليتحقق لولا تبني دولة الكويت لها ممثلة في الأستاذ عبدالعزيز حسين - رحمه الله - الذي كان يشغل منصب وزير الدولة لشئون مجلس الوزراء كما كان رئيساً للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في ذلك الوقت, ففي عام 1979 وتحت شعار (نحو استراتيجية للثقافة العربية) عقد الوزراء العرب المسئولون عن الشئون الثقافية اجتماعهم بطرابلس وأجمعوا على اختيار عبدالعزيز حسين رئيساً للجنة التي عهد إليها إنجاز هذه الخطة الطموح, وتضمنت في عضويتها نخبة ممتازة من رجال الفكر والأدب والفنون من مختلف التخصصات كان منهم أحمد كمال أبو المجد (مصر) وأحمد مشاري العدواني (الكويت) وأديب اللجمي (سوريا) وأنيس صايغ (فلسطين) وشاكر مصطفى (سوريا) والطيب صالح (السودان) وشفيق الكمالي (العراق) وعبدالحميد مهري (الجزائر) وعبدالعزيز المقالح (اليمن) ومحمد أحمد الرشيد (السعودية) ومحمد أحمد الشريف (ليبيا) ومحمد جابر الأنصاري (البحرين) ومحمد المسدي (تونس) ومنصور الحازمي (السعودية) وناصر الدين الأسد (الأردن), وقد حضر اجتماعات اللجنة, وشارك فيها محيي الدين صابر المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون.

ورعت الكويت عمل اللجنة منذ خطواتها الأولى, فقد وفّرت لها المقر وتحملت كلفتها المالية وأمدتها بالمواد والخبرات المتوافرة فيها.

ولم يكن عمل اللجنة منغلقاً عليها, فقد رأت الاستنارة بآراء مختلف المفكرين والخبراء في ميادين الثقافة المتشعبة, فوضعت برنامج عمل نفذته على امتداد ثلاث دورات وجمعت فيه 600 خبير ثقافي اجتمعوا على مدى 27 ندوة, أي أن كل ندوة منها كانت تضم 25-27 خبيراً من مختلف الاختصاصات وقدم فيها 61 بحثاً ووضعت اللجنة مخططاً عاماً للمجالات الثقافية تحت عشرة عناوين هي: اللغة العربية, والتراث العربي والإسلامي, والفنون بألوانها, والأدب بأشكاله, والفكر الإسلامي, والتثقيف العلمي, والإنتاج الفكري, ووسائل الإعلام والاتصال, والتعاون الثقافي, ووسائل العمل الثقافي المختلفة.

وفي عام 1985, وافق كل من الاجتماع الذي عقده الوزراء العرب المسئولون عن الشئون الثقافية, وكذلك المؤتمر العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم على الخطة الشاملة للثقافة العربية. ودعت كل الدول للأخذ بها في خططها للتنمية الثقافية وفقاً لإمكاناتها, كما اعتبرتها إسهاماً عربياً في العقد العالمي للتنمية الثقافية الذي دعت إليه الأمم المتحدة.

إن الكويت وهي تحتفل بفعالياتها كعاصمة ثقافية للعالم العربي تعيد للأذهان أن هذه الخطة بكل ما فيها مازالت تصلح مرتكزاً أساسياً للبدء في أي عمل ثقافي مشترك, وهي لا تني تذكر لعل الذكرى تنفع المؤمنين.

 المصدر: http://www.alarabimag.com/Book/Article.asp?ART=1344&ID=45

 
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك