في حماية المشروع الديمقراطي العربي؛ تشخيصات وتطلعات
بقلم كمال عبد اللطيف
يؤشر التحول السياسي الحاصل اليوم في المجتمعات العربية، على المعطيات المعقدة والمتناقضة، وهو يدعونا أساساً إلى التفكير في كيفية حماية الديمقراطية، وقبل ذلك، التفكير في كيفية مواجهة الثقافة المحافظة، التي تعود لتحتل الفضاء الثقافي العربي بآليات التقليد وقيمه النصية.
تضعنا بداية نهاية حركات الاحتجاج الصانعة لأحداث الانفجارات التي حصلت طيلة سنة 2011، أمام ذواتنا، إنّها تضعنا أمام مسؤوليات تكافؤ المطالب المستجدة التي فجرتها أفعال مناهضة أنظمة الفساد والاستبداد. ذلك أنّ تحديات الراهن الثقافي العربي، لا ترتبط بالانفجار الحاصل وتبعاته. إنّ عمر بعضها يعود بنا في بعض صوره، إلى معارك كنا نعتقد أنّها صُفِّيَت في ستينات وسبعينات القرن الماضي. نتذكر هنا مواقف العروي من التقليد، ونقده لتقديس اللغة والتاريخ والتراث، كما يمكن أن نشير إلى أمثلة أخرى تبلورت في معارك النقد الأدبي بين المناصرين للتقليد في فنون الأدب، وبين المدافعين عن التجديد والتحديث والتجريب.
نعتبر أنّ التحديات الجديدة، مرتبطة بالورطة الحاصلة بعد انفجارات الاحتجاج العربية، المتمثلة في صعود الإسلام السياسي إلى الحكم في بعض البلدان العربية، وكذا عودة الإرهاب، بل وانتشار دعاوى التكفير وفتاواه، فهذه التحديات تضعنا أمام تراجع واضح في الفكر الحداثي ومقدماته الكبرى في الفكر والحياة والقيم، إنّها تضعنا أمام جملة من العلل الكبرى في الثقافة العربية من أبرزها:
1– تراجع اليسار وتشرذمه وغربته وعطالته، دون إغفال تراجع المشروع السياسي القومي وهشاشته، ودون نسيان الإشارة إلى تلفيقية المشروع السياسي الليبرالي.
2– مساهمة منطق التوافق الانتقالي، الذي عرفته بعض المجتمعات العربية في نهاية القرن الماضي، في توليد كثير من صور الخلط في حياتنا السياسية أثناء الانفجارات الحاصلة وقبلها، الأمر الذي يعكس استمرار العمل بأساليب التمويه والمخاتلة، ويعكس أولاً وقبل كل شيء عجز النخب عن مواجهة الإشكالات المؤجلة في موضوعات الإصلاح الديني والثقافي وبناء دولة القانون والمؤسسات.
أتصور أنّه لا يمكن مواجهة التحديات القادمة في الثقافة العربية، إلا بالعمل الهادف على تحصين جبهة الفكر الحداثي وتطويرها في مشهدنا الثقافي، وذلك باستكمال مشاريع الإصلاح المتوقفة وعلى رأسها الإصلاح الديني، الذي يمكن أن يضع في تصورنا حداً لمسألة العودة إلى النصية المحافظة في ثقافتنا.
لا يمكن أن نغفل الإشارة هنا، إلى أنّنا نواجه اليوم في فكرنا المعاصر توقف جهود الفكر العربي، في موضوع إكمال مشروع الإصلاح الديني، حيث ظل موضوع الإصلاح غير مكتمل، وذلك بتوقفه عند جهود النهضويين، الذين دعوا إلى التجديد والاجتهاد، محاولين النظر إلى الخلافة، باعتبارها مؤسسة تاريخية قابلة للتطوير والتجاوز، وذلك انطلاقاً من كونها لا تعد جزءاً من الدين. ولم يتواصل النقاش النقدي في هذا الموضوع، حيث سادت في الثقافة العربية أشكال من المخاتلات التي تسمح بإمكانية حصول ما حصل اليوم.
صحيح أنّ قراءة التراث في أعمال كل من محمد عابد الجابري ومحمد أركون، وخاصة في نقدهما للعقل السياسي الإسلامي، قد ساهمت في إضاءة كثير من القضايا الموصلة بالمجال السياسي في حاضرنا. إلاّ أنّ نتائج أبحاثهما ظلت محصورة وسط نخب تزداد مسافات ابتعادها عن المجتمع اتساعاً، الأمر الذي ترك للأنظمة السياسية السائدة، مواصلة القيام بترسيخ تصوراتها الموظِّفة للإسلام داخل مؤسساتها، حيث راهَنَت وتُرَاهِن على الحساسية الدينية، في تدبير جوانب عديدة من الشأن العام.
يمكن أن نؤكد إذن، أنّ من الأمور المستعجلة اليوم في الثقافة العربية، العمل على تأسيس جبهة للفكر الحداثي، من أجل أن تساعدنا على إيقاف مسلسلات التراجع والانكفاء، جبهة يمكن أن تشكل ذرعاً أمامياً، لمواجهة أشكال الاندحار الثقافي، الحاصل في بيئات الثقافة العربية منذ عقود من الزمن، وذلك بفعل اتساع تيارات الفكر النصي المحافظ وتناميه، وانقطاع بل توقف وتيرة مغامرة الاجتهاد والإبداع في فكرنا. نحن هنا لا نتحدث عن نموذج حداثي جاهز، ذلك أنّ الحداثة إبداع يجسده تاريخ من المعارك. وإذا كان الانفجار العربي المتواصل، قد أفرز مشهداً جديداً في الواقع العربي، واكتشف الجميع بالملموس، أنّ التغيير لا يكون فقط بإسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة، بل إنّه يتطلب رؤية شاملة، لمختلف زوايا النهوض والتنمية.
إنّ بناء مجتمع عصري، يحتاج اليوم إلى جبهة للتحرك، مسلحة بمبادئ الفكر المعاصر ومقدماته، جبهة قادرة على إعادة بناء المجتمع مجدداً. ونحن نعتقد أنّه لن تكون هناك مردودية، لتحركات اليوم، إذا لم تصنع الحدود، التي تركب القطائع المطلوبة وبلا تردُّدٍ ولا مخاتلة، مع مختلف أوجه التقليد والاستبداد ومظاهرهما في مجتمعنا، الأمر الذي يفيد أنّ المعركة مفتوحة.
ولأنّ المعركة مفتوحة، نقول أخيراً إنّ معركة الإصلاح الثقافي تتطلب مزيداً من تقوية دعائم الفكر التاريخي والتاريخ المقارن، حيث تساعد معطيات التاريخ المقارن على سبيل المثال، في تنسيب الأحكام والتصورات الإطلاقية المهيمنة على كثير من آليات تفكيرنا...
صحيح أنّ إنجاز ثورة ثقافيّة في فكرنا، يتطلب جهوداً متواصلة في باب استيعاب نتائج الثورات المعرفيّة والعلميّة، التي تبلورت في الفكر المعاصر، إلا أنّ هذا الأمر الذي نتصور إمكانية تحققه في المدى الزمني المتوسط، لا ينبغي أن يجعلنا نتوقف عن استكمال مهام الحاضر المستعجَلَة، والمتمثلة في مشاريع الترجمة ومشاريع تطوير منظومتنا في التربية والتعليم، إضافة إلى تشجيع البحث العلمي، وتوسيع مجالات ودوائر الاستفادة من نتائجه وآفاقه، في المعرفة والمجتمع والاقتصاد إلخ، فنحن نعتقد أنّ هذه المعارك تعتبر الممهدات التي تُعَبِّد الطريق المؤدي إلى باب تحرير الأذهان..
لا تنفصل إذن، في نظرنا معارك المجال الثقافي والديني، عن مشروع ترسيخ الحداثة السياسية في فكرنا. وفي هذا السياق، نحن نعتبر أنّ انتشار دعاوى تيارات الإسلام السياسي، ودعاوى تيارات التكفير في ثقافتنا ومجتمعنا، يمكِّنُنا أكثر من أي وقت مضى من بناء النظر النقدي، القادر على كشف فقر التصورات الموصولة بهذه التيارات ومحدوديتها وغربتها، وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع والمساهم في إنشاء مواقف وتصورات مطابقة لتطلعاتنا، في النهضة والتقدم.
المصدر: http://mominoun.com/articles/%D9%81%D9%8A-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D9%8A%D8%A9...