تلاقح حضارتين.. شراكة من أجل المعرفة!

د.زهير الحارثي

    في طوكيو كل شيء يتحرك بالرقم واللحظة وربما جزء من الثانية. وقد ابالغ ان قلت بالهمسة وبدقة متناهية ومذهلة كون المعيار في هذه القطعة من كوكب الأرض هو الوصول الى المبتغى، فنهجها لا يعترف بالانطباعات بل يلتصق بقيمة الوقت وطبيعة الحدث ومضمون الموقف. ثقافة الاحترام موغلة الى حد الإدمان في هذه البلاد. سلوك انساني لافت يدفعك الى تهذيب ذاتك أولا، فقيمة الإنسانية هنا تعلو بوضوح سافر على المساحات الضيقة.

 

 

 

لقد شعرنا في خضم اللقاءات والاجتماعات ان ما يجمع بين المملكة واليابان هو أكثر بكثير من نقاط الاختلاف، فالقضية لم تعد تبادل مصالح بقدر ما هي استشعار بالمسؤولية لكل منهما انطلاقا من ارثهما التاريخي والحضاري، فضلا عن كونهما من كبريات دول مجموعة العشرين، ويتمتعان باحترام وتقدير دولي لانتهاجهما سياسة معتدلة وحرصهما على إشاعة السلام والأمن الدوليين.

 

 

حالة لافتة من السلام والأمان والارتياح تجتاحك وانت قادم لليابان. وهي تجربة ملهمة ومدهشة ومثيرة للإعجاب للسعوديين كما وصفها الأمير سلمان. دولة وشعب يحترمان النظام والقانون والوقت بصورة هي أقرب الى السلوك العسكري منه الى المدني. ما يعني انه مفهوم فكر وثقافة ووعي وحضارة شعب قبل أي شيء آخر.

قبل أحد عشر عاما وفي مقال لي في جريدة الاقتصادية اشرت الى قول الشاعر كيبلنج عندما قال: ان “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا "، وطالبت آنذاك بضرورة تنشيط آليات الحوار بين العالم الإسلامي وبقية دول العالم لإيجاد تفهم حقيقي وجاد للحضارتين وتكريس مفاهيم التسامح والتواصل والإخاء مع الآخر، دون أن ننزع إلى خطاب دفاعي أو حتى هجومي انفعالي.

وقبل يومين وفي طوكيو ذكر سمو ولي العهد في لقائه برجال الاعمال اليابانيين ذات المقولة للشاعر البريطاني، مؤكدا انه لا يتفق معها مشيرا الى انه قد قال منذ زمن أن هذا غير صحيح، مع التقدم التقني والمعرفي التقى الشرق بالغرب، وانه يأمل في المزيد من التقارب والاستثمارات المشتركة في منطقتنا الواقعة بين الشرق والغرب.

على انه من الطبيعي أن تتناول بعض وسائل الاعلام الغربية، الهدف من قيام ولي العهد الأمير سلمان بزيارة طوكيو، وكان الحديث عن الطاقة النووية السلمية وموضوع الطاقة والامدادات النفطية، لا سيما وأن ثمة دولًا مجاورة لليابان عبرت عن استيائها قلقا على مصالحها مع الرياض. مع ان قراءتهم تلك ليست دقيقة وتفتقد للرؤية البراغماتية الواقعية، فالسعودية في المقام الأول دولة لها سيادة وبيدها قرارها وخياراتها وتدعو للاحترام المتبادل بين الدول. وتنطلق في علاقاتها مع الآخرين من خلال معيار أساسي يتمثل فيما يحقق مصالحها، وهذا حق مشروع لها كما هو لغيرها، والمتابع لخطواتها يلحظ ارتهانها لسياسة التوازن والتنوع والتوسع ما يضمن لها مردودا سياسيا واقتصاديا وعسكريا بدليل ما شهدناه في هذه الجولة من اتفاقيات تدفع باتجاه تغيير الصورة النمطية والتي أشار اليها ولي العهد عندما قال: إن هناك تصورات خاطئة عن السعودية وضعت في قوالب جاهزة. ولعل إيجاد شراكة مع اليابان كما جاء في البيان الختامي هو بطبيعة الحال تدشين لعوالم المعرفة والاستفادة من تجربتها العريقة في التقنية والتعليم والتدريب.

لقد شعرنا في خضم اللقاءات والاجتماعات ان ما يجمع بين المملكة واليابان هو أكثر بكثير من نقاط الاختلاف، فالقضية لم تعد تبادل مصالح بقدر ما هي استشعار بالمسؤولية لكل منهما انطلاقا من ارثهما التاريخي والحضاري، فضلا عن كونهما من كبريات دول مجموعة العشرين، ويتمتعان باحترام وتقدير دولي لانتهاجهما سياسة معتدلة وحرصهما على إشاعة السلام والأمن الدوليين.

كان البرنامج حافلا باللقاءات والمناسبات مع اليابانيين، كما حظينا بلقاءات عديدة ومتكررة مع سمو ولي العهد وحضور مآدب الطعام معه. ولذلك كان الانطباع العام لدى الكثيرين في بداية الامر انه لن يتجاوز البروتوكول المعتاد في هكذا مناسبات بسبب الإجراءات الأمنية وخلافها. بعبارة أخرى هو مجرد حضور عن بعد. غير انه لم تلبث ان سقطت كل تلك التخمينات لسبب رئيس يكمن في شخصية الأمير ونهجه المعروف عنه الذي يخالف هكذا تصور وطروحات.

فعلها سموه في كل الدول التي زرناها معه، حيث جلس مع الكل وفتح صدره لأبنائه، فكان بسيطا وبشوشا ومتواضعا تواضع الكبار وأبا حانيا على الجميع، كما تحدث كثيرا عن الملك والوطن والتاريخ.

المشهد صناعته عفوية وترجمه الأمير بأفعاله قبل اقواله. قام معنا بنفسه الى البوفيه واخذ ما أراد من الطعام، ثم ذهب الى طاولة من الطاولات الموجودة ليجلس ويأكل وجلس معه من كان الأقرب للطاولة لا حواجز ولا تعليمات ولا شكليات. هي ممارسة عفوية تقول: نحن منكم وأنتم منا.

هذا المشهد تكرر في أماكن مختلفة والمقام هنا ليس للدعاية، بل اذكره لنقل صورة واقع قد يغيب عن كثيرين لا سيما في هذه اللحظة التي تمر بها منطقتنا. انه بعبارة ادق تجسيد لطبيعة العلاقة الفطرية التي تعكس حقيقة تعامل القيادة وشعورها تجاه مواطنيها وبالتالي الغاء للبروتوكول والمظاهر والرسميات.

كان الحديث أكثر وضوحا وشفافية، مؤكدا على ثوابت الدولة وما صنعه المؤسس الراحل عبدالعزيز، ناهيك عن توجيهات وجهود الملك، وأن هذه الدولة قامت على سواعد الاجداد فصنعوا الوحدة وحافظوا عليها مشددا على تعزيز الوحدة الوطنية حيث المساواة فلا تمييز ولا تفرقة ولا عنصرية، مؤكدا اننا جزء من هذا العالم ولدينا تحديات وعلينا مواجهتها بشجاعة. ولم يخل الحوار من مداعباته الشيقة للمثقفين والحاضرين.

هذا الحراك السعودي يهدف للانخراط في مناخ عالمي جديد بدليل تعميق الحضور في شرق آسيا من خلال شراكات استراتيجية مع تلك الدول وبما يخدم مصالح المملكة العليا بغض النظر عن الاتجاهات والحسابات والتحليلات.

المصدر: http://riy.cc/913144

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك