يوم الحب والتحرر من سلطة النسق

أمل زاهد
يحمل يوم الحب أو يوم الفلانتاين مرموزا ثقافيا ذا خصوصية خاصة جدا في بلادنا ؛ فيوم الحب في تقديري بات يضمّن حمولات دلالية تشي بالضيق من التحكم في الحريات الفردية ؛ والتملل والتذمر من الرقابة والرقيب الذي يحاول المحتفلون مرواغته ومخاتلته عبر قلوب ملونة أو ورود حمراء فاقع لونها تسر الناظرين أو عبر ممارسات مختلف ألوانها من سفر أو احتفال أو هدايا أو سيادة وتمظهر للون الأحمر ؛ وذلك رغم أنف الرقابة والممانعين !. فكل ممنوع ومرغوب وكل ما تسدل عليه ستائر الحجب والمنع تزداد جاذبيته ؛ وتتكثف رغبة طلابه فيه .. مما يحول فعل الاحتفال ذاته إلى فعل تمردي احتجاجي مفعم بالإثارة والمغامرة ؛ بالخروج من أسر السياق وكسر النسق الثقافي المتحكم في المجتمع ؛ والرغبة في الانفكاك والانعتاق منه !.. وهو يضمنّ أيضا محاولة لمقاربة الفردانية في ثقافة تتحكم فيها الأبوية البطركية السلطوية بتراتيبتها المتعددة والتي تبدأ بمؤسسة الأسرة وسلطتها على خيارات الفرد ورغباته وصولا لباقي المؤسسات السلطوية الأخرى.وفي ثقافة طاردة للفرح ومحاربة لتمظهراته تبدو محاولة اقتناص المناسبات للتعبير عنه والاحتفاء به منطقية وغير مستغربة . يشي يوم الحب في السعودية أيضا باحتدام الصراع الثقافي في مجتمع تتناهشه رياح العولمة الثقافية الجامحة المذوبة للهويات من جهة ؛ والمحافظة والتشدد والرغبة في التشبث بالخصوصية التي باتت مهددة في عقر دارها اليوم من ناحية أخرى !.
تتهدل مواقع التواصل الاجتماعي بالسخرية اللاذعة من الرقابة وممارساتها والتهكم بملامح يوم الحب السعودي الذي تسدل فيه المرأة نقابها وعباءتها الحمراء حتى أخمص قدميها ؛ وهي صورة لاذعة السخرية فبركتها وسائل الاتصالات الذكية وانتشرت على مواقع التواصل بروافدها المختلفة ؛ في دلالة رمزية تحمل أبعادا مختلفة وتتجسد فيها أول ما تتجسد محورية المرأة في الصراع الثقافي الاجتماعي .
من ناحية أخرى يرفع الممانعون والمناهضون للاحتفال بيوم الحب مختلف الدفوع الدينية الوعظية لثني المحتفلين عن فعلهم المشين – دون فائدة -وصولا إلى إطلاق النكات والدعاء عليهم في مواقع التواصل ،..إلى آخر معارك الكر والفر في صراع التيارات المعهود في مشهدنا المجتمعي !.. الملفت والمثير للاهتمام دوما في ثقافتنا هو لي عنق كافة الإشكاليات الثقافية لتأخذ صبغة دينية ؛ فيتم مناقشتها عبر الحلال والحرام والبحث عن مخرج ( إفتائي ) .. وصولا لتحويل القضية إلى قضية عقدية يدخل فيها الولاء والبراء ؛ وتقليد ” النصارى” والحذو حذوهم ، والقسيس” فلانتاين ” الذي كان يجمع شمل المحبين بالزواج في رواية والذي أعدم بتهمة الدعوة إلى النصرانية في رواية أخرى ،.. إلى باقي القصص التي ترد الإحتفال بيوم الحب إلى جذور دينية نصرانية في محاولة لثني المحتفلين عن احتفالهم ؛ وأيضا دون فائدة ترتجى!،..بينما القضية ثقافية اجتماعية في المقام الأول وردها إلى جذرها الثقافي يساعد على القراءة النقدية الواعية بأبعادها المختلفة ؛ والذي لابد أن يدخل فيها تقليد الضعيف للقوي والمهزوم للمنتصر كما يقول ابن خلدون .
واللافت أيضا أن من ينهى عن تقليد الغرب في يوم الحب لا يجد هو نفسه حرجا في تقليده في أمور أخرى غارقا حتى النخاع في ثقافة الاستهلاك و ابتلاع منتجات الغرب الحديثة والتفنن في اقتنائها والتمظهر بها ؛ والانحباس في قضبان رأسماليته المنتهكة لآدمية البشز وإنسانيتهم ، والتي يتحول معها الإنسان إلى ترس في آلة تستنزف قواه وجيوبه !
كل من عاش في الغرب أو له احتكاك مباشر بأهله يدرك تمام الإدراك أن يوم الحب أو يوم الفلانتاين لا يحمل بعدا دينيا على الإطلاق ؛ ولا يعدو كونه محض ممارسة اجتماعية تم إخضاعها للتسليع والتجارة اليوم ؛ شأنها في ذلك شأن المناسبات الأخرى هناك -بما فيها الدينية -كأعياد الميلاد والفصح وغيرها؛ والتي تحولت إلى تجارة وسوق يقضم الجيوب ويلتهم محافظ البشر ويساهم في ضخ الماكينة الرأسمالية بالنقد واكتناز حسابات أباطرة رؤوس الأموال !.ساهمت العولمة في تهشيم الحدود والعوائق الجغرافية عبر ثورة الاتصالات الحديثة في نشر ثقافة الاحتفال بيوم الحب في بلاد العالمين من شرقها لغربها، وقد شاء الله تعالى لي أن أكون متواجدة في مدينة( هونج كونج ) في هذا اليوم لأشهد ملامح الاحتفال بألوانه المبهجة وتفاصيله القشيبة وتغلب اللون الأحمر فيه إلى ارتفاع أسعار المطاعم في ذلك اليوم ، رغم أن الديانات الأكثر سيادة في هونج كونج هي البوذية والكنفشوسية والطاوية وليس النصرانية، ورغم أن كثير من سكان البلاد لايقرون بالانتماء لأية ديانة أيضا .. مما يؤكد أن القضية ثقافية فهونج كونج لم تتأثر فقط بالاستعمار البريطاني الذي خضعت له حوالي قرن ونصف حتى ١٩٩٧ م ، ولكنها أيضا اليوم تخضع كسائر البلاد لرياح العولمة التي تكتسح العالم من أقصاه إلى أقصاه!