ثقافة التعايش في المجتمع الإسلامي المعاصر
إبراهيم نادن
مدخل عام:
نهدف من خلال هذا العنوان إلى مساءلة الزمن الثقافي باعتباره إطارا ثقافيا و سلوكيا لفلسفة الاجتماع و ضرورياته، و، مساءلة الدوافع الحتمية التي تفرض التعايش و التواصل بين أفراد الإنسانية جمعاء، إذ أن هناك أسبابا واقعية، و مصالح واجبة، و أخلاقا رئيسة لابد منها كي تقوم الحضارة الإنسانية في فلك هذا الكون، فالاجتماع و التواصل بمختلف آلياته ليس عملا من اختراع الإنسان وفق رغبته بل هو ضرورة حتمية يعتبر النكوص عنها تعطيلا لوظيفة إنسانية يؤدي إلى نتائج وخيمة في مستويات التطور الثقافي و الحضاري و الاقتصادي و العقلي للبشرية، و من أجل ذلك كان لابد من طرح الأسئلة باستمرار عن القواعد الموجهة، و البنيات الفلسفية التي تكون أسس التواصل الاجتماعي، و التعايش الأخلاقي بين أبناء الحضارات المختلفة، إذ أن إظهار المفاهيم و الآليات إلى السطح من شأنه أن يضع لدى الممارس لهذه الثقافة المرجعية الثقافية و السلوكية التي تضبط كل سلوك داخل هذه الثقافة احتراما للمعيار الذي ينظمه، و يكون منسجما مع أهدافه النهائية، و ذلك تمشيا مع غائية النشاط الإنساني و مسؤولية الفاعلية الإنسانية التي من خلال تعايشها تخلق أجواء التنافس، و القدرات على الإبداع و الابتكار، و تحطم بذلك روح الانغلاقية و غيرها من الأمراض الحضارية كتعظيم الذات و التمحور الذاتي المجتمعي، و التنويم الاجتماعي، مما يعطل التقدم البشري، و يجمد الإنتاج العقلي، و يقطع العلائق التي من شأنها تدليل الصعوبات المختلفة على الإنسان، و الوصول به على وثيرة طبيعية إلى ما يطمح إليه من الرفاهية و التنمية و السلام.
ثقافة التعايش
و بناء على ما سبق فإني رأيت أن أعالج هذا الموضوع من خلال إشارات وظفت فيها مجموعة من المفاهيم لا أدعي أنها إحاطة شاملة بالشبكة المفاهيمية المؤطرة لثقافة التعايش، و لكنها تمثل بعض أسس هذه الثقافة التي تكون حاضرة و باستمرار في توجيه سلوك المندمجين في بيئة واحدة من أبناء حضارات و ثقافات و ديانات و أفكار مختلفة، و هذا هو المقصود بأن الإنسان في مثل هذه الظروف و الوضعيات يكون إنسانا نموذجا، بمعنى أنه يكون عنوانا للجماعة الكبيرة التي تنتمي هويته لها، إن هذه الصورة البنيوية، و استعمل كلمة بنيوية، بالاستعمال الذي يشير إلى أن نظام البنية لا يثبت على ملمح واحد، و إنما تتغير مظاهر البنية بناء على عوامل مختلفة تاريخية، و اقتصادية و ظرفية، إن هذه الصورة عن التعايش الحضاري لا تختلف عن ذلك الحضور الذي يجتمع داخله طلبة و خبراء و علماء و أطباء من جنسيات مختلفة لإنجاز إنتاج على مستوى ما، إننا إذن في كل اجتماع وتعايش نسعى للإنتاج إنتاج شكل من الأشكال ماديا أو فكريا وإلا لما كان لأساليب الاجتماع أي معنى، بل لا تكون الحاجة داعية له مطلقا، و لا كان الفرد البشري مكابدا في تحقيقه، و هنا يمكن للهيئات المسئولة المختلفة من التوسع في طرح الأسئلة من خلال الأهداف الكبرى للحضارة الإنسانية في ظل ما يطرح فيها باستمرار من الأفكار و المنهجيات للسلوك الاجتماعي، و التواصل الإنساني، و ذلك من أجل متابعة عمليات الإنتاج الفكري و المادي و جعلها مكتسبات للإنسانية جمعاء، و الواقع أنه لا يمكن القيام بهذه المهام من أجل حماية الوجود الحضاري للامم دون الاهتمام بالبحث العلمي في دول العالم الثالث، من أجل امتصاص مظاهر التخلف التي تعم مظاهر الحياة فيها، مما يخلق لدى مواطنيها غالبا صعوبة التعامل مع الآخر، حيث إن بعض هذه الدول لم تنجح بعد حتى في تامين العلاقات بين أبناء شعوبها، وفق برامج تتغيى تحقيق الأهداف التنموية الشاملة بما في ذلك تطوير العلاقات الإنسانية عبر ثقافة معيارية عن طريق نشر التربية و التعليم و التكوين.
إن الحديث عن ثقافة التعايش هو الحديث عن التكوين النفسي الأمثل للأفراد داخل المجتمعات، من جهة و عن أساليب التواصل المثالية بين الشعوب و الحضارات المختلفة من جهة أخرى، و كل ذلك من شأنه بناء الشخصية المتكاملة في المجتمع الحديث ذات التصور الدقيق عن العالم، و عن أسلوب العيش فيه، و إمكانيات التفاعل و التعايش مع الآخر داخله،و ذات القوة في الاستجابة لكثير من القوانين الحتمية و الصراعات العنيفة مع قوى مختلفة هذا مع ماتتوفر عليه من الحماس في بذل الجهود المكثفة و المضنية في اكتساب المعرفة و التقنية من أجل السيطرة على الطبيعة، و البدائية و العفوية، و كل مظاهر السلوك غير المتحضرة، و غير الحضارية أيضا، و ذلك في حركية متغيرة باستمرار تنطلق من الرؤية المعاصرة التي أصبح فيها العقل البشري يمجد أكثر فأكثر التقنية العلمية، و التكوين المتطور، و المهارة في التصرف، و ذلك ترسيخا للتطور النوعي الذي سار فيه هذا العقل من البدائية إلى الثقافة إلى التكوين إلى التقانة، وبين هذه المفاهيم من العلاقات الجوهرية الواضحة و الدفينة العميقة ما لا يحصر بالمقاييس المرئية، و هو ما ينعكس على الملمح الحضاري لأمة من الأمم أو شعب من الشعوب، لأن هذا الملمح يتأسس من الجو الثقافي للمدنية، فإذا كانت المدنية هي ما يتعلق بالرقي في الجوانب المادية من علوم طبيعية و هندسية و تشييد، و اختراع و اكتشاف مما يتصل بتنظيم مرافق الحياة(1)، فإن الثقافة هي مجموعة المعارف و المعتقدات و1 الفن و القانون و الأخلاق و التقاليد، و كل القابلات، و التطبيقات الأخرى التي يكتسبها الإنسان عضوا في مجتمع ما(2)، إنها بمعنى آخر مجموعة مترابطة من أساليب التفكير و الإحساس و العمل المتشاكلة إلى حد ما تتعلمها و تشترك فيها جماعة من الأشخاص يكونون مجموعة خاصة متميزة(3)، و لذلك يبدو أن الثقافة هي قدرات بناءة يقوم بها أفراد مجتمع معين، و عليه يصبح الحديث عن تاريخ الثقافة و الحضارة ضروريا، لأن التاريخ في المتعارف عليه بين المدنيات هو: العلم الذي يبحث في الإنسان و مجتمعاته، موضحا كل ما يتعلق بالاقتصاد العام، و الأنماط الفكرية و العملية، لأن كلا من هذه المجتمعات كائن حي، و على التاريخ أن يصف أحواله و تطوره، لأنه يمثل سيرة عامة للإنسانية في جميع مظاهرها الاجتماعية، منذ أقدم العصور إلى الوقت الحاضر(4)، و هذا الوصف التاريخي هو وصف النشاط الإنساني ثقافيا و حضاريا عبر الأزمنة التاريخية و الثقافية المتنوعة التي هي كما تتواصل نوعيا، تتواصل ثقافيا و حضاريا، و ذلك ما يحدد لنا بعمق الاختلاف بين الحضاري و الثقافي، و معنى ذلك أنه يصبح من خلال هذا التحليل لكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي، و أضاف إليها ما أضاف في الحاضر، فتكون الثقافة لذلك عنوان المجتمعات البشرية، أما الحضارة فهي جملة مظاهر الرقي العلمي و الفني و الأدبي مما ينتقل من جيل إلى جيل في مجتمع أو مجتمعات متشابهة(5)...
حوار الحضارات:
يبدو من خلال العرض السابق أننا قاربنا الإشارة إلى بعض أسباب حاجة الإنسانية إلى بعض إنتاجيات الثقافات و الحضارات الأخرى،و ذلك ما فتح باب الحوار بين الحضارات الذي أصبح شعارا معاصرا أكثر من ذي قبل، و ذلك بغية تبادل المعارف و الخبرات و الثمرات بين أطراف الأسرة البشرية، حرصا على معالجة الأعراض و الأمراض، كل حسب وجهة نظره، و مدى اجتهاده (6)، هذا الحوار الذي لا يعدم جذورا في التاريخ البشري، و في صور متعددة: و نحن إذا شئنا أن نضرب بعض الأمثلة على تلاقي الحضارات و تفاعلها، الذي عمل خلاله هذا القانون، فإن لدينا مثالين شهيرين... أولهما: التقاء الحضارة العربية الإسلامية إبان نهضتها و ازدهارها بالحضارات الفارسية، و الهندية، و اليونانية، و ثانيهما التقاء الحضارة الغربية إبان نهضتها بالحضارة العربية الإسلامية(7). و ليس من شك في أن الملاحظ المتتبع للتاريخ الحضاري للإسلام و المتأمل في قواعد انتشاره، و أساليب لقائه بالشعوب و الأجناس و الديانات و النظم الاجتماعية و القانونية و الأخلاقية، و الدارس بروح فلسفية لهذه العلاقة، و استعمل عبارة روح فلسفية، لأن هذه العبارة يبدو أنها ضرورية في معالجة مثل هذه المواضيع، لأن الفلسفة حركة توجيهية توجه العلوم و الفكر إلى معرفة الأشياء، و تحاول الانتهاء إلى عملية تركيبية عامة، و بناء على ذلك فإن فلسفة التاريخ التي نستعين بها لقراءة مضامين اللقاء الحضاري العربي الإسلامي مع الحضارات والثقافات الأخرى، هي التي تحاول أن تستنتج من خلال معرفة التاريخ، مبادئ شاملة تتعلق بالفكر الإنساني و تطور المجتمعات(8)، فإننا إذا قرانا في عبارات رجاء كارودي: إن ما يسميه الغرب"بغزو اسبانيا" لم يكن غزوا عسكريا فقط كغزوات الأوربيين، فاسبانيا كان فيها من السكان عشرة ملايين، و لم يدخلها من الفرسان العرب أكثر من خمسين ألف فارس... و لو كان الأمر حربا فقط لما نجحوا، و لكن تفوق حضارة على أخرى كان هو عنصر النجاح الساحق... فالحضارة التي زرعها العرب عندنا في أوربا، و بالقرب منا في إفريقيا تمتد جذورها إلى الشرق في آسيا، و حين سافر الفرنسي "جيربر" إلى معاهد الشرق، و عاد حاملا علومه قال الناس في أوربا إنه قد اتصل بالجن لكثرة معارفه، و بعد قليل جعلوه بابا على روما باسم البابا سيلفي ستر الثاني"(9) ، كيف إذن ننصرف إلى معالجة قضية التواصل و التلاقي و التعايش مع الشعوب و أزمنتها الثقافية، و استعمل هنا مصطلح الزمن الثقافي أكثر من مرة للتأكيد على أهمية هذا المفهوم في إثارة و تحديد مواصفات و خصيصات الحقب التاريخية التي هي في النهاية حصيلة تفاعل الإنسان مع التاريخي و الاجتماعي و السياسي و الأخلاقي، وأستحضر في هذا المقام مفهوم الزمن الثقافي بالمعنى الذي شرحه د. عابد الجابري بقوله إن" زمن الثقافة أية ثقافة، ليس هو بالضرورة زمن الدول و الحوادث السياسية و الاجتماعية، و أن الزمن الثقافي لا يخضع لمقاييس الوقت و التوقيت الطبيعي، و السياسي الاجتماعي، لأن له مقاييسه الخاصة" إذ أن زمن بنية العقل المنتمي إلى ثقافة ما هو زمن هذه الثقافة نفسها، و بالتالي، فإن زمن العقل العقل العربي هو نفس زمن الثقافة العربية التي قلنا إن أبطالها التاريخيين مازالوا يتحركون أمامنا على خشبة مسرحها الخالد يشدوننا إليهم شدا(10)، ان المكون الأخلاقي يحضر في النظر إلى هذا البيان السابق من خلال ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، و ماذا ينبغي أن يعمل، و بأي شكل يشكل حياته؟ وهو يحس باختراق الزمن الثقافي لوجوده باستمرار، تلك الأسئلة التي وضع علم الأخلاق منذ القدم على عاتقه الإجابة عنها، حيث بحث المقصد و الغرض الذي ينبغي أن يكون، و الذي يحاول الإنسان أن يناله بأعماله، و إليه يوجه إرادته(11)، و لعل التدبر العلمي في هذه الأسئلة من شأنه أن يوقف على العمليات العقلية الإرادية المهيمنة في الأخلاق جملة و تفصيلا، و في السلوك الإنساني النفسي و الاجتماعي على الخصوص الشئ الذي يفسر في النهاية أهمية هذا العلم في ضبط و سبر أغوار الحياة الإنسانية العامة، و تقعيد الأصول و القواعد السلوكية و الأخلاقية التي ينبغي أن تؤطر التعايش بين الناس، و مختلف أساليب التواصل و التفاعل و التشارك بينهم،وذلك من منطلق أن علم الأخلاق هو الذي يوضح لنا الحياة الأخلاقية، و يعين الوسائل لامتحان الآراء الأخلاقية التي تظهر في شكل عرف و عادات، و يعيننا على معرفة الغاية الأخيرة للحياة، و يساعدنا على النظر في النظم لإبقاء ما يصلح منها للبقاء، و إصلاح الفاسد، و نبذ ما لا يصلح، و يبين المقياس الأخلاقي، الذي به نحكم على الأعمال، و به نهتدي في ميولنا و أفعالنا، و ليس غرض هذا العلم مقصورا على معرفة مجهودات الإنسان و أشكال المعاملات و تأثيرها في حياتنا، بل من غرضه أيضا التأثير في إرادتنا، و هدايتها، و استكشاف علة الحياة الأخلاقية، و تقويم الأشياء على قدر اعتمادها على إرادتنا و إرشادنا إلى كيف نشكل حياتنا، و نصبغ أعمالنا حتى نحقق المثل الأعلى للحياة، و نحصل خيرنا و كمالنا و منفعة الناس و خيرهم(12).
مكانة الدين المحورية في ثقافة التعايش:
وإذا كنت أتتبع هذه المراحل في هذا الموضوع على هذا الشكل، و التي تبدو متداخلة نسقيا، فذلك لأشير إلى أن مفهوم التسامح الذي أناقشه سلوكا في التعايش ينبع من خلال رؤية تتغيى في النهاية تأسيس قيم ثقافية جديدة تسعى إلى تجسيد التعايش ليست قضية فكرية عابرة، و ليست مضمونا إيديولوجيا بسيطا، بل هي قضية مركبة يصبح فيها الإنسان كما كان محور الإعلام و الإعلان المجسد للفكرة الثقافية باعتبارها وسيلة للحوار،وأسلوبا منهجيا في الحياة و الاندماج الفعال، و الذي تتداخل عناصر رئيسة و أسس بنيوية في تكوينها، و الحفاظ على استمرارية مفهومها، و أهم هذه العناصر الحضارية الرئيسة، كما يرى الباحثون، هي عنصر الدين الذي كان على الدوام المؤثر الايجابي في حياة الإنسان، و لعله و لأهمية هذا العنصر في التاريخ الاجتماعي البشري رد ارنولد توينبي الحضارات إلى الأديان حيث رأى أن الإمبراطوريات ليست هي مقياس الحضارة، بل على العكس إنها تمثل بداية مرحلة انهيار الحضارة، إذ تعمد الأقلية المسيطرة إلى التوسع حين تفقد مقومات الإبداع، و هي لا تحمل إلا سلاما مؤقتا و لا تقدم حلولا جذرية لمشكلات مجتمعاتها، و على عكس ذلك الأديان، إذ وراء كل حضارة من الحضارات القائمة اليوم ديانة عالمية، فالعقائد الدينية هي التي تسير مجرى التاريخ، و إذا كان هناك مستقبل لحضارة ما فذلك في حدود الدين و بسبب منه(13). ويبدو أنه قبل أن نناقش هذا العنصر، و مكانته في خلق ثقافة التعايش في المجتمعات العربية الإسلامية، لا بد أن نتساءل عن التصور الذي كونه الإنسان العربي عن نفسه، و عن الآخر و ما هي حدود التفاعل والتشارك مع هذا الآخر.و في هذا السياق نحذر و في غضون الدعوة المستمرة إلى رفع مستوى جودة الاتصال بين أبناء الإنسانية جمعاء رغبة في خلق إنسان عالمي، من أمثال نظرية هوبز ق 17 م عن طبيعة الإنسان المتحضر، كما يتجلى من قوله: إن كل ما فعلته حضارة اليوم أنها حجبت نزوع الإنسان الطبيعي إلى العدوان بستار من الأدب الرقيق، و استبدلت بالعنف المادي النميمة و الافتراء والانتقام وفقا للقانون، فإن جميع الدوافع عند الإنسان تهدف إلى حب ذاته، و حفظ حياته، و مرد سلوكه في كل حالاته إلى هذين الدافعين، و ليست الغيرية عنده إلا أنانية مقنعة مستنكرة، و كل ما يبدو في سلوك الإنسان، و كأنه مشاركة وجدانية للآخرين مرجعه في حقيقة الأمر إلى الرغبة في اقتناص منفعة أو كسب مجد، فالإنسان أناني بفطرته، نافر بطبعه من الاجتماع بغيره، سئ الظن بأقرانه، فهو إذا هم برحلة سلح نفسه، و إذا أسلم للنوم عينيه أغلق أبوابه، و حتى إذا استقر في بيته أقفل دواليبه، و هو يفعل هذا كله مع علمه بأن هناك قوانين وضعت لحمايته، و حراسا مزودين بالسلاح ليثأروا من كل من يريد إيذاءه... (14)، و المآخذ على هذا القول في هذه المناقشة تنبع من أن الإنسان الذي تسعى ثقافة التعايش إلى الإشادة بانجازه هو الإنسان السوي المندمج في حركية اجتماعية منتجة، ينصهر فيها الكل بقيادة سلطة العقل الذي يعتبر المهندس و المدبر لمختلف المشاريع الواقعية، إن الشخصية السوية في التراث العربي الإسلامي كما عالج ذلك د. زكي نجيب محمود في كتابه: تجديد الفكر العربي هي الإنسان العاقل، و لذلك يقول بعد أسئلة توصل من خلالها إلى أن مفكري الإسلام القدامى حين بحثوا في نموذج الإنسان، و تمكنوا من إعطاء صورة الكمال الإنساني، التي تصلح معيارا نقيس إليه واقع الإنسان المعاصر لنرى كم بلغت في سلوكه زاوية الانحراف، و حكموا لإنسان بالكمال حين يكون سلوكه العملي مقيدا بعقله إزاء الأشخاص و الأشياء و المواقف (15). فما معنى العقل في هذا السياق؟ إنها كلمة ما أيسر أن نقولها في سياق الحديث، و لكن ما أعسر أن تجد لها التحديد المحكم، و لئن كانت الفكرة كثيرا ما يوضحها نقيضها، فنقيض العقل هو الهوى، فماذا يميز أحكام العقل من أحكام الهوى ؟ يميزها أن الحكم من النوع الأول هو في كل حالة معينة واحد لا يتعدد بتعدد الأشخاص، أو بتعدد النزوات عند الشخص الواحد، على حين أن الحكم من النوع الثاني يقبل التعدد بكلتا الصورتين، فإذا قال قائل إن العشرة نصفها خمسة، لم يكن ثمة مجال أمام غيره، و لا أمام نفسه أن يتنكر لهذا القول، مهما تكن ظروفه و مزاجه، و أما إذا قال قائل إن شروق الشمس أجمل من غروبها، كان هناك احتمال أن يختلف معه سواه، بل أن يختلف هو نفسه مع نفسه إذا تغيرت حالته، و العلة في وحدانية الحكم العقلي، و في تعدد أحكام الهوى هي أن حكم العقل نقيضه مستحيل على الذهن أن يتصور حدوثه، و أما حكم الهوى فيمكن أن نتصور حدوث نقيضه (16)
من ثنايا هذا الطرح الذي تتضح فيه أهمية العقل في محاصرة السلوك غير المقبول، و ردود الفعل غير المألوفة، يمكن أن نقرأ دور الدين في تنظيم الحياة الإنسانية، و في إغلاق أبواب الحرية المطلقة، لأنه في غياب نظام تربوي لتلقين كيفيات ممارسة الحرية، و التعريف بحدودها و علاقتها بحقوق الإنسان و أسباب تكريمه، سنصل إلى التفكير و الحديث عن الحرية بشكلها المطلق، و هذا التفكير في الواقع يؤدي إلى مزيد من الاستبداد أكثر مما يؤدي إلى مزيد من الحرية، فالحرية في معناها النسبي الذي توصل إليه الفكر الإنساني ليست فقط في غياب شئ ما، و لكنها أيضا، و قبل ذلك هي في حضور شئ ما، فالحرية المطلقة عبء لا يستطيع أن يتحمله الإنسان فردا كان أو جماعة و هذا ما نراه في عالم اليوم، فمعايير الحرية و العدالة في مجتمع ما أو في ظل عقيدة سياسية إيديولوجية معينة، لا تعني بالضرورة أن هذه المعايير يمكن أن تطبق على مجتمع آخر بحذافيرها. كما أنها لا تعني أن هذا المجتمع عندما يرضى بتطبيق هذه المعايير على أفراده، يقبل عن طيب خاطر تطبيقها على مجتمع آخر، فالمصالح و الرغبات قد تتدخل لتقديم معايير أخرى يجري فلسفتها بأشكال عدة(17)
دور التربية في ترسيخ القيم في المجتمع الحديث:
إن التربية على ثقافة الحرية المستمدة من العقيدة الدينية من شأنه أن يصل بنا إلى المستوى الأخلاقي المنشود من التربية على حقوق الإنسان، و أساليب التعايش مع الآخر من أجل بناء تصور لنظام اجتماعي في التعايش، هذا النظام الذي يجد الإنسان في المجتمع العربي الإسلامي تصوره الكامل في مخيلته، و الذي يقع على عاتقه مسؤولية السعي الحثيث إلى تنفيذه، و الجهاد في سبيل ترسيخه، و إعداد العدة الواجبة له، و هو تصور يأخذ شكله الواقعي من قول الله تعالى في كتابه العزيز: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى، و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير (18) و ذلك في النهاية هو هدف التربية في تنميط التعاقب الجيلي داخل المجتمع العربي الإسلامي، و لعل هذا هو المقصود في قول صاحبي كتاب " الكائن والممكن من التربية على حقوق الإنسان".الأستاذين مبارك ألعدولي ومحمد وازي عن أهمية وأبعاد التعليم في بناء المجتمعات: "و إذا كان ذلك كذلك فمن المفروض أن يتجدد الوعي بما يمكن أن تقدمه التربية على كافة المستويات، كما ينبغي التنبه إلى خلفيات بعض الإنسياقات العشوائية، غير المضبوطة علميا، وراء بعض الأفكار، دون تبني عدة محلية، و إستراتيجية تربوية ملائمة للخصوصيات الثقافيةوالاجتماعيةو الحضارية. و هذا لا يعني التنكر لثقافة حقوق الإنسان و التربية عليها، و إنما العكس هو الصحيح، بناء على ما تبين من خلال الإلحاح على جدواها و أهميتها، و خاصة إذا عرف التطبيق طريقه الواضح و نهجه السليم، واضعا نصب العين كل الاعتبارات التي ينبغي أن تناقش مبدئيا، و لعلنا لا نجانب الصواب إذا قررنا مع بعض الأدبيات و أثبتنا بكل تأكيد أن التربية تحتاج اليوم احتياجا شديدا إلى حقوق الإنسان، كما أن ثقافة حقوق الإنسان تحتاج احتياجا أشد إلى تربية تضعها في برامجها الاستشرافية و تأخذها بنظر الاعتبار في كل توجهاتها الرامية إلى تطوير النشء، و تكوين المواطن الصالح، بالمفهوم الخاص الذي تحدده اختيارات معينة ربطا للتربية بالتنمية ،ومجال التشريع الاجتماعي وخططه المستقبلية محليا وانسانيا. (19)
إن ما ينبغي أن تقدمه التربية استنتاجا من النص في خضم الفكرة الحضارية المعاصرة هي تكوين المواطن الصالح في نسق العولمة باعتبارها العلامة الثقافية التي تسائل الهويات والخصوصيات من أجل نسج ثقافة عالمية يكون فيها الفرد هو الجماعة،والجماعة هي الفرد،ولعل في التركيز على التربية ذات المرجعية العلمية والقائمة على الخصوصيات الجوهرية ما سيقطع الطريق على أشكال الإرهاب الفكري في كل تعايش ثقافي داخل المجتمعات المعنية،لان الدين باعتباره جوابا محددا لكل الأسئلة التي تؤرقنا في كفاحنا الحضاري ،حيث يوجهنا الى المشروع الحقيقي الطبيعي، كما يمنحنا أساسا صائبا لكل مسألة في الحياة البشرية حتى يمكن لها الوصول الى أعلى درجات الازدهار والرقي(20) ويعطينا أسلوب الحوار مع الآخر في جميع الظروف والمقامات قال الله تعالى:"ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة،وجادلهم بالتي هي أحسن(21.)وبقدر ما ينفرنا هذا الأسلوب التصويري البياني من الأساليب التي لجأت لها طوائف من المبشرين والدعاة الى الاديان ،اساليب لمست فيها البشرية الافتقار الى ارضية الحوار،واسسه العلمية،ومؤهلاته البيداغوجية التي تتنافى مع الجهل باغوار النفس الانسانية ودوافعها وميولها،فانه يجعلنا نطلع على مزيد من الصور التي نستحضرها للدلالة على تاريخ التعايش بين المسلمين وغيرهم من اصحاب العقائد والافكار والديانات المخالفة.
من صور التعايش وأساليب التسامح في التاريخ الإسلامي:
يبدو من خلال هذا العرض أنه بإمكاننا أن ننفتح على صور عديدة في التاريخ العربي الإسلامي والتي تعتبر القواعد الضابطة لأخلاق المجتمع الإسلامي، وفي هذا الصدد يمكن الرجوع الى أول وثيقة كانت بمثابة دستور لهذا المجتمع،حيث نقف على بنود التعايش بين المسلمين واليهود في المدينة المنورة، وذلك ما نرى فيه حقيقة معاملة النبي (ص) لليهود وخاصة ما نقرؤه في قوله عليه السلام:يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم،الا من ظلم وأثم فانه لايوثغ(يهلك)الا نفسه وأهل بيته(22).كما نستطيع أن نتابع قراءة هذه الألوان من أساليب التسامح والتعايش في سيرة الخلفاء الراشدين الذين تابعوا إرساء قواعد الدين الإسلامي وأخلاقه، فالعقل والفكر والنظر والاطمئنان القلبي هي أساس الإيمان بهذا الدين لذلك عملوا على الدوام خلال فتوحاتهم، بأن لا إكراه في الدين عملا بقوله تعالي : "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي(23)،
وقد كان عمر بن الخطاب (ض)، على شدته مع المسلمين، رفيقا بأهل الذمة والمعاهدين فقد أوصى سعد بن أبي وقاص، لما أرسله إلى حرب الفرس أن يبعد معسكره عن قرى أهل الصلح والذمة، وبأن لا يسمح لأحد من أصحابه بدخولها، إلا إذا كان على ثقة من دينه، وحسن خلقه وأوصاه أن لا يأخذ من أهلها شيئا، لأن لهم حرمة وذمة يجب على المسلمين الوفاء بها، كما أوصى أبا عبيدة بن الجراح بالذميين، فقال : وامنع المسلمين من ظلمهم والإضرار بهم، وأكل أموالهم إلا بحقها، ووف لهم بشرطهم الذي شرطت في جميع ما أعطيته(24)، وكانت هذه المعاملة هي الروح الغالبة في الفتح الإسلامي للأندلس فقد عامل المسلمون أهلها معاملة تتجلي فيها السماحة بأجلى معانيها فقد أعفوا من الجزية غير القادرين عليها، واستمتع بالحرية النصارى واليهود، وذلك للمسلك الذي سلكه المسلمون في تصريف الشؤون هناك، ولقد عاش النصارى أحرارا في إقامة شعائرهم الدينية دون تدخل من المسلمين في ذلك ولا في أحوالهم الشخصية، وقد تولد عن هذه السياسة انحياز عقلاء الأمة الأندلسية إلى المسلمين وحصل بينهم زواج كثير. وكذلك اليهود، فقد خلصهم المسلمون حين فتحوا الأندلس، من عسف القوط الذين كانوا يرزحون تحته، ومن اضطهادهم، وسمحوا لهم بحرية التجارة التي كانت محظورة عليهم، وأباحوا لهم أن يتملكوا، بعد أن كانت الملكية محرمة عليهم، فاستنشقوا بذلك نسيم الحرية،(25) ولعل تتبع تاريخ المعاملة الحسنة لأهل الأديان الأخرى من طرف المسلمين هو ما جعل مفكريهم يلهجون بمواصفات هذه المعاملة مما يدعو شعوب العالم الإسلامي إلى استلهام العبر من نهج سلفهم بغية تطوير أساليب تعاملهم مع الآخر خاصة ما يتعلق باحترام انتمائه الفكري، والعمل الدائم على الاستفادة من إنتاجه حيث كانت المعرفة والبحث العلمي ميدانا للإطلاع على علوم الآخرين، وابتكاراتهم واجتهاداتهم، وعرضها العرض الذي يضعها في المكان اللائق بها في بنية الثقافة العربية الإسلامية، يقول سيرت. و.ارنولد: لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم، منذ القرن الأول للهجرة، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق، أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام، قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة(26) ولعل وضع هذا الكلام في سياقه التاريخي كفيل أن يرسم ويشكل الصورة المثالية للحوار الفكري الذي مارسه المسلمون الذين حاولوا أن يكونوا الصورة المجسدة للإسلام، والتي جذبت إليها أصحاب الملل الأخرى اعترافا بانسجامها وجدارتها أن تكون القانون القادر على حمايتهم ورعايتهم يأمنون في كنفه، ويمارسون فيه حرياتهم وينعمون تحت ظله بالأمن والطمأنينة والسلام تحقيقا لوجودهم ورغباتهم وأمنياتهم.
وكل ذلك من بركة القرآن على الإنسانية جمعاء كما يقول الأستاذ عبد الكريم غلاب : "والقرآن الذي نزل على الرسول في بضع وعشرين سنة كان يتتبع هذا المجتمع بالتكوين و التوجيه والإرشاد و التنظيم و التشريع، لأنه يقدر أن زمن نزول الوحي قصير، ولكن أفقه سيظل على امتداد الحياة، والأجيال التي ستأتي بعد نهاية نزول الوحي ينبغي أن تجد في القرآن ما يهديها إلى سواء السبيل، وفي مقدمة الهداية تجمعها في مجتمع متكامل هو مجتمع المؤمنين (...) وقد وجدت أن القرآن اتجه في جوهره إلى تكوين هذا المجتمع تكوينا سليما من خليته الأولى :نفس الإنسان" إلى مجموع خلاياه ليجعل منه مثال الإنسانية الصالحة التي تتحمل الآمانة، وتقود الحياة في مسيرتها المستقرة إلى مستقرها." (27)
الهوامش:
1. الإسلام وأزمة الحضارة الإنسانية المعاصرة في ضوء الفقه الحضاري، عمر بهاء الدين الأميري، مؤسسة الشرق للنشر والترجمة، ص 14.
2. سوسولوجيا الثقافة: د. الطاهر لبيب، منشورات عيون، ط 2، الدار البيضاء 1986 ص 10
3. نفسه: ص 10.
4. المعجم الأدبي: الجبوري عبد النور، دار العلم للملايين – ص 55.
5. الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية : دراسة مقارنة، دكتور توفيق طويل مكتبة التراث الإسلامية، ص 8.
6. الإسلام وأزمة الحضارة، ص 13.
7. الانفتاح العربي على الحضارات الأخرى، د. محمد عمارة، مجلة العربي، عدد : 351 – فبراير 1988، ص 32.
8. المعجم الأدبي:مادة(تاريخ).
9. استعمار التاريخ والحور بين الحضارات، د. أحمد بهاء الدين، مجلة العربي ع : 243، فبراير 1979، ص : 17-18.
10. تكوين العقل العربي : د. محمد عباد الجابري، دار الطليعة بيروت، ط : مايو 1984، ص : 39.
11. مبادئ الفلسفة : أس، رايو برت، ترجمة : أحمد أمين دار الكتاب العربي – بيروت – لبنان ص : 65-66.
12. نفسه 69.
13. التفسير الديني للتاريخ ذ.محمود الشرقاوي، مجلة العربي، العدد 277، ديسمبر 1981 ص99.
14. الحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية، ص 73.
15. تجديد الفكر العربي د. زكي نجيب محمود، دار الشروق : 341 و 343.
16. نفسه: 342-343.
17. هل يخاف الإنسان الحرية؟ د. محمد الرميحي، مجلة العربي ع 301 ديسمبر 1983، ص 10.
18. سورة الحجرات: 13.
19. الكائن والممكن من التربية على حقوق الإنسان، مبارك العدولي محمد وازي، ط 1 المطبعة الرئيسية، أكادير 1421 – 2000، ص 61.
20. الإسلام يتحدى مدخل علمي إلى الإيمان : وحيد الدين خان، تعريب ظفر الإسلام خان، دار البحوث العلمية، ط6، ص 175.
21. سورة النحل: 125.
22. فقه السيرة، دراسة منهجية علمية لسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام د. محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر، ط5 : 1393-1973 ص 215.
23. سورة البقرة : 256.
24 تاريخ الإسلام أكبر شاهد على سماحته د.محمد عبد التواب حامد (جامعة الأزهر)، مجلة منار الإسلام، العدد 12-السنة 6-ذو الحجة 1401-اكتوبر1981 ص 52.
25. نفسه، ص 54.
26-نفسه:54
27. مجتمع المؤمنين من هدي القرآن، تفسير الدلالة لآيات تكوين المجتمع، عبد الكريم غلاب، ط الأولى: 1408-1988، ص 6.