القعود الحركي .. دعوة لدخول جهنم!!

أحمد التلاوي

منذ فترة ليست بالقصيرة، ومع ازدياد انتشار وتوسع مواقع التواصل الاجتماعي، ومن قبلها المنتديات، في الفضاء الفكري والثقافي للشباب العربي المسلم، ظهرت العديد من الدعوات التي نجدها تملأ العديد من الصفحات الدينية، أو التي تدعي أنها إسلامية ويقوم عليها إما مجموعة من الشخصيات الغامضة أو التي لا تعلم شيئًا عن صحيح الدين، بما في ذلك علة خلق الله تعالى للإنسان، لتمكين شريعته وعبادته وخلافته في الأرض.

تتمحور هذه الدعوات حول معانٍ محددة تتعلق بـ”ترك الدنيا الفانية”، وأن “العاقل من ترك الدنيا قبل أن تتركه”، وفي الإطار “اعمل على أن تنير قبرك بقراءة القرآن الكريم”، “الدنيا فانية.. الدنيا لهو ولعب.. الحياة الحقيقية في الآخرة فقط”.

ولكن، ومع اتفاقنا مع فناء الدنيا، وأنها دار الممر، وأن الآخرة هي الحياة الحقيقية، باعتبار أن ذلك أحد أركان الإيمان في الإسلام؛ إلا أن الإسلام كدين حنيف نزل من لدن حكيم عليم، حدد القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية الشريفة معالمه بدقة؛ هو دين شامل ومتكامل، وكذلك متوازن.

فتحقيقًا لسُنَّة استخلاف اللهِ عز وجل للإنسان في الأرض، جعل الله تعالى العمل والسعي أحد القوانين المفروضة على الإنسان، سواء كفرد أو كجماعة.

ولقد وردت كلمة “عمل” بمشتقاتها وجذورها اللغوية المختلفة، في القرآن الكريم، 314 مرة، وكلمة “فعل”، بمشتقاتها المختلفة، 85 مرة، بينما جاءت كلمة “سعى” و”سعي”، حوالي 22 مرة، فيما وردت كلمة “سَيْر” بمختلف تراكيبها، حوالي 13 مرة، وكانت في الغالب دعوة للتدبر في خلق الله تعالى، وأخذ العبرة من مصير الأوَّلين، وخرج خروجًا، وردت 165 مرة، و”المشي” بمشتقاتها عشر مرات، ومن بينها ما فيه دعوة للتدبُّر أيضًا، بينما وردت كلمة “يموج” بمعنى الحركة المتواترة الكثيفة المتداخلة، مرة واحدة، في سُورة “الكهف”.

ومن بين هذه المرات المئات التي ذكر فيها رب العزة سبحانه في القرآن الكريم قضية العمل والفعل والسعي، كانت من بينها نسبة مُعتبرة من المرات التي تحدث فيها الخالق العظيم، عن أهمية فعل الإنسان في الدنيا في تحديد مصيره في الآخرة.

فلن ينفصل موقف الإنسان في الآخرة أمام ربه لحظة الحساب، ومصيره بعدها، ما بين جنَّةٍ أو نار، عن سعيه وعمله في الآخرة..

ففي سُورة “البقرة”، يقول تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}، وهو معنىً تكرر في القرآن الكريم عشرات المرات؛ حيث الجنَّة ستكون ثمرة العمل الصالح في الدنيا.

وفي نفس السُّورة، يقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَنتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}، وهو بدوره معنىً تكرر في القرآن الكريم الكثير من المرات.

وفي سُورة “التَّوْبة”، الأمر الإلهي واضح للمؤمنين بالسعي والعمل في الحياة الدنيا، فيقول رب العزة سبحانه: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(105)}.

“تحسين مستوى الإنسان والارتقاء به، من أجل استكمال رسالة التكريم الإلهي له، وتمكين شريعة الله تعالى في أرضه لن يتم أبدًا من خلال ترك الدنيا والاكتفاء بالروحانيات”

وبالتالي؛ فالدنيا بالمعنى السلبي من أسوأ الأعمال عند الله تعالى؛ حيث خُلِقَ الإنسان من أجل عمارة الدنيا، وتحسين مستوى الإنسان والارتقاء به، من أجل استكمال رسالة التكريم الإلهي له، وتمكين شريعة الله تعالى في أرضه لن يتم أبدًا من خلال ترك الدنيا والاكتفاء بالروحانيات.

جاءت اليهودية مادية بالكامل، والمسيحية روحانية بالكامل، بعد تحريفهما، لذلك فشلت كليهما، وانساق الناس في الغرب المسيحي اليهودي إما إلى العلمانية والمادية أو إلى التطرف الديني.

لكن الإسلام دين عقيدة وعمل، والعمل دنيوي وأخروي، ولو جلست أنير قبري فقط سوف أجدهم فوق رأسي بقنابلهم الذكية وصواريخهم، ولن تجد كلمة الله تعالى على شبكة الإنترنت، ولن يستطيع المسلمون أن يصلوا بدينهم إلى الآخر!

وعملنا لآخرتنا يبدأ من إصلاح دنيانا حتى بالمعنى المادى، وإلا فما معنى الحديث الشريف: “فاعمل عمل امرئٍ يظن أنه لن يموت أبدًا، واحذر حذر امرئٍ يخشى أن يموت غدًا” [أخرجه البيهقي في سُنَنه والديلمي في الفردوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص “رَضِيَ اللهُ عَنْهما”].

وبالرغم من تضعيف السيوطي لهذا الحديث في “الجامع الصغير”، لأن فيه مجهولاً وضعيفًا كما قال المناوي في “فيض القدير”؛ إلا أنه يبقى أن الضعف في هذا الحديث، هو ضعف إسناد وليس ضعف نصٍّ.

وفي السُّنَّة النبوية الكثير من الأحاديث التي تتناول محاسبة الإنسان وسؤاله في قبره ويوم الحشر، عن عمره فيما أفناه وشبابه فيما أبلاه.

وقتها لو قال الإنسان لربه وقتها أنا أفنيت عمري في إنارة قبري فحسب؛ سوف يسأله الله تعالى عن الإسلام، وماذا فعل له، وكيف خدمه وخدم دعوته والمسلمين، وكيف جاهد من أجل رفعتهم، وماذا فعل للمستضعفين.. بماذا سوف يجيبه وقتها؟!.

وثَمَّة لفتة شديدة الأهمية في القرآن الكريم في هذا الصدد، تتعلق بالفعل المعاكس لأفعال الحركة، وهو فعل “القعود”، فكلمة “قعد” و”قعود” وردت في القرآن الكريم 18 مرة، وكلها حوت معنىً سلبيًّا، باستثاء مرتَيْن في سُورتَيْ “آل عمران” و”النساء”.

فكلا المرتَيْن ارتبط بالقعود كفعل حركة، صنو فعل القيام خلال العبادة، وذكر الله تعالى في كل حال للإنسان.. فيقول الله عز وجل، في سُورة “آل عمران”: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)}، وفي سُورة “النِّساء”: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا(103)}.

” عندما يكون “القعود” بالمعنى السلبي، كفعلٍ يعني جمود الإنسان عن الحركة والعمل الطيب الصالح؛ فقد كان دائمًا في القرآن العظيم، أمرًا مذمومًا، بل إنه من فعل الشيطان الرجيم”

فالقعود صنو القيام، كفعل حركة أمر محمود في القرآن الكريم، أما عندما يكون “القعود” بالمعنى السلبي، كفعلٍ يعني جمود الإنسان عن الحركة والعمل الطيب الصالح؛ فقد كان دائمًا في القرآن العظيم، أمرًا مذمومًا، بل إنه من فعل الشيطان الرجيم.. يقول تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [سُورة “الأعراف”- الآية 16].

ومن بين هذه المرات الـ18 التي ورد فيها لفظ “القعود” وفعل “قعد” في القرآن الكريم، ستة في سُورة “التَّوْبة”، كلها تذم هذا الفعل بمعناه السلبي؛ الجمود وعدم الحركة في سبيل الله تعالى، وعدم السعي في الحياة الدنيا، وكلها وردت في المنافقين، ومن بينها قوله تعالى؛ حيث ورد ذلك اللفظ مرتَيْن بتركيبتَيْن مختلفتَيْن: {فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ(83)}.

إن هذه الدعوات المريبة للقعود في عصرنا الحديث، وتتلبس رداء الدين بالباطل، إنما تأتي لتثبيط الأمة، وأهم مكوناتها، وهم الشباب، عما هي كلِّفَتْ به من لدن رب العزة سبحانه.

وهم من أعداء الدين، خرجوا بين ظهرانينا بهذه الدعوات، ليحملوننا على القعود عن التقدم والتطور وطلب العلم.

عمر بن عبد العزيز، وهارون الرشيد، وصلاح الدين الأيوبي، وغيرهم من سادة العالم في أزهى عصور دولة الخلافة الإسلامية، كانوا يوزنون أعمال الأدباء والعلماء بالذهب، لذلك ساد المسلمون العالم ذات يوم، ولم يقضِ هؤلاء وقتهم فقط في الدعاء وقراءة القرآن الكريم، ولو فعلوا ذلك لأدخلهم الله تعالى، جهنم لتقصيرهم في حق الأمة.

والمستجيبون إنما يستجيبون لضعف تنشئتهم الدينية والفكرية، فكَبِروا لا يعلمون لماذا خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان.

الدنيا ليست شرًّا بالمطلق.. أبدًا.. فقط هي دار مؤقتة، والذكي هو مَن استغلها بشكل سليم.

لكن العمل فيها يجب أن يكون إيجابيًّا في كل النواحي.. فنحن -أمة التكليف- مطالبون بالعلم، ومطالبون بالعمل والبناء!.

المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B9%D9%88%D8%AF-%D8%A7...

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك