تطور الفصل بين الكنيسة والدولة في الولايات المتحدة الأمريكية لمحة تاريخية

جوستين مييرز

نعثر على التعبير القانوني عن فصل الكنيسة عن الدولة في الولايات المتحدة الأمريكية في بند التعديل الأول على الدستور المعروف تحت مسمى "بند الإقامة": "لا يحق للكونجرس إصدار أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان، أو يمنع حرية ممارسته، أو يحد من حرية التعبير أو الصحافة، أو من حق الناس في الاجتماع السلمي، وفي مطالبة الحكومة بإنصافهم من الإجحاف"(1). ويعود التاريخ الذي قاد إلى إنشاء هذا البند وإلى تبنيه إلى الأساسات الدينية المتعددة للولايات المتحدة. وبالفعل، ترجع جذور الفصل بين الكنيسة والدولة؛ في الولايات المتحدة الأمريكية؛ إلى تلك الفترة من التاريخ الأوربي المدعوة الإصلاح الديني؛ لكنها لم تؤت ثمارها إلا بعد مضي قرنين ونصف على الإصلاح الديني؛ نعني إلا على عهد التنوير. على أن التاريخ الثقافي الأوربي ما كان، بطبيعة الحال -هو العامل الوحيد الذي أدى إلى صياغة التعديل الأول وتوقيعه عام 1789 م. ذلك أن التفاعل بين الكنيسة والدولة- في المستوطنات الثلاث عشرة -لعب من جانبه دورا مهما في تبني هذا البند، إذ إن الهولنديين الذين أقاموا بمنهاتن والإنجليز الذين استوطنوا بإنجلترا الجديدة إنما وفدوا على الولايات المتحدة لدواع متباينة؛ فقد كان قدم إليها الهولنديون؛ عموما لدواع اقتصادية(2)؛ بينما وفد عليها العديد من الإنجليز طلبا للحرية الدينية(3). ومع ذلك، فإن كلا من الهولنديين -الذين عدوا أنفسهم من "الإصلاحيين"- والإنجليز -الذين كانوا يدعون "الطهرانيين"- إنما قدموا معا من تقليد ديني منغرس في لاهوت جون كالفن متجذر فيه. وبغاية فهم تأثير لاهوت كالفن في المستوطنات الأمريكية فإننا نحتاج إلى العودة إلى جذور الكالفينية في الإصلاح الديني. 



كان الإصلاح الديني بأوربا قد بدأ لما سعى مارتن لوثر -وهو القس الكاثوليكي الروماني لمدينة فيتمبورغ بألمانيا- إلى إجراء إصلاح في الكنيسة الكاثوليكية من الداخل؛ إلا أنه انتهى إلى الشروع في القيام بثورة دينية وسياسية اجتاحت كل أوربا. ولقد حمل الإصلاح الديني معه إعادة تقاطع الخطوط داخل الكنيسة وبين الأمم. وإن إحدى النتائج المترتبة عن الإصلاح الديني كانت التعدد الجديد الذي أمسى يمس صلة الكنائس والحكومات المدنية بعضها ببعض. 



ولقد حدث أن انفصلت إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بعد أن رفضت هذه أن تُحِل لهنري الثامن الطلاق من زوجته الكاثوليكية والتزوج من متعاطفة مع الإصلاح الديني المتنامي آنذاك(4). وبإنشائه كنيسة إنجلترا، عمد الملك هنري إلى القطع مع الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تربط إنجلترا إلى حد ذلك الزمان بكنيسة قائمة قياما رسميا. 

وقد عمد مجلس مدينة زوريخ -وكذا رجال الدين- وكانت سويسرا في حينها تحت زعامة هولدريش زوينغلي- إلى العمل سوية بشراكة، وذلك بدلا من أن يكون هناك عاهل حاكم واحد، وما زالا - المجلس ورجال الدين - يفعلان إلى أن صارا السلطة الحاكمة في المدينة وفي الكنيسة(5). 

وأخيرا نعثر في ستراسبورغ (بألمانيا)، وبعد ذلك بسنوات في جنيف (بسويسرا) على ما صار يعدُّ في أوربا القرن 16 الميلادي أول بذور الفصل بين الكنيسة والدولة والذي كان أشبه ما يكون بشكل الانفصال بين الكنيسة والدولة الذي نعثر عليه اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية. وقد تصور ماتن بوسر -بستراسبورغ- نظاما رباعي الأقطاب لحكم الكنيسة كان قد تكون من قساوسة (رجال الكنيسة) وأساتذة (مدرسين) وشيوخ وشماسين. فكان أن أمست الكنيسة تدار من لدن لجنة بدلا من أن تدار من لدن السلطات المدنية أو الأسقف. وهكذا، كان على المصلح الكبير جون كالفن أن ينقل هذا النموذج إلى جنيف بسويسرا، والذي يبدو أنه ما فتئ أن تكرس فيها وتجذر ونما وازدهر(6). 

وفي عام 1541 عمد كالفن إلى إجراء سلسلة تعيينات للكهنة وترسيمات كنسية عديدة وافقت عليها الحكومة المدنية، وكان من شأنها أن وضعت حكم الكنيسة بين يدي مجمع ديني كان مكونا من رجال الكنيسة ومن اثني عشر فردا من الشيوخ من غير رجال الدين(7). وقد عثرنا ههنا أخيرا على الموطن الذي تم فيه الفصل بين الكنيسة والدولة، وذلك على الرغم من أنهما حافظتا على علاقات عمل متينة واثرت إحداهما في الأخرى على الرغم من أن "الكنيسة حافظت على استقلالها عن السلطة الزمنية"(8). ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن مجلس المدينة صادق على المجمع الأول، إلا أن هذا الأخير انتهى إلى أن استحال هيئة مؤسسة لنفسها ومديمة لدورها. 

ولقد أدرك جون كالفن بوضوح أن ثمة مملكتين منفصلتين بعضهما عن بعض؛ إلا أنهما تشكلان سلطتين شرعيتين متوازيتين. أَوَ ليس كلاهما من إنشاء الرب؟ والدليل على ذلك -بحسب ما حاج به كالفن- أنه يمكن أن يوجد في النص التوراتي (رسالة إلى أهل رومية 13. 1-7): 

"13: 1 لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة؛ لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله.

13: 2 حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة.

13: 3 فإن الحكام ليسوا خوفا للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد ألا تخاف السلطان، افعل الصلاح فيكون لك مدح منه.

13: 4 لأنه خادم الله للصلاح؛ ولكن إن فعلت الشر فخف؛ لأنه لا يحمل السيف عبثا؛ إذ هو خادم الله منتقم للغضب من الذي يفعل الشر. 

13: 5 لذلك يلزم أن يخضع له ليس بسبب الغضب فقط بل أيضا بسبب الضمير.

13: 6 فإنكم لأجل هذا توفون الجزية أيضا إذ هم خدام الله مواظبون على ذلك بعينه.

13: 7 فأعطوا الجميع حقوقهم الجزية لمن له الجزية، الجباية لمن له الجباية، والخوف لمن له الخوف، والإكرام لمن له الإكرام". 

وهكذا، فإن لكل ضرب من الحكومة -الروحية والسياسية- دوره الخاص ورسالته المخصوصة. وقد سمى كالفن ذينك القضائين القضاء "الروحي" والقضاء "الزمني"(9). الأول شأنه العناية بأمور الروح، والآخر أمره الاهتمام بالعلاقات الاجتماعية والسياسية. وهذا الأخير يأخذ بعين الاعتبار القوانين التي يحتاج إليها للعيش بين بني البشر عيشا كاملا شريفا؛ بينما شأن القضاء الروحي أن يأخذ بعين النظر تلك الأمور الضرورية للحياة برفقة الرب رفقة أبدية. أما القضاء الروحي فداخلي، وأما القضاء الزمني فخارجي. وعلى الرغم من أنهما يرتبطان بعضهما ببعض ويؤثران يعضهما في بعض، إلا أنهما في النهاية أمران منفصلان، بالرغم من أنهما ينبعان معا من الرب. 

لقد كان لجون كالفن تصور واضح عن حفظ الكنيسة والدولة منفصلتين؛ ففي نظام إدارة الدولة للكنيسة عثر على أمرين قد يحولان هذه الإدارة إلى إدارة فاسدة. وهكذا، فإنه، كما أورد ذلك في كتابه "مبادئ الدين [الإيمان] المسيحي": "من جهة أولى يسعى الحمقى والأجلاف من بني البشر إلى قلب النظام الذي أقامه الرب إقامة ربانية؛ بينما -من جهة أخرى- لا يتردد المتملقون إلى الأمراء -إذ يمدحون سلطتهم مدحا غير معتدل- أن ينصبوا أنفسهم ضد حكم الرب نفسه. وما لم يتم التحكم في هذين الشرين، فإن الإيمان الخالص سوف يندثر"(10). أحد الشرين يكمن في أن يستعمل زعماءُ كنيسةٍ قويةٍ الدينَ بغاية خدمة أغراضهم الخاصة، ويكمن الآخر في الموظفين العموميين الذين يستعملون سلطتهم المدنية لكي يأتوا أمورا تسير ضد إرادة الرب الربانية. ويكمن التحكم في هذين الشرين بأن تقوم ثمة سلطة مدنية وسلطة دينية، كل واحدة تحقق التوازن مع الأخرى، وتحد من طغيانها. والحق أن ما أنجزه كالفن ما كان فصلا تاما بين الكنيسة والدولة؛ وإنما مهد السبيل نحو إنشاء بنيات مدنية ودينية تعمل يدا في يد من أجل مصلحة الشعب العامة. 

انتهت بنيات كالفن ولاهوته إلى الانتشار بدءا من جنيف لكي تعم أماكن أخرى شأن هولندا وإنجلترا(11). وقد حافظ المصلحون الهولنديون على تطبيق معتدل للاهوت كالفن؛ ففي هولندا أمست الكنيسة الإصلاحية الكنيسة القومية التي ينتمي إليها أغلب المواطنين. وعلى الرغم من أن الحكومة كانت تعين الشعائر التي ينبغي القيام بها والمذاهب التي يلزم الإيمان بها؛ فإن الكنيسة ظلت تتمتع ببعض الاستقلالية(12). وقد وازنت الحكومة الهولندية هذا الأمر بأن رفضت أن يكون لأي معتقد أوحد الاحتكار. ولهذه الغاية، سمحت الحكومة الهولندية للمواطنين بألا ينتموا إلى الكنيسة ما داموا "لم يحدثوا اضطرابا"(13).

وفي إنجلترا، كان الكالفينيون شديدي الحمية، فأرادوا الدفع بالإصلاح الديني قدما؛ لكن سرعان ما تم اتهامهم بالمروق وتسميتهم باسم "الطهرانيين". وبينما كان هذا النعت يحمل في البداية دلالة قدحية، انقلب أخيرا يحمل دلالة مدحية(14). فهؤلاء الطهرانيون هم الذين فروا من إنجلترا، وانتهوا إلى إقامة ما صار يعرف بالجزء الشرقي الغربي من الولايات المتحدة. وبما أنه تمت معاملتهم معاملة سيئة من لدن مركب الكنيسة/الدولة بإنجلترا، فإنهم صاروا شديدي العناية والحرص على الإبقاء على الاثنين منفصلين في "إنجلترا الجديدة" التي أنشؤوها. 

وكان أن أخذوا هذا الفصل مأخذ الجد. وقد أشار ستيفن كارتر من مدرسة يال للقانون إلى ذلك بالقول:

"من المؤكد أن الطهرانيين أدركوا المشكلة إدراكا تاما؛ ولهذا السبب تراهم تزوجوا بمبعد عن القساوسة. ففي إنجلترا الجديدة البروتستانتية ناهضوا القانون الذي يقضي بأن يعمد عضو من رجال الكنيسة إلى المباركة الرسمية للزواج؛ إذ كان المطلوب أن يشرف قاضي الصلح -وهو فرد لا وظائف كنسية له- على إجراء مراسيم الزواج. وبهذا النحو، "فصل" الطهرانيون الكنيسة عن الدولة"(15). 

والحق أن دافعهم الذي حضهم على فعل ذلك كان الرغبة في الإبقاء على الكنيسة نقية ومتحررة من أي واجبات مدنية يمكنها أن تتدخل في حرياتها وأن تمسها. وعلى الرغم من أن هذا الأمر كان توسيعا قصيا لفكر كالفن، فإنه كان أحد التأثيرات التي تم الاحتفاظ بها لتظهر في التعديل الأول من الدستور الذي يحظر إقامة أي دين على أنه الدين الرسمي.

وعلى الرغم من أن السلطتين الروحية والدنيوية كانتا منفصلتين، فإنهما كانتا تشتغلان جنبا إلى جنب، وكانتا تؤثران بعضهما في بعض. وفي ذلك الحين كان الفرق بينهما يبدو ضئيلا. وقد اتُهمت حكومة الطهرانيين المدنية -التي قامت بماساشوسيتس وبعد ذلك بكونيتيكت- بحمل الكنائس على الاستناد إلى أساس "عقيدة إيمان" واحدة معينة. وبينما كانت الأبرشيات الفردية تحكم نفسها بنفسها، فإن الحكومة المدنية كانت تقوم بدور الحارس(16). ههنا ما كانت الدولة لتضطهد الكنيسة؛ وإنما كانت على الضد من ذلك تحميها. وبعد ذلك، لما نمت مستوطنة ماساشوسيتس وشرع مواطنون من غير الطهرانيين يقيمون بها ويكتسبون النفوذ داخل الحكومة، حتى إنهم أقاموا كنيسة أنجليكانية ببوسطن، ما فتئ أن تكتل لوبي تجمع الطهرانيين للضغط على الحكومة بألا تتدخل في شؤون كنائسهم(17). وفي الوقت نفسه كانت الحكومة المدنية هي التي تدخلت وأوقفت محاكمات الشعوذات التي كانت تديرها الكنيسة(18). وقد أبان هذا الأمر عن حدوث انفصال بين الكنيسة والدولة؛ لكنه أظهر أيضا بأن الحدود بينهما عادة ما كانت ضبابية غائمة. 

ولما قدم روجر وليامس -الذي كان في البداية مدير دير كالفيني(19)- إلى ماساشوسيتس، وجد أن الكنيسة قد منحت سلطة كبيرة إلى الحكومة فيما يتعلق بإدارة أمورها الخاصة، وقد حمل في نفسه -شأنه في ذلك شأن جون كالفن- الاعتقاد الذي يذهب إلى أن على السلطات المدنية أن تُخوَّل السلطة فيما يتعلق بالمسائل الخاصة بتنظيم المجتمع؛ بينما على الكنيسة أن تقوي الأوامر التي لها صلة بعلاقات الشخص بالرب. فكان أن أُجلي عن ماساشوسيتس، وأسس مستوطنة ببروفيدنس [مدينة] (ولاية رود آيلاند)، وقد أقام مستوطنته على أساس مبدأ الحرية. وإنه أقام بهذا الأمر لشعور منه بأنه لكي تكون العبادة خالصة ينبغي ألا تتم تحت الإكراه(20). 

وكان الهولنديون الذين استوطنوا منهاتن -على غرار الطهرانيين- كالفينيين، حتى وإن كانوا غير صارمين في عقيدتهم اللاهوتية الكالفينية، على خلاف ما كان عليه الطهرانيون. وبالنسبة إلى الهولنديين كانت الكنيسة هي الكنيسة والدولة هي الدولة، حتى وإن كان الاثنان يشتغلان جنبا إلى جنب. ففي هولندا، كانت الكنيسة الإصلاحية هي الكنيسة القومية؛ بمعنى أنها كانت "الكنيسة العمومية" و"صاحبة الامتياز"، وكان هذا يعني أنه كان بإمكانها أن تكون لها ممتلكات، وأن كل الناس تم تشجيعهم على الانتماء إليها، حتى وإن كانت كيانا منفصلا عن الدولة، وتم التسامح مع كنائس أخرى(21). وعلى الرغم من ذلك، فإنه -في النهاية- كانت الكنيسة تتخذ قراراتها الخاصة بنفسها عندما يتعلق الأمر بحياة الكنيسة، وكانت تطالب بأن تدع الدولة الأمور الدينية إليها، كما أن الكنيسة قد تنازلت عن الشؤون المدنية للحكومة(22). والحال أن هذا الأمر كان حسنا بالنسبة إلى الكنيسة؛ لأنه صار بمكنتها أن تشرع قواعدها الخاصة، إلا أنه كان أيضا لصالح الدولة، بما أنها قامت بصفقات تجارة مربحة؛ إذ بقدر ما يزداد سكان مستوطنة، تتنامى فرص التجارة. 

والحق أن هذه الصلة بين الكنيسة والدولة سمحت بتنوع كبير سواء بالنسبة إلى الإثنية القومية أو الدين في مستوطنة أمستردام الجديدة التي صارت فيما بعد يورك الجديدة (نيويورك). وهذا الفصل -فضلا عن حرية الاختيار- صار ذا قيمة وأهمية في إنشاء الولايات المتحدة الأمريكية التي كان عليها أن تولد عن الثورة التي بدأت مع إعلان الاستقلال في الرابع من يونيو عام 1776.

وقبل إعلان الاستقلال، كان قد تم التوقيع على عريضة فلاشين الاحتجاجية [وجه عدد من مواطني هولندا الجديدة عام 1657 عريضة احتجاجية إلى الحاكم العام مطالبين إياه بإلغاء مرسومه الذي يحظر طائفة الكويكرز (حرفيا: المرتجفون، وهم جمعية الأصدقاء الدينية أو الصاحبيون) وإقامتها لشعائرها التعبدية] واعتبارها إحدى أوائل الإعلانات الرسمية التي تعلقت بالتسامح الديني في الولايات المتحدة الأمريكية. وبينما لا توجد حجة مباشرة للتدليل على أن عريضة فلاشين الاحتجاجية أثرت تأثيرا مباشرا في التعديل الأول، الذي نص نصا رسميا على أنه "ليس يحق للكونجرس إصدار أي قانون خاص بإقامة دين من الأديان، أو يمنع حرية ممارسته"(23)، فإن ثمة تشابهات قوية بين عريضة احتجاجات فلاشين والتعديل الأول. ذلك أن عريضة فلاشين الاحتجاجية إنما دونت بغاية الاحتجاج على اضطهاد الحاكم الهولندي لطائفة الكويكرز الإنجليزية. وهو ينص على أنه: 

"فيما يخص بعض أنواع الغيرة والريبة التي تعتصر قلوب البعض منهم، والتي هي مدمرة لشؤون القضاء ورعاية الكنيسة معا، بحيث إنه لا يمكن للقاضي أن يقف وسيفه مستل، لا ولا للراعي أن يرعى وسيفه بين يديه، فإن لنا في ذلك شهادة مثالين كبيرين يمكن للقاضي وللراعي أن يتخذ منهما قدوة صالحة - هما موسى وعيسى - الذين بعث بهما الرب وحماهما من كل الأعداء، سواء أكانوا أعداء الجسد أم أعداء الروح. ومن ثمة، فإن ما للرب سيمكث، أما ما للإنسان فسوف يذهب جفاء. وكما أن الرب بصَّر موسى أو السلطة المدنية بأن يعطي للدولة حق التحكم في أمر الحرية الخارجية، وذلك بالناموس المرقوم في قلبه لصالح جميع الناس، فإن هذا الناموس يمكِّنه تمكينا حقا من أن يحكم على كل شخص سواء أكان طيبا أم خبيثا، أكان خيرا أم شريرا، أكان مبطلا أم مصيبا، كما يمكنه أن يصدر الحكم النهائي بالحياة أو الموت على هذا الشخص الذي يعترض على القانون الأساسي للولايات، بحيث جعل الرب من رعاته على الأرض طعم حياة يهب بهم الحياة وطعم موت يهب بهم الموت. 

إن ناموس المحبة والسلام والحرية في هذه الولايات، الذي يمتد لكي يشمل اليهود والأتراك والمصريين بما أنهم يعتبرون عيال آدم، إنما هو ما يشكل مجد دولة هولندا الخارجية. ولهذا السبب، فإن ناموس المحبة والسلام والحرية -الذي يمتد إلى كل من اجتمع على الإيمان بيسوع- إنما هو ناموس يدين الكراهية والحرب والعبودية. ولأن مخلصنا قال [لتلامذته]: لا يمكن أن تأتي العثرات، ولكن ويل للذي تأتي بواسطته، فإن إرادتنا ليست تكمن في إهانة أحد المستضعفين من عيال المسيح، مهما بدا شكله أو اسمه أو لقبه، سواء أكان من البرسبتيريين أم من المستقلين أم من المعمديين أم من الكويكر، وإنما يلزم أن يكون المرء فرحا أن يرى شيئا من الرب في كل واحد من هؤلاء، راغبين في أن نفعل بكل الناس ما بودهم أن يفعلوه بنا - هذا هو ناموس الكنيسة والدولة معا الحق؛ وذلك لأن مخلصنا قال بأن هذا هو الناموس، وهؤلاء هم الأنبياء"(24). 

يشير المحتج على أفعال الحاكم الهولندي إلى أن الهولنديين -بوسمهم أمة مسيحية- قد وسعوا من مدى حرية الاعتقاد والدين حتى لا تشمل فحسب كل المسيحيين؛ وإنما أيضا اليهود والمسلمين. والحال أن هذه الحرية هي التي سمحت ليس فحسب للكنيسة بأن تنفصل عن الدولة؛ وإنما أيضا للأديان الأخرى كي تجد مكانا لها في المجتمع. والحق أن تحقيق الانفصال بين الكنيسة والدولة إنما فتح المجال أمام الحرية الدينية لكي تتحقق بأمستردام الجديدة، ثم بعد ذلك بمستوطنة يورك الجديدة (نيويورك)، كما أن عريضة فلاشين الاحتجاجية أشارت كذلك إلى أن المسيحيين واليهود والمسلمين عيال آدم أجمعين.

تدعي هذه العريضة أنه يمكن النظر إلى الفصل بين الكنيسة والدولة من خلال دور موسى الذي تمثل في منح القانون المدني الرباني، ودور يسوع الذي قدم قوانين الحياة الروحية، هذان الدوران اللذان كانوا ينظرون إليهما على أنهما أول وظائف الدين. وفي هذا صدى للفصل الكالفيني بين الكنيسة والدولة الذي يرى أن الكنيسة والدولة معا مؤسستان أقامهما الرب، وأنهما كانتا منذورتين لكي يفصلا بين السلطتين في العالم بحيث تكون لكل واحدة منهما وظيفتها المخصوصة.

وفيما يتعلق بالفترة المبكرة من القرن السابع عشر، لما أقام الطهرانيون بإنجلترا الجديدة والهولنديون بأمستردام الجديدة، وأواخر القرن الثامن عشر الميلادي، لما تم تبني التعديل الأول من شرعة الحقوق، فإن المستوطنات الثلاث عشرة التي سوف تصير هي الولايات المتحدة فيما بعد انطلقت تغدو في طريق تعدد الديانات بقدر ما كان المنتمون إلى الجماعات الدينية القديمة والجديدة يهاجرون إلى هذه المستوطنات. لقد أمسى الدين طوال هذه الحقبة شأنا اختياريا، وكانت ثمة فرق وطوائف من المسيحية عدة يمكن أن يتم الاختيار من بينها. 

وبما أنه كان ثمة تعدد شديد بين الديانات وتعدد كبير بخاصة بين المسيحيين؛ فإن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة راموا معالجة الدين بوسمه شأنا خاصا. ولهذا الغرض، لا توجد ثمة أية إشارة في الدستور إلى الرب أو إلى المسيحية. ولقد كان مقصد الآباء الحفاظ على الحكومة بمناى عن شؤون الكنيسة، واحترام حق مواطنيهم في الاختيار الحر، وترك معتقداتهم الدينية خارج شؤون الدولة(25).

ها نحن أولاء قد استوفينا الحديث عن تأثير الكالفينية على الفصل بين الكنيسة والدولة، فلنعد الآن إلى إثارة سبب آخر مهد لهذا الفصل هو تاريخ الحروب البروتستانتية الكاثوليكية في عهد ما بعد الإصلاح الديني بأوربا. فبينما كان الثلثان من الموقعين على الدستور كالفينيين رسميا، فإن العديد منهم كانوا يتبنون تصورات المذهب الإلهيDeism عن الرب وعن الدين(26) وقد نبعت هذه التصورات عن حركة التنوير التي كانت قد بدأت بعد حروب دينية دموية. 

إن وثيقة معاهدة أوغسبورغ -التي تم التوقيع عليها عام 1555 بين الإمبراطور هابسبورغ الكاثوليكي شارل الخامس وتحالف الأمراء اللوثريين، المسمى رابطة شمالكديك- إنما كانت أول معاهدة سعت إلى إنشاء تعايش سلمي بين البروتستانتيين والكاثوليكيين بألمانيا. وحسب ما تنص عليه معاهدة سلام أوغسبورغ؛ فإنه كان على الحكام المحليين أن يقرروا ما إذا كان القضاء الذي يودون الاحتكام إليه كاثوليكيا أم بروتستانتيا. وبالنسبة إلى البعض، كان الأمر يتطلب الانتقال إلى إقليم يناسب اعتقاداتهم. 

وفي عام 1618 كانت حرب الثلاثين سنة قد اندلعت، وقد تمت على الجبهتين الدينية والسياسية. وعند نهاية حرب الثلاثين سنة كانت قد صارت أغلب أقطار أوربا متورطة، وبهذا تم اعتبار هذه الحرب إحدى أكثر الحقب دموية في تاريخ أوربا. 

انتهت حرب الثلاثين سنة بسلام وستفاليا، وقد حمت هذه المعاهدة حرية الدين بالنسبة إلى الحكام المحليين وإلى رعاياهم، وعنى ذلك أنهم سوف يمسون أحرارا في اتباع إحدى هذه الطوائف الدينية الثلاث الكبرى في المسيحية: الكاثوليكية والآرثوذكسية. وبالرغم من أن معاهدة سلام وستفاليا لم تُقم الحرية التامة بالنسبة إلى أتباع كل الأديان، فإنها شكلت بدايات تسامح ديني واسع، تسامح لربما ما كانت توجهه المثل المسيحية الغيرية الإيثارية، قدر ما كانت تمليه حاجة عملية نفعية (برجماتية) إلى السلام. 

وقد كتب المؤرخ المسيحي يوستو غونزاليس يقول: 

"ما كانت مبادئ تسامح وستفاليا قد تولدت عن فهم عميق للمحبة المسيحية، بقدر ما نشأت عن تنام متزايد لعدم الاهتمام بالشؤون الدينية؛ ولقد أظهرت الحرب على نحو واسع الفظاعات التي ترتبت عن محاولة إقامة الشؤون الدينية بقوة الأسلحة"(27). 

شيء علّمته حرب الثلاثين سنة المجتمع الغربي، وهو أنه عندما تتدخل الدولة في النقاشات الدينية عادة ما تكون المحصلة حسنة على السلطتين معا. ولقد كان من نتائج حرب الثلاثين سنة أن كسبت القوى الخارجية أراضي كانت تنتمي من ذي قبل إلى ألمانيا، كما لم تعد البنيات الحكومية تعمل بالطرق نفسها التي كانت تعمل بها فيما تقدم. 

وفي الوقت نفسه الذي حدثت فيه حرب الثلاثين سنة بقارة أوربا حدثت بالموازاة معها تغييرات كذلك في إنجلترا؛ ذلك أن جيمس الأول -الذي كان معروفا في أسكتلندا بوصفه جيمس الرابع- وحدَّ بين إنجلترا وإسكتلندا لما تولى العرش بعد إليزابيث الأولى. وعلى الرغم من أنه كان في البدء تابعاً ورعاً للكنيسة البروتستانتية، فإنه وجد في نفسه ونقم على رؤية الكنيسة الأسكتلندية القائلة بأن للكنيسة الحق الإلهي في أن تملي عليه ما يفعله(28). ولهذه الحيثية، فإنه ما إن تولى عرش إنجلترا حتى سعى إلى أن يستغل تراتبية الكنيسة في زيادة نفوذ سلطته الشخصية. هذا ويؤثر عن الملك جيمس أنه قال: "من غير أساقفة، ما من وجود لملك"(29). ولقد حدث أن انتهى هذا الأمر إلى أن قاد إلى حرب أهلية وإلى اضطرابات مدنية مديدة طويلة، وقد استمرت هذه القلاقل حتى بعد عودة الملك تشارلز الثاني إلى عرش والده وإعادة ترسيم كنيسة إنجلترا(30). وعلى الرغم من إعادة إقامة كنيسة إنجلترا إقامة رسمية، فإن العديد من الطوائف والفرق الدينية بقيت قائمة بإنجلترا. 

وخلال القرن والنصف اللذين تليا حرب الثلاثين سنة (والتي كانت قد وضعت أوزارها عام 1664) طفق سكان المستوطنات الأمريكية الثلاث عشرة يدركون أن من شأن تنصيب أية كنيسة تنصيبا رسميا ألا يعود بالخير على المستوطنات. ففي كتابه عن توماس جيفرسون، كتب جون مياشام يقول: 

"كان جيفرسون فيما كتبه من مذكرات دوّنها عن ولاية فرجينيا - وهي كتاب كتبه بعد مضي سنوات على عمله في مراجعة القوانين في الجمعية العامة - نزيها في تدبيج تقرير كارثي عن الولاية التي ينتمي إليها فيما يخص حرية الاعتقاد؛ لقد كان يعد جريمة في فرجينيا ألا يتم تعميد الأطفال في الكنيسة الأنجليكانية، وكان يتم عدم قبول المنشقين في الوظائف سواء أكانت مدنية أم عسكرية، وكان يمكن أخذ الأبناء من آبائهم إذا ما فشل هؤلاء في تلقين أبنائهم العقائد المقررة"(31). 

وبغاية حماية الحكومة وحماية كل أولئك الذين يحيون داخل حدودها، احتاج الأمر إلى إحداث فصل بين الكنيسة والدولة. وقد عمل جيفرسون على إحداث تشريعات بولاية فرجينيا تضمن الحرية الدينية للمسيحيين غير الأنجليكان، ولليهود والمسلمين والهندوس، ولكل من كان يعيش بفرجينيا من غير هؤلاء(32). 

هذا ولقد كان جيفرسون أحد الوجوه البارزة من أوجه الآباء المؤسسين للولايات المتحدة. وإن التعديل الأول الذي يحظر إقامة أي دين إقامة رسمية وتحويله إلى دين للدولة إنما كان الثمرة المباشرة لقانون فرجينيا في شأن الحرية الدينية على النحو الذي خط صورته الأولى جيفرسون. وكان بعد ذلك أن عمد إلى سك عبارة "جدار الفصل بين الكنيسة والدولة" في تعليقه على التعديل الأول. وعلى الرغم من أن جيفرسون كان بشأن وصف التأثير الذي أحدثه التعديل الأول على الحكومة الفيدرالية، أكثر مما أحدثه على حكومات الولايات، فإنه حوالي عام 1833 م كانت كل الدول التي أقامت ديانة معينة بشكل رسمي قد عادت فتبنت ما نص عليه التعديل الأول، منهية بذلك المنزلة التي كانت الكنائس المنصبة رسميا تتبوؤها عندها(33). 

ومن الأهمية بمكان الإشارة كذلك إلى أن توماس جيفرسون كان قد تأثر بجون لوك(34)، والذي كان فكره من مهد إلى المدرسة الفلسفية المسماة باسم المذهب الإلهي. وقد نبعت هذه النزعة عن الرغبة في تجاوز النزاعات التي أحدثها الانتماء الصارم إلى كل نزعة أرثوذكسية، كما كان المقصد منها في الوقت ذاته تأكيد وجود الألوهة(35). لقد آمنت هذه النزعة بأن للعقل السلطة النهائية في أمور الدين واللاهوت. وبالنسبة إلى دعاتها، فإن: "الرب هو الكائن الخير، إن لم يكن الكائن المتعالي البعيد، هو الخالق الذي إنما كان وحيه وتجليه قد تم في الطبيعة وفي العقل البشري. ويعتقد أغلب دعاة هذه النزعة بتطبيق العقل على الطبيعة، وأن الرب إنما برأ العالم بغاية تحقيق سعادة البشر، وأن واجبنا الديني الأكبر يكمن في اتباع هذه الغاية عن طريق الممارسة الخلقية"(36). 

وكما تمت الإشارة إلى ذلك فيما قبل؛ فإنه بينما كان أكثر من نصف الآباء المؤسسين للولايات المتحدة ينتمون إلى الطائفة الأنجليكانية، كان العديد من هؤلاء الأنجليكان أيضا من أصحاب النزعة الإلهية أو من المنتمين إلى مذهب "اللاهوت الطبيعي". والحجة على ذلك موجودة في تضاعيف الدستور. إذ ما وردت قط أية إشارة إلى إله المسيحيين في الدستور؛ اللهم باستثناء الإشارة إلى "الخالق" و"السيد الأعلى للعالم وحاكمه" وتسجيل التاريخ على أنه "يوم ربنا". وفضلا عن هذا، فإن الختم الأكبر للولايات المتحدة لا يحمل أية رموز مسيحية. وعبارة "بالله نثق" لم تسك على عملة الولايات المتحدة اللهم إلا عام 1864 ثلاث سنوات بعد الحرب الأهلية(37). 

وبالنظر إلى تأثير النزعة الإلهية، فإنه من اليسير فهم أن واضعي الدستور وشرعة الحقوق كانوا قد نظروا إلى فصل الكنيسة عن الدولة باعتباره خيرا بينا؛ ذلك أن جوهر العقل البشري ينبغي أن يكون إنشاء حكومة يقوم فيها العقلاء بسن القوانين ليس على أساس من الوحي الإلهي؛ وإنما على أساس الحكمة البشرية والاستدلال العقلي. فلئن كان الأمر للكنيسة، ما إن تنصب تنصيبا رسميا؛ فإنه لا يكون العقل البشري هو السلطة؛ وإنما يكون الوحي الإلهي الخاص الذي تؤمن به الكنيسة أو الدين هو الحاكم المراقب. ومن غير أن ينكر وجود الله، يعمد المذهب الإلهي إلى وضع مسؤولية الحكم بين يدي الكائنات البشرية. ولقد كان هذا يعني -في زمن الآباء المؤسسين- أن السلطة إنما كانت مرتكزة -على الأغلب- بين يدي الطبقة المتعلمة والموسرة. 

وفضلا عن هذا، فإن المذهب الإلهي إذ ركز على العقل؛ فإنه ترك مكانا للرب كذلك، وعلى الرغم من أن الآباء المؤسسين فصلوا الكنيسة عن الدولة، فإن هذا الأمر ما كان ليعني أنه بالنسبة إليهم الإيمان والدين أمران غير هامين أو أنهما منذوران لكي يتم فصلهما فصلا عن الحياة العامة. وإنما الأمر كان -بالبدل من ذلك- أن أدرك الآباء أن الإيمان والدين مهمان للناس، وأنهما لمن الأهمية بمكان بحيث تسببا في الكثير من النزاعات والحروب التي قسمت الأمم والشعوب. وفي الأمة الجديدة، وفي الدولة الحديدة، التي تكوّن فيها هؤلاء الآباء وتشكلوا، فإنهم أرادوا أن يتعلموا من التاريخ، وأن ينشئوا مكانا يمكن للناس فيه أن يعبدوا الرب بحرية وأن يكون للإيمان تأثير في الشؤون المدنية. ولهذا السبب، فإنه بالبدل من تأسيسهم "ديانة خاصة"؛ شكلوا ما سماه بنيامين فرانكلين "الديانة العمومية"(38). وشأن "الديانة العمومية" -أو بوفق الاصطلاحات الحديثة "الديانة المدنية"- أنها تتحدث عن الرب؛ لكن بطرق عامة [تختلف عن طريقة حديث ديانة بعينها].

وفيما يتعلق بأمر الآباء المؤسسي وبشأن "الديانة العمومية"، كتب جون مياشام -في كتابه "الإنجيل الأمريكي"- يقول: 

"كلا، ما كان إله الديانة العمومية مفهوما الفهم الصحيح بإله إبراهيم أو بالإله الأب للأقانيم الثلاثة. لقد كان للآباء المؤسسين متسع لاستعمال المخيال المسيحي واللغوي، في إعلان الاستقلال والدستور، لكنهم ما فعلوا ذلك. وفي الوقت نفسه ما كانوا بدنيويين خلص. ولقد أرادوا [أن يحضر] الرب في الحياة العمومية الأمريكية، لكن وباعتبار ذاكرة الحروب الدينية التي يمكن أن تغرق وأن تدمر كل الحكومات، فإنهم وجدوا الحكمة في التمييز بين الديانة الخصوصية والديانة العمومية. ففي الكنائس كما في البيوتات، يمكن لأي امرئ أن يؤمن وأن يمارس ما شاءه. على أنه في المعاملات العمومية للأمة، كان من المهم عند المؤسسين الحديث عن الرب حديث توحيد وليس حديث تفرقة"(39). 

تأدى الأمر بنا إلى الحديث عما وصلت إليه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم. وهي دولة قومية حيث الدين والكنيسة مهمان، ولكن أيضا حيث استقلال الدولة عن المراقبة الدينية. ثمة حاليا العديد من النزاعات التي يتداخل فيها الدين بالسياسة، لا سيما في مجالات الرعاية الصحية والزواج والهجرة واستعمال الملكية. ولا يزال الحديث عن دور الرب في الحياة العمومية يشكل خطابا نشيطا سواء في المجال المدني أو في المجال الديني؛ لكن فيما وراء كل النزاعات ثمة سيادة المبدأ القائل بأن لا دين ولا كنيسة يمكن أن تتحكم في الدولة، وأن الدولة من جهتها ليس يمكنها أن تملي على الكنائس كيف تدير شؤونها بنفسها، ولا أن تجبر الناس على الانتماء إلى كنيسة رسمية أو إلى أية مؤسسة دينية مقامة. 

لقد أمل الآباء المؤسسون في ألا يؤدي الدين إلى تقسيم وحدة أمتهم الجديدة التي صمدت أمام عوادي الزمن في القرنين الأخيرين. حدثت حرب أهلية؛ ولكنها دارت على العبودية وليس على إقامة دين رسمي خاص أو كنيسة. 

وعبر القرنيين الماضيين والسبعة والثلاثين سنة الأخيرة، أمست الولايات المتحدة الأمريكية أكثر تعددية في فكرها وفي ممارستها الدينيين. وبينما طالبت بعض الكنائس والجماعات الدينية الحكومة بأن تعلن إعلانا رسميا عن أن الولايات المتحدة "أمة مسيحية"، فإنه لم يفلح رئيس من الرؤساء أفلح في ذلك(40). وبالبدل من هذا، انغرس مفهوم "الديانة العمومية" بقوة في قلوب الأمريكيين وفي عقولهم. وقد قال مياشام قولا فصيحا بهذا الشأن: 

"يتعلق الأمر بالأحرى بعادة عقل وقلب سمحت للأمريكيين بأن يكونوا سمحاء ومقدِّرين في الوقت نفسه، وهما فضيلتان صالحتان للجميع، وعند ديانة الآباء العمومية أمر ديمقراطي تماما. عندما يقول رئيس: "فليبارك الرب في أمريكا" أو عندما ننشد: "أمريكا! أمريكا! فليسبل الرب عليك لطفه ويسبغ بنعمته"، فإن كل أمريكي يكون حرا في تحديد الرب بالطريقة التي يختار. وهكذا، فإنه في ذهن المسيحي يحضر الرب الأب، وفي ذهن اليهودي يهوه، وفي ذهن المسلم الله، ولا أحد أو لا شيء يحضر في ذهن الملحد. والحال أن هذا التعدد ليس منذرا بالشقاق؛ إنما هو جزء من حقيقة الخَلق"(41). 

ولسوف تحتاج الولايات المتحدة الأمريكية والكنائس والأديان الحاضرة داخل حدودها؛ في ما سيأتي من الزمان -إلى أن تعيد تقييم دوري الإيمان والسياسة- والإيمان والحكومة باستمرار. وبما أن الكنائس والطوائف المسيحية تجد نفسها في إطار تنامي التعدد العرقي والإثني والديني الذي صار جزءا من الخليقة ومن الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها سوف تحتاج إلى إيجاد سبل لكي تحيا إيمانها، وفي الوقت نفسه لكي تعيش تحت ظل حكومة عينت لكي تكون حكومة لكل الناس الذين هم مواطنون، وليس للمسيحيين فحسب. بالنسبة إلى بعض الأمريكيين، يبدو هذا الأمر شيئا مشعرا بالتهديد ومقلقا؛ إذ يشعرون بفقد السلطة والتأثير؛ لكنه في الوقت نفسه يمكن أن يؤدي إلى إعادة تقويم الفصل بين الكنيسة والدولة، وذلك بما أن "الكنائس" صارت اليوم تحتوي على مزيد من الجماعات الدينية التي تتعايش فيما بينها بالولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك -في النهاية- لن يختفي الشغف الأمريكي بالدين، وسوف يبقى الإيمان جزءا حيويا من نسيج أمريكا، ولسوف تحتاج الكنيسة والدولة إلى أن تظلا منفصلتين؛ لكنهما سوف تمسيان أقدر على العمل جنبا إلى جنب من أجل مصلحة وخير الجميع. 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

1) Bill of Rights: Amendment I. Ratified December 15, 1791

2) Shorto, R. (2004)Chapter 2. The Island at the Center of the World New York: Vintage Books.

3) MacCullouch, D. (2010). Chapter 20 Christiani. New York: Viking Penguin.

4) MacCulloch (2010) pg. 626.

5) Ibid pg 616.

6) Ibid pg 633.

7) Gonzolalez, J. (1985), The Story of Christianity, Volume 2, New York: Harper Collins, pg. 67.

8) MacCulloch, (2010) pg. 637.

9) John Calvin, Calvin: Institutes of the Christian Religion, trans. from the 1559

Latin ed, by Ford Lewis Battles, 2 vols., in Library of Christian Classics, ed. John

T. McNeill (Philadelphia: The Westminster Press, 1960), 3.19.15

10) Institutes 4.20.1

11) MacCulloch (2010) pg. 637.

12) Meeter, D (1993). Meeting Each Other. Grand Rapids: Wm. B. Eerdmans. Pg, 31.

13) MacCulloch (2010) pg. 640.

14) MacCulloch (2010) pg. 650.

15) Carter, Stephen L., "Reflections on the Separation of Church and State" (2002). Faculty Scholarship Series, Paper 2270, http://digitalcommons.law.yale.edu/fss_papers/2270.

16) Gonzalez (1985) pg. 224.

17) MacCulloch (2010). pg. 722.

18) Gonzalez (1986) pg. 223.

19) MacCulloch (2010), pg. 273.

20) Gonzalez (1986) pg. 223.

21) Meeter (1993) pg. 31.

22) MacCulloch (2010) pg, 640.

23) Shorto (2004) pg. 276.

24) http://www.nyym.org/flushing/remons.html (Original Language modified to make more suitable for translation).

25) MacCulloch (2010) pg. 764.

26) MacCulloch (2010) pg. 763.

27) Gonzalez (1985). pg. 140.

28) MacCulloch (2010) pg. 647.

29) Gonzalez (1985) pg. 152.

30) MacCulloch (2010) pg. 65.3

31) Meacham, Jon (2012-11-13). Thomas Jefferson: The Art of Power (pp. 122-123) Random House Publishing Group, Kindle Edition.

32) Meacham, Jon (2012-11-13). Thomas Jefferson: The Art of Power (p. 124) Random House Publishing Group, Kindle Edition.

33) MacCulloch (2010). pg. 764,

34) Meacham, Jon (2012-11-13) Thomas Jefferson: The Art of Power (p. 259), Random House Publishing Group, Kindle Edition.

35) Gonzalez (1985) pg. 190.

36) Staloff, Darren, “Deism and the Founding of the United States” Divining America, TeacherServe©. National Humanities Center, May 15th, 2013, <http://nationalhumanitiescenter.org/tserve/eighteen/ekeyinfo/deism.htm>

37) MacCulloch (2010), pg. 765.

38) Meacham, Jon (2007-03-20) American Gospel: God, the Founding Fathers, and the Making of a Nation (Kindle Locations 275-277), Random House Publishing Group, Kindle Edition.

39) Meacham, Jon (2007-03-20). American Gospel: God, the Founding Fathers, and the Making of a Nation (Kindle Locations 301-306). Random House Publishing Group, Kindle Edition.

40) Meacham, Jon (2007-03-20). American Gospel: God, the Founding Fathers, and the Making of a Nation (Kindle Location 308). Random House Publishing Group. Kindle Edition.

41) Meacham, Jon (2007-03-20). American Gospel: God, the Founding Fathers, and the Making of a Nation (Kindle Locations 309-314), Random House Publishing Group, Kindle Edition.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/218

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك