المكوِّن الأخلاقي كأساس لازم للمشروع الإسلامي.. قراءة في سُنن إلهية
أحمد التلاوي
يقول الله عز وجل في سُورة “الأنفال”: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآَنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)”.
تلخص هذه الآيات رسالة إلهية شديدة الأهمية، تتعلق بسعي جماعة المسلمين، على مختلف المستويات، في الحياة الدنيا، وكيفية قيامها بالأدوار التي خلقها الله عز وجل لأجلها. إنها رسالة النصر الإلهي وشروطه، وعلى رأسها الصبر، وكيف أن الله تبارك وتعالى، قطع على نفسه عهدًا بأن يدعم المؤمنين من عباده في سعيهم لنصرة دين الله عز وجل ونشره، وأن يجبر عز وجل النقص الموجود لديهم، في معركتهم المقدسة.
نفس الرسالة والعهد جاءا في سُورة “آل عمران”، ولكن بشكل أكثر تفصيلاً: “بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128)”.
هذه الآيات، وسابقتها، وغيرها الكثير من آيات القرآن الكريم، تشير إلى عدد من الحقائق على رأسها أن النصر من عند الله العزيز الحكيم، وأنه حتى نبيه ورسوله الكريم “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، ليس له من الأمر من شيء؛ أي شيء، وإنما كل الأمور بمقادير الله عز وجل وإرادته، وأنه لا يجري في قدر الله تعالى إلا ما قدر له هو وحده لا شريك له.
هذا المدد الإلهي، وهذا العهد الرباني، له اشتراطات لاستنزال نصره على عباده، وعلى رأسها الصبر والتقوى.
أما الصبر، فهو- لغةً- الحبس والمنع، والجَلَد وحسن الاحتمال، كما في المعجم الوسيط، وفي الاصطلاح الشرعي والأخلاقي، هو حبس النفس عن الجزع، واحتمال المكاره، وحبس النفس عن الشهوات.
أما التقوى، فهي فضيلة وسلوك الإنسان ومدى التزامه تجاه الله عز وجل، وتجاه مخلوقاته، ولذلك يعدها الكثيرون من علماء الأصول والفكر الإسلامي، أنها أهم دعائم الدين والإيمان.
والتقوى لغةً من الوقاية، وفي الاصطلاح الشرعي؛ أن يجعل المسلم بينه وبين عذاب الله تعالى وقاية أو حاجز، وذلك من خلال فعل الواجبات والطاعات، وترك المنكرات والمحرمات، وما بينهما المكروهات، وما في تركها من ورع، من أجل نيل رضا الله عز وجل، وتفادي غضبه وعذابه في الدنيا والآخرة.
ويقول بعض العلماء إن التقوى هي الغاية الرئيسية من تشريع الأحكام، ويستندون إلى عدد من الأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية، ومن بين ذلك قوله تعالى، في سُورة “البقرة”: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)”، أما في السُّنَّة النبوية؛ فيقول “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، في حديث أبي هريرة: “إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق” [صحيح/ أخرجه أحمد].
“هناك حقيقتان مهمتان: الأولى: أن النصر والهزيمة سُنن خلقها عز وجل لحكمة بالغة، والثانية أن هناك شروط بعينها للحصول على المدد الإلهي في معركة الخير والشر، والحق ضد الباطل، وعلى رأسها أن يكون الخير خيرًا والحق حقًّا”
ومن ثَمَّ؛ فنحن أمام حقيقتان لا شكَّ فيهما، الأولى أن كل حال الإنسان هو من عند الله تعالى، وأن النصر والهزيمة سُنن خلقها عز وجل لحكمة بالغة، والثانية أن هناك شروط بعينها للحصول على المدد الإلهي في معركة الخير والشر، والحق ضد الباطل، وعلى رأسها أن يكون الخير خيرًا والحق حقًّا.
ولن يكون ذلك من دون مكارم الأخلاق وعلى رأسها الصبر والتقوى، ومن ثَمَّ فإن المكوِّن الأخلاقي له أهميته في المشروع الإسلامي، ولن ينتصر المشروع الإسلامي من دونه.
فمن دون المُكوِّن الأخلاقي، وإذا ما تساوى طرفا الصراع الحضاري في الأخلاقيات؛ فإن نتيجة هذا الصراع سوف تحتكم إلى الأسباب، وإلى العدد والعدة، ومن ثَمَّ؛ ستكون الغَلَبة للأقوى والأكثر أخذًا بالأسباب.
ومن هنا؛ فإن تخلي المشروع الصحوي أو دعاة المشروع الحضاري الإسلامي عن المكوِّن الأخلاقي، وما دعا الله تعالى في هذا الإطار، يعني رفع الغطاء الإلهي عن أصحاب المشروع، وعدم استحقاقهم لنصر الله عز وجل.
السياسة والمكون الأخلاقي الإسلامي
لم يعُد الداعية في وقتنا الراهن هو ذلك الشخص الذي يلقي خطبًا منبريةً يتناول فيها فقط الأمور المعتادة في حياة المسلم؛ حيث سعت أنظمة الفساد والملك العضوض، التي ابتُليَتْ بها الأمة الإسلامية عبر التاريخ، إلى قصر دور وصورة الداعية على الجوانب الفقهية للأمور المجتمعية والعبادات فقط، على أهميتها في حياة المسلم، مع تجنيب الدعاة للسياسة تمامًا؛ حفاظًا من ذوي السلطان على سلطانهم.
“تحول الداعية في زمننا هذا إلى مجاهد سياسي، بدءًا بالكلمة، وحتى المشاركة في ميادين التغيير والإصلاح”
تحول الداعية في زمننا هذا إلى مجاهد سياسي، بدءًا بالكلمة، وحتى المشاركة في ميادين التغيير والإصلاح.
ولعل في نماذج من دعاتنا الذين استشهدوا في فلسطين، خلال النضال ضد الاحتلال الصهيوني العنصري، أو في مصر وسوريا وغيرها من بلدان الربيع العربي؛ أبلغ دليل على أن الداعية في الإسلام، هو رجل سياسة ونضال من الطراز الأول، وأن دوره ودور المنابر المسجدية، على قيمتها وأهميتها في الإسلام، يتجاوزان الحديث التقليدي المعتاد، إلى آفاق أسمى وأهم.
هذه الآفاق تتعلق بدور الأمة الحضاري، وكيفية استعادتها لمجدها وعزها، ولريادتها الحضارية، ونشر دين الله تعالى في الأرض، هدىً ورحمةً للناس أجمعين، وحقيقة دور المسلم، وتصحيح مدركاته لوجوده وحياته، وما هو مطلوب منه بدقة فيما يتعلق بتمكين شريعة الله تعالى في أرضه، وتحقيق أستاذية العالم بالإسلام، ومجمل الأهداف والغايات التي خُلِقَ لأجلها.
ويمارس الداعية والمسؤول السياسي، السياسة في الإسلام، من خلال ما يُعرف بالسياسة الشرعية، والتي تُعرَّف على أنها الممارسة السياسية والمجتمعية، التي تنطلق من تحكيم الشريعة الإسلامية، بجوانبها الأخلاقية التي أتت للتركيز عليها، سواء في أدوات عملها أو فيما يتعلق بمقاصدها.
أي أن السياسة في الإسلام- أي إدارة شؤون الرعية والدولة في الداخل والخارج- تُعنى بالأساس بالشريعة، عملاً وهدفًا، والأخلاق هي غاية الشريعة الإسلامية وهدفها الأسمى، كما قال رسول الله “صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ”، ومن ثَمَّ؛ فإن المكون الأخلاقي ضرورة لا غنى عنها للسياسي والداعية في دولة الإسلام.
ومبدئيًّا؛ فإن الداعية ورجل السياسة، وهما مرتبطان في الإسلام، يجب عليهما أن يقوما بما يُعرف في مبحث الأخلاق في الفلسفة وعلم النفس، بالاستدلال الأخلاقي، وهو يعني العملية التي يحاول خلالها الإنسان تحديد الفرق بين ما هو صحيح وما هو خطأ في الموقف الشخصي باستخدام المنطق العقلي، والمنطق الحاكم هنا هو الشريعة وتعاليمها.
ومن ثَمَّ؛ فإنه لا يمكن الحديث عن المشروع الحضاري الإسلامي وصيروراته، بعيدًا عن المكوِّن الأخلاقي الذي أتى به الإسلام.
المصدر: http://www.basaer-online.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D9%88%D9%91%D9%90%...