ثقافة الموت بين المواجهة والهروب

أعتقد أن التفكر في الموت أمر لازم لكل نفس تمر بمرحلة الحياة الدنيا، وقد لا تكتفي بعض النفوس بالتفكر في الموت، فتختار الخوف أيضا ليشكل كابوسا مخيفا ونقطة تحول لدى الكثير.
لست الأولى ولا الأخيرة ممن يتفكرون في الموت كمرحلة لا بد من المرور بها، ولأني لم أجرب مصيبة الموت في من أعرف منذ نضوجي، فإنني لا أعرف حقيقة مشاعر الباكيات حولي عند تذكر موتاهم، لأتساءل كيف ينبغي لي أن أتصرف عند وجود مصيبة موت في حياتي ـ لا سمح الله ـ هل سأكون مثلهن؟ هل هناك طريقة تفكير من الممكن أن تجعلني أتصرف بشكل عملي وعقلاني أكثر مع مصيبة الموت؟ بل ما الأفكار التي علي أن أستحضرها لحظة مداهمة الموت لي؟ هل طريقة التفكير الخائفة واليائسة والمفجوعة تثمر شيئا؟قرأت مقالات وكتابات (هاربة) من هذه الحقيقة التي ستواجه كل مخلوق حي، كُتاب يختارون الهروب من التفكير في ذلك وينتقدون من يفكر في الموت! معتقدين بأن تذكر الموت يعطل الحياة ويجعل الإنسان لا ينشط في صناعة الحياة، يتناسون بأن لا قيمة للحياة إن لم يكن هناك موت، وأن الوقت مورد شخصي عظيم، علينا ألا نتجاهل انتهاءه، وكيف نبرر إيماننا بالجزاء في اليوم الآخر إن استمررنا في الاعتقاد بأن الحماس للعمل النافع سيكون من أجل الحياة الدنيا فقط وبعيدا عن تذكر الموت والآخرة؟استمعت وحضرت لمحاضرات الوعاظ والتي تدعو لـ(مواجهة) الموت، ولكن للأسف! الأغلبية منهم يصفون الموت بشكل صوري، إذ لا أجد غير وصف ترك الأهل ووصف الغسل والتكفين ووصف حمل الجنازة ووصف صلاة الناس ثم وصف القبر ورش التراب ومغادرة الأهل وأكل الدود، فبدلا من الموت مرة نموت مع هذا التصوير مرات ومرات.
فلا أعلم ما فائدة كل هذا التوصيف الصوري غير تكريس الخوف من الموت مع عدم إيجاد طريقة واضحة لما ينبغي أن يفكر به الإنسان لحظة وفاته، وكيف يتعامل مع ربه حينها، ومع شيطانه، وما الطريقة التي من الممكن أن يفكر بها أهل الميت.
وبين هروب الكتاب العقيم ومواجهة الوعاظ الصورية، تفكرت في واقع تفكيري قبل سنوات، حيث كنت كثيرة القراءة في كتب NLP، وكنت أؤمن بأن الإنسان يستطيع التحكم في تصرفاته عن طريق التحكم في مشاعره، ويستطيع التحكم في مشاعره باختيار وانتقاء أفكاره، (فانتقاء الأفكار هو الأساس للتحكم بالمشاعر فالسلوكيات).
كنت أستنكر الحزن، شرعا وعقلا، وأنظر لمن يحزنون بأنهم ضعفاء جهلاء لا يستطيعون اختيار أفكارهم، فضلا عن مشاعرهم.
لا أنسى عندما وجدت صديقتي المقربة وهي باكية، لأن أختا لها ستجري عملية قلب نسبة نجاحها %5، فكانت تتخيل وفاة أختها وتبكي! قلت لها: وإذا ماتت ما الذي سيحصل؟ تخيلي أنها أجرت العملية في الصباح وماتت في الصباح، ولكن خبر وفاتها لم يصل لك إلا في المساء، متى ستبكين وتتألمين، في الصباح أم المساء؟ أجابت في المساء.
قلت: إذاً المشكلة ليست في الموت، المشكلة في أفكارك التي تختارينها بعد سماع الخبر.
ومع أنني ما زلت أؤمن بما قلته لها، إلا أنني أستنكر جمودي وأقدر لها صبرها على فلسفتي.
حالياً أؤمن بأن علينا التخلص من الهروب بمواجهة هذه الحقيقة وامتثال أمر نبينا، صلى الله عليه وسلم، من الإكثار من ذكر الموت، فتذكر الموت حياة وانتباهة من الغفلة وعمل جاد للغد، بعكس طول الأمل الذي لا نجني منه سوى التسويف والكسل والغفلة وتضييع الأوقات والجهود فيما لا ينفع.
وأيضا علينا أن نتخلص من المواجهة الصورية المادية.
يقول ابن القيم، في كلام قيم له عن الموت في كتاب الطب الروحاني: (إنما ينبغي للإنسان أن يكثر من ذكر الموت ليعمل له، لا لنفس تصويره وتمثيله)، وذلك لأن هذا التصوير للموت سبب للخوف لحظة الموت، واختيار الخوف كطريقة تفكير في تلك اللحظة هو أكبر خطأ ترتكبه في آخر لحظات حياتك في حق نفسك، لأن الخوف لا فائدة منه سوى أنه يمنع من عمل أي عمل لا تؤمن عواقبه، فمثلا السارق يخاف عند قيامه بالسرقة لما يترتب على عمله من عقوبات، فالخوف لا بد أن يرتبط بعمل، وأن يخاف المؤمن من الله في حياته وفي الوقت الذي يتاح له العمل فيه، أمر مطلوب ومحفز لترك أي عمل غير صالح، أما أن يكون الخوف في لحظات الموت، تلك اللحظات التي لا مجال فيها للعمل، فلا فائدة من الخوف ذلك الحين.
قال الفضيل بن عياض (الخوف أفضل من الرجاء، فإذا نزل الموت فالرجاء أفضل).
فالرجاء، أو إحسان الظن بالله، هو الطريقة المثلى التي نعالج بها أنفسنا لحظة نزول الموت، بعد عمر طويل بإذن الله.
وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل موته بثلاثة أيام (لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن) أخرجه مسلم.
فلا بد من طمأنة أنفسنا بأنها لحظات وننتقل لرب كريم يكرم من يؤمن به سبحانه.
وها هو رسولنا يطمئن من حوله لحظة سكرات موته بقوله (لا كرب على أبيك بعد اليوم).
لنواجه فكرة الموت بطريقة عملية، بعيدا عن التصوير، ولنترك التخويف والهروب العقيم، ولنتعلم الطريقة المثلى التي نعالج بها أنفسنا ومن حولنا لحظة الموت التي لا بد منها.
خاتمة : ألا كل حي هالك وابن هالكوذو نسب في الهالكين عريق
المصدر: http://www.mznh-tv.com/mznh/articles.php?action=show&id=237