التنابز بالحضارات

اميمة الخميس

    تربط بعض المرويات التاريخية دوماً بين (عدنان وقحطان) كجدين قديمين للعرب، أو من يطلقون على سلالتيهما العرب العاربة والمستعربة.

بعض البحوث الأركوليجية اللغوية كبحوث فاضل الربيعي في كتابه المتميز (أخوات قريش) تجعل اسم قحطان انعكاسا للبيئة الجغرافية التي عاش فيها العرب العاربة في مواقع قبيلة كندة التي قطنت الربع الخالي، حيث الحياة الصحراوية الصعبة الشحيحة والقحط لذا سموا ببني قحطان، وبينما الذين اتجهو إلى شمال الجزيرة العربية أقاموا (عدنوا) واستقروا فسموا ببني عدنان، ويظل توظيف الربيعي للأسماء كنموذج تاريخي نظرية تدخل ضمن المرجحات ولا تعتبر حقيقة مطلقة.

لكن هذا الانشطار العربي يتبدى واضحا عبر التاريخ إلى يومنا هذا فالذين هاجروا واستقروا في شمال جزيرة العرب، توفرت لهم بيئة زراعية خصبة أسهمت في استقرارهم الحضري إضافة إلى السيطرة على الدروب التجارية كمدن تجارية مزدهرة تمر بها القوافل ما لبثت أن تحولت إلى إمبراطوريات، بينما ظل عرب الجنوب عبارة عن قبائل متنقلة في محيط متقشف ومدن صغيرة شبه زراعية.

هذا الانفصال الجغرافي أحدث شرخا تاريخيا ونفسيا بين الطرفين، فعرب الجزيرة عادة ينتقصون من أصالة وعروبة عرب الشمال، بينما عرب الشمال بالمقابل يصمونهم بالأعاريب فاقدي الحضارة والمدنية.

وعلى امتداد التاريخ لطالما ثرثرت في ذلك الشرخ الذي يفصلهما المئات من الدعوات الشوفينية والانتقاصية، لاسيما أنه على امتداد علاقتهما المتشنجة، حدث حدثان تاريخيان مهمان للغاية غيرا تفاصيل المكان بينهما.

الأول هو خروج الدين الإسلامي من قلب جزيرة العرب وعبر الفتوحات كان لعرب الجزيرة السيادة (السياسية ومن ثم الدينية).

والثاني الذي حدث بعد ذلك بقرون هو الطفرة النفطية التي حلت بعرب الجنوب، وظهر في مواضع خيامهم المهلهلة مدن باذخة بقباب ذهبية وجيَشان عمراني جعلا من ربوعهم منطقة جاذبة محتشدة بفرص العيش.

وظلت العلاقة بين الطرفين تضمر الكثير من المسكوت عنه، والذي لايقال، أو لربما حالة استنقاص كامنة لاتلبث أن تظهر عند بعض المحكات، كما ظهر أيام خطاب التثوير اليساري في منتصف ستينيات القرن الماضي الذي كانت تقوده حكومات العسكر، وعندما كان نزار قباني يقطف بطولاته اللغوية من ساحاتنا ويصف سكان المنطقة كجمل من الصحراء لم يلجم، وسواها الكثير من الأعمال الأدبية التي تعاملت مع المكان وسكانه بدونية واستنقاص.

ويبدو أن هذا التجاذب في العلاقة لن يندثر وسيبقى كامنا يبزغ كلما استفزته الأحداث الخارجية وزال طلاء المجاملات الدبلوماسية والاقتصادية، فقبل أيام ظهر على إحدى المحطات الفضائية محلل سياسي محسوب على النظام السوري يستنطق المقابر وينفض الأكفان عن ذلك الطرح الشعوبي الشوفيني حول مجد وعظمة عرب الشمال مقابل بداوة وتخلف عرب الجنوب.

طبعا هذا الطرح الموميائي القادم من بين هياكل المعابد القديمة يبدو هزيلا مضحكا ليس فقط لغياب الموضوعية عنه، ولكن لخياله الشاطح، فتلك الحضارات التي يفاخر بها لم يبق منها سوى أطلال تمر عليها القطعان وتقضم أعشابها المشعثة، آثار حتى لم يحسنوا الحفاظ عليها لولا تدخل اليونسكو والمنظمات العالمية لإنقاذها من بين أيديهم.

أين المكوّن الحضاري اليوم في مدن عرب الشمال ؟ هل هو في أنظمتهم السياسية والإدارية ؟ هل هو في صواريخهم التي تلف المدارات ؟ أم في مراكز بحوثهم ؟ أم في بنيتهم التحتية المتطورة ؟ هل استطاعوا أن يصنعوا كما صنعت الحضارة الغربية مع أسلافهم الإغريق؟

لا أعتقد فكل ما هناك هو ظلمة حالكة.

وبعد حالة انقطاع عمرها آلاف السنين، باتت تلك الحضارات تقبع في المتحف وكتب التاريخ فقط، وكل من يقول غير هذا فهو متنفج مغرور يحاول أن يستنقص من تجربة الصحراء، ويحاصرها بوصمة مدن الملح والقحط .. مغفلا شعوبا منجزة متوقدة متطلعة نحو المستقبل.

وسيظل ذلك الخطاب يُستجلب من بين الأكفان، ويصدر كخطاب إعلامي عند أول محك سياسي.. ولكنه اليوم لم يعد يصيبنا بالدهشة بل ببساطة.. الضحك.

المصدر:http://riy.cc/915395

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك