الغرب والشرق الأقصى: من الصراع إلى التفاهم

مسعود ضاهر

منذ القرن التاسع عشر فرض الغرب الأوروبي سيطرته بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الشرقين الأدنى والأقصى؛ فاحتل الصين والهند، وعددا كبيرا من الدول المجاورة لها. وبعد إنذار الكومودور الأميركي بيري لليابان عام 1853 فرضت عليها اتفاقيات مذلة من جانب أميركا ويريطانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى خلال سنوات 1854 – 1858. ولم تستطع اليابان التخلص منها إلا بعد أن نجح جيشها القوي المدرب على الفنون العسكرية الغربية في إنزال هزيمة قاسية بالجيش الصيني عام 1895 ثم الروسي في حرب 1904-1905. 

تبنى اليابانيون في عهد الإمبراطور المتنور مايجي بعض الإصلاحات الغربية التي قامت على التنظيم الدقيق لتحقيق أرباح كبيرة، واستخدمت العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة بهدف التوسع والهيمنة على الشعوب الآسيوية المجاورة. 

باتت اليابان في مطلع القرن العشرين دولة إمبريالية تصنف إلى جانب دول الغرب الأوروبي الاستعماري التي تدمج بين العلم والتكنولوجيا والتجارة والقوة العسكرية والنظام السياسي الديموقراطي على النمط الغربي. وتحول العالم كله إلى حقل للتنافس يخضع لنفوذ الدول الإمبريالية التي اعتمدت أسلوب الاحتلال المباشر، وإلحاق الهزيمة العسكرية بالخصم وإلحاقه تبعيا بها، وبلغت إيديولوجيا القمع حتى إنزال الهزيمة الكاملة بالخصم أقصى مداها في إشعال حربين عالميتين بين الدول الإمبريالية نفسها أو مع خصومها المحتملين، ودفعت ثمن الهزيمة دول كبرى كروسيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، واليابان، والصين، والهند، وغيرها. 

تفسر إشكالية الهزيمة الكاملة جانبا أساسيا من تاريخ العلاقة الممتدة بين الغرب الاستعماري والشرق الأقصى الذي تعرضت معظم دوله للاحتلال حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. وقادت إلى سيطرة مديدة كان من الصعب التخلص منها بعد أن استخدم الغرب الإمبريالي قبضته الحديدية التي مكنته من التحكم بمصير الشرق الأقصى. وفرض على شعوبها نضالات مريرة للتخلص من هيمنته بعد أن استخدام حرب الأفيون ضد الشعب الصيني، والأسلحة النووية ضد الشعب الياباني، والحرب المدمرة الطويلة الأمد ضد الشعب الفيتنامي. 

انطلق الغرب في سيطرته على العالم من مخزون معرفي وعلمي هائل تشكل خلال الحقب الاستعمارية المتلاحقة. واستفاد من الأبحاث الميدانية لمفكريه الجامعيين، واستثمر معرفته العميقة لدراسة طبائع الشعوب الخاضعة له لتدمير مراكز القوة في ثقافاتها. واستخدم البنى الاجتماعية التقليدية لدى الأنظمة المهزومة لإلحاق قادتها ومؤسساتها ومواردها الطبيعية بالدول الغربية. وفي عصر العولمة، اعتمد الغرب استراتيجية القوة الناعمة إلى جانب القوة العسكرية لديمومة سيطرته. فأنشأ مؤسسات غربية الانتماء وعالمية النفوذ لإطلاق دينامية جديدة للعولمة. 

أبرز تلك المؤسسات: منظمة التجارة العالمية، ومنظمة العمل الدولية، والبورصات العالمية، والمحاكم الدولية، والإعلام العالمي، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومؤسسات الأمم المتحدة وغيرها. وإلى جانبها، استخدم الدبلوماسية الناعمة كشريك فاعل في ديمومة الهيمنة. وما زال الغرب يضحي بحلفائه دون تأنيب ضمير، ويظهر استعداده للتخلي عن كل من يعجز عن قمع القوى الوطنية التي تحاول فك التبعية عن الغرب. 

تجدر الإشارة إلى أن انتصار الثورة الشيوعية في الصين عام 1949 أدخلت نوعا من التفاؤل لدى الشعوب المضطهدة وأعطتها الأمل بالتحرر من القوى الاستبدادية في الداخل، وقوى الهيمنة من الخارج. ونجحت اليابان في تجاوز الهزيمة التي لحقت بها في الحرب العالمية الثانية، فأطلقت نهضة جديدة جعلتها في المرتبة الثانية في الاقتصاد العالمي، وكان لها أثر إيجابي في بروز ظاهرة النمور الآسيوية وتجارب التحديث الآسيوية المتميزة في كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وماليزيا، وأندونيسيا، وغيرها. 

في السنوات القليلة الماضية تبلورت مقولة نظرية تؤكد على أن النصف الثاني من القرن الحادي والعشرين سيكون آسيويا بامتياز. وطرحت على الفور تساؤلات منهجية حول مرتكزات نهوض دول الشرق الأقصى. فكيف تحول المارد الآسيوي إلى لاعب فاعل في الاقتصاد العالمي خلال فترة زمنية قصيرة؟ وما طبيعة العلاقات المستجدة بين موروثات الغرب بجناحيه الأوروبي والأميركي العسكرية للسيطرة على العالم من جهة، وتوجهات دول الشرق الأقصى التي تركز على القوة الناعمة من جهة أخرى؟ وكيف نجحت شعوب الصين واليابان والهند وغيرها في تطبيع علاقاتها مع دول الغرب رغم مآسي التاريخ الاستعماري المشترك بينهما؟ وهل صعود دول الشرق الأقصى وحلفائها - في مجموعة البريكس التي تضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين وجنوب أفريقيا- يقود إلى تجدد العنف الدولي الذي ولد حربين عالميتين في القرن العشرين؟ أم أن استراتيجية القوة الناعمة التي تبنتها تلك الدول قادرة على مواجهة الهيمنة العسكرية الغربية التي تتحكم بمصير العالم؟ وهل نجاح دول الشرق الأقصى في لجم نزعة الغرب العسكرية يقود إلى ولادة عولمة أكثر إنسانية؟ 

لم تكن هيمنة الغرب سوى مرحلة من تاريخ العالم وليست نهاية له كما زعم فوكوياما، وتحتاج دول الغرب اليوم إلى قوى بشرية كبيرة، وموارد ضخمة، ومهارات متنوعة للاحتفاظ بالمواقع التي تسيطر عليها حتى الآن. فالمحركات الذهنية والمادية في الصراع العالمي شديدة الارتباط بالتاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي لجميع شعوب العالم رغم الموقع المتميز لتاريخ الغرب فيه. وهذا ما سمح لدول الشرق الأقصى بالدخول إلى حلبة الصراع العالمي في عصر العولمة من خلال مرتكزاتها الذهنية والمادية الخاصة بها. فقد فتحت اليابان الباب لإطلاق حداثة أكثر إنسانية بنيت على القوة الناعمة وليس العسكرية. وهي تقيم التوازن بين التراث والمعاصرة دون أن تسعى للهيمنة على شعوب أخرى والتحكم بمواردها كما فعلت في مرحلتها الإمبريالية. وقد عجزت دول الغرب- بجناحيها الأوروبي والأميركي- عن إقامة ذلك التوازن والحفاظ على نظم القيم الأخلاقية في التعاطي مع الشعوب الأخرى. 

فلسفة القوة الناعمة في مواجهة خيار القوة العسكرية

ما زالت دول الغرب أسيرة فلسفة القوة العسكرية التي ساعدتها في إطالة سيطرتها على الشعوب الأخرى لقرون عدة، وهي ترفض تغيير استراتيجيتها الموروثة وإبدالها بالقوة الناعمة رغم امتلاكها لها بكفاءة عالية. بالمقابل، اعتمدت دول الشرق الأقصى سياسة براغماتية وتسلحت بكثير من الأناة والصبر في علاقتها مع النزعة المركزية الغربية، خاصة الأميركية منها. فنهوض تلك الدول في العقود القليلة الماضية لم يكن بعيدا عن الغرب لا بل بالتعاون مع دوله. فأسست اليابان نهضة ثانية بدعم من الغرب، وأنجزت المعجزة اليابانية استنادا إلى نسب نمو مرتفعة استمرت لعدة عقود. واستعادت دورها الذي فقدته بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية وخضوعها للاحتلال الأميركي، وأطلقت تجربة تحديث جديدة بخصائص يابانية شكلت طليعة لتجارب تحديث معاصرة تحولت إلى نمور آسيوية. 

ترك نجاح اليابان الاقتصادي أثرا كبيرا في محيطها الآسيوي، فتجاوزت بعض دول الشرق الأقصى مأساة الهزيمة أمام الغرب الإمبريالي لتبني المعجزة الآسيوية بسرعة قياسية. فلماذا تقدمت دول جنوب شرق آسيا وتخلف غيرها، خاصة الدول العربية؟ 

أثير هذا التساؤل المنهجي في مجال التشكيك بقدرة التجارب الآسيوية على الاستمرارية، ونشر في هذا المجال سيل من الكتابات الغربية والعربية بعد الأزمة العميقة التي عصفت بتجارب التحديث الآسيوية في العقد الأخير من القرن العشرين. لكن مساندة اليابان والصين لها ساعدتها على النهوض مجددا، وإطلاق مجموعة دول الآسيان ذات الحضور الفاعل في الاقتصاد العالمي. 

تهكم بعض الباحثين العرب من شعار " المعجزة الآسيوية" بقوله:" هل تجارب بلدان شرق آسيا معجزة أم سراب؟ "، و"هل النمور الآسيوية نمور حقيقة أم من ورق؟". ومنهم من رأى أن البداية الحقيقية لتلك النمور كانت من نتاج الحرب الباردة، ولم يتورع آخرون عن وصف نهضة اليابان بأنها كانت جزئيا من نتاج الحرب الباردة أيضا. وبالتالي، فالتجارب التي يجدر بالعرب دراستها هي: ماليزيا، والصين، والهند، وكوريا الجنوبية؛ لأنها تجارب حقيقية وجادة في التنمية، ولم تكن نتاج الحرب الباردة. 

رغم التشكيك المستمر بنهضة اليابان الرائدة التي شكلت نموذجا يحتذى لبعض النمور الآسيوية، بدأت الولايات المتحدة الأميركية تحضر قواها العسكرية المنتشرة في منطقة جنوب وشرق آسيا لوضع حدد للقوة الاقتصادية الآسيوية خوفا من أن تنمو لتنازعها الهيمنة على الاقتصاد العالمي، وهي ترفض مقولة تعدد الأقطاب الاقتصادية الرأسمالية المتقدمة. 

نخلص إلى القول بأن نجاح اليابان في التفلت من مرتكزات السيطرة الغربية وتبنيها فلسفة القوة الناعمة في مواجهة القوة العسكرية الغربية، ورفضها لسياسة الانتقام من الغرب، دفع دول النمور الآسيوية لتحتل موقعا متقدما في إطار المواجهة بالقوة الناعمة في عصر العولمة. في الوقت عينه، فضلت الصين استخدام القوتين الناعمة والعسكرية معا لحماية موقعها الاقتصادي والعسكري المتقدم في عصر العولمة. 

تحدت دول الشرق الأقصى الغرب بأسلحته، وبدأت بتعطيل ركائز هيمنته العسكرية من طريق تحول الصراع على المستوى الكوني إلى تنافس معرفي، وديموقراطي، وثقافي، واقتصادي، وقيمي. وباتت تلك الدول متواجدة بقوة على ساحة التنافس السلمي والمعرفي على المستوى الكوني. وهي تواجه استراتيجية الهيمنة الغربية بكفاءة عالية بعد أن أتقنت قواعد المواجهة بالقوة الناعمة، وامتلاك القدرة على المشاركة الفاعلة في نظام عالمي جديد يهدف إلى حماية الشعوب وتنمية طاقاتها الروحية والثقافية والاقتصادية، ويلجم القوة العسكرية التي تدمرها. 

رغم تجلياتها المختلفة ارتبطت تجارب التحديث في دول الشرق الأقصى بمقولات نظرية متقاربة، فالخيط الجامع فيما بينها خيط معرفي بأبعاد تاريخية تتجلى في تلك الدول عبر التماسك الأسري، والإخلاص في العمل، وطاعة الحاكم. وهي تمثل شعوبا حية تحترم موروثاتها الثقافية قبل أن تعتمد سياسة براغماتية عملية لاستيعاب أفضل ما أنتجته الثقافة الغربية الحديثة دون عُقَد أو مركب نقص. وهي لم تتجاهل الحداثة الغربية؛ بل تعاطت معها بعقلانية لافتة بهدف الوصول إلى معادلة جديدة للحداثة الكونية في عصر العولمة. وساعدتها في ذلك مقولات الفكر الكونفوشيوسي المتجدد باستمرار للقيام بنوع من التفاعل الثقافي الخلاق. فالفكر الكونفوشيوسي ليس دِينا، ولا يعتمد العصبية الدينية او العصبيات السابقة على قيام الدولة الحديثة كالعائلية والقبلية والطائفية وغيرها؛ بل يمجد العقل بالدرجة الأولى كمرجعية ثابتة لخدمة الإنسان الفرد وبناء مجتمع متجانس. لذا لم يكن لدى الآسيويين مشكلة مع الحداثة الغربية؛ بل اعتمدوا أفضل ما فيها من قيم إيجابية ووظفوها على مختلف الصعد السياسية منها والاقتصادية والاجتماعية دون أن يتخلوا عن قيمهم الآسيوية الموروثة. 

أسهمت العقلانية البراغماتية المرنة - بعد تخليها عن العصبية الموروثة - في بناء دول حديثة في الشرق الأقصى بخصائص آسيوية، وبات واضحا اليوم أن الدولة الحديثة على النمط الآسيوي في الشرق الأقصى هي وحدها القادرة على مواجهة الدولة الحديثة عل النمط الغربي. وهذا ما سمح لها بالمواجهة الناجحة على المستوى الاقتصادي، ورفضت المواجهة العسكرية؛ لأنها لا تتبناها بل تتحاشاها. وأثبتت التجارب التحديثية في تلك الدول أن الهزيمة العسكرية التي تلقتها سابقا على أيدي العسكرتاريا الغربية كانت هزيمة مؤقتة. فبقيت الأمة متماسكة، مما سمح للشعب بالنهوض مجددا وبناء دولة عصرية. وكانت لديها الجرأة في ممارسة النقد الذاتي لتحاشي المواجهة العسكرية غير المتكافئة مع الغرب. وأدركت أن الانتصار الحقيقي على الغرب سيكون في ساحات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا من جهة، وإقامة التوازن بين الأصالة والمعاصرة مع الحفاظ على نظام القيم الأخلاقية من جهة أخرى، وفتحت أمام شعوبها أبواب العلم، وتبادل الخبرات البحثية، والتفاعل الثقافي مع الغرب لبناء مجتمع المعرفة، وذلك في جو من الأمن والاستقرار، والانسجام الداخلي، والتناغم الخلاق مع طبيعة عصر العولمة وثقافة القرية الكونية الواحدة. 

حين بدأ الغرب يفقد تدريجيا قدرته على السيطرة الاقتصادية لجأ إلى مؤسسات العولمة لفرض شروطه على دول الشرق الأقصى. وعمل على تحويل المعجزة الاقتصادية في اليابان إلى اقتصاد الفقاعة منذ عام 1993. وفجر الأزمة المالية في الدول الآسيوية عام 1997 التي أدت إلى خسارة ما بين 30-40 % من مدخرات العديد من الدول الآسيوية وإفلاس الكثير من شركاتها، وشراء بعضها الآخر بأسعار بخسة. وانفجرت أزمة مالية كبيرة في نهاية عام 2008 ما زالت آثارها تتفاقم وتهدد بإفلاس عدد من الدول على امتداد القارات الخمس. 

رغم الأزمة، رفضت دول الشرق الأقصى تبني سياسة الانتقام من الغرب المأزوم اقتصاديا، وما زالت تتحاشى الصدام العسكري معه عن سابق تصور وتصميم. وهي تدرك جيدا أنه لم يعد قادرا على فرض شروطه الاقتصادية أو قيمه الاجتماعية أو الثقافية على الدول التي تحررت من عقدة الدونية والتبعية له. ولم يعد لدى الغرب التفوق التكنولوجي أو التفوق العلمي على دول متطورة كاليابان، والصين، وكوريا، وغيرها. 

على مستوى بناء الدولة الديموقراطية العصرية القادرة على مواجهة تحديات العولمة أثبتت دول الشرق الأقصى أن فكرة العلمانية ملائمة؛ لأنها ليست بعيدة عن موروثاتهم الثقافية. فقيمهم الاجتماعية مبنية على مبادئ الطاوية، والكونفوشيوسية، والبوذية، والشنتوية القريبة جدا من العلمانية. وهي تتبنى مقولات وضعية لا تشكل عقائد دينية صلبة بل مبادئ فلسفية واجتماعية مرنة. لذلك رفعت تلك الدول شعار التفاعل مع الغرب وليس مخاصمته، والتحاور معه وليس إعلان الحرب عليه. وتم التواصل مع الغرب من خلال اعتماد لغته الإنجليزية وسيلة للتبادل على مختلف الصعد. مما جعل شعوب تلك الدول على اطلاع واسع بثقافة الغرب مع المحافظة على لغات الشرق الأقصى الصعبة والعصية على الانتشار إلا في حدود ضيقة. 

عندما نجحت دول الشرق الأقصى في المجال الاقتصادي لم تعد شعوبها ترى الغرب قدرا متفوقا عليها بل لديه فقط تجارب ثقافية وعلمية متميزة يمكن الاستفادة منها. وتسعى تلك الدول للدفاع عن مجالها الحيوي، والمحافظة على موقع متقدم وثابت في عصر العولمة والتبدلات السياسية والاقتصادية والعلمية المتسارعة. فحققت شعوب الشرق الأقصى إنجازات كبيرة في المجال الاقتصادي، وتحتل الصين واليابان المرتبتين الثانية والثالثة في الاقتصاد العالمي. 

يؤكد نجاح تجارب التحديث في كل من اليابان، والصين، وكوريا، وسنغافوره، وتايوان، وهونغ كونغ، ومؤخرا الهند على حقيقة راسخة مفادها أن قادة تلك الدول كانوا على قناعة تامة من أن مجال المنافسة على المستوى الكوني قد تحول من القوة العسكرية إلى القوة الناعمة. وهو يطال العالم بأسره، فتخلوا عن استراتيجيتهم القديمة التي بنيت على القوة العسكرية، وعن نزعة الانتقام من الغرب. وسعوا إلى تجاوز كل أشكال الحروب وصراع العصبيات الدينية والعرقية، واعتماد التنافس الاقتصادي والعلمي والتقني والثقافي. 

تعامل قادة دول الشرق الأقصى مع هزائمهم العسكرية السابقة في مواجهة الغرب بكثير من العقلانية المرنة المستمدة من الحكمة الآسيوية. وأثبتوا قدرة فائقة في التغلب على نزعة الانتقام العسكري التي كانت متأججة في داخلهم، واستعاضوا عنها باستراتيجية القوة الناعمة التي تركز على المنافسة الحرة على المستوى الكوني. 

فبات الشرق المعولم اليوم يمتلك أسلحة فاعلة في مواجهة الغرب المعولم: القدرة الاقتصادية الهائلة، والانفتاح التام على الثقافات الأخرى، والتفاعل الإيجابي مع جميع شعوب العالم، وتجاوز نظرة الغرب الاستعلائية لتلك الشعوب وثقافاتها. وفي حين بقيت دول غربية تتعاطى مع الدول النامية والفقيرة بذهنية التفوق العنصري والثقافي، تتعامل الصين- وهي أكبر دولة في العالم من حيث حجم السكان وتصنف نفسها كدولة كبيرة في عداد الدول النامية- مع الدول النامية على قاعدة ضمان المصالح المشتركة، وهي تقدم لها بعض أشكال الدعم الاقتصادي والمالي لمساعدتها على النهوض. ورغم قدراتها العسكرية الكبيرة، تتجنب الصين مواجهة النزعة العسكرية الغربية التي تستبيح جميع القيم وتسعى للتفرد والهيمنة على مقدرات العالم. 

دول الشرق الأقصى في مواجهة تحدياتها الداخلية

اتجه مركز الاقتصاد العالمي بسرعة نحو الشرق الأقصى حيث باتت نسبة النمو السنوي المتواصل في الصين هي الأعلى في العالم، ومحصنة جيدا بالأمن والاستقرار. في حين تواجه الدول الرأسمالية الغربية اليوم موجة إفلاسات اقتصادية بسبب النمو الضعيف والسلبي أحيانا، واستفحال الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة. 

مع ذلك، تعاني دول الشرق الأقصى مشكلات داخلية كثيرة بسبب التنوع الجغرافي والعرقي والسكاني الهائل، والتمايز الحاد بين مداخيل سكان المدن الكبرى والريف، والفوارق الكبيرة في مجالات السكن، والعمل، والعلم، وأنماط الحياة. فليس من السهل على بلد كالصين أو الهند أن يطور كتلة بشرية تتجاوز المليار إنسان دفعة واحدة وخلال فترة زمنية قصيرة. كما أن دول الشرق الأقصى تتبنى مفهوما خاصا عن الديموقراطية، وحقوق الأفراد والجماعات، ودور مؤسسات المجتمع المدني. لكن الأهم من ذلك أن تلك الدول تمتلك كتلة بشرية كبيرة، وموارد مالية هائلة، ولديها تكنولوجيا حديثة، وعلوم عصرية بالغة التطور. 

بيد أن الأزمة الداخلية فيها مرشحة للتفاقم بسبب انتشار الرشوة والفساد على نطاق واسع في الجهاز السياسي والإداري الحاكم. وهي تواجه مشكلات عرقية ودينية متفاقمة؛ حيث تطالب بعض التجمعات القومية والدينية الكبيرة بنوع من الاستقلال الذاتي أو بناء دول مستقلة؛ لأنها ترفض الخضوع للدولة الصينية المركزية التي تحكمها قومية الهان التي يزيد تعدادها على 90% من سكان الصين الموزعين على ست وخمسين قومية. 

لذلك، تحرص دول الشرق الأقصى على إخراج جميع قومياتها من دائرة التبعية والتخلف التي كانت عليها طوال قرون عدة، وهي تدرك جيدا أن شعوبها تتمسك بتقاليدها الموروثة وترفض أي تدخل أجنبي أو وجود عسكري على أراضيها. نشير هنا إلى نظرية الكوكوتاي الشهيرة التي تشكل العمود الفقري للفكر التحرري السياسي الياباني الحديث والمعاصر، وهي تنطلق من مبدأ قدسية الأرض اليابانية، وقدسية الإمبراطور، وتلزم الساسة اليابانيين بالدعوة إلى تحرير الأرض اليابانية ومعها الإرادة اليابانية من الوجود العسكري الأميركي على أرض اليابان. وهم حريصون على أن تتبوأ اليابان موقعها الطبيعي الذي تستحقه في النظام العالمي الجديد، انطلاقا من دورها كقوة اقتصادية عظمى في العالم، ولديها الرغبة في أن تكون عضوا كامل العضوية في مجلس الأمن، وأن تكون لها كلمة مسموعة في القرارات الدولية. 

لكن السياسة البراغماتية اليابانية عرفت كيف تتجنب نزعة الانتقام العسكري من الغرب لتحول اليابان من دولة مدمرة بالكامل في نهاية الحرب العالمية الثانية إلى المرتبة الاقتصادية الثانية في العالم إلى أن أزاحتها عنها الصين في عام 2011. وهناك مشكلات إقليمية عميقة ومستمرة بين دول الشرق الأقصى، خاصة مشكلة ملكية بعض الجزر بين اليابان من جهة وكل من الصين وكوريا الجنوبية من جهة أخرى، ومشكلة السلاح النووي في كوريا الشمالية. وهي تهدد به أمن اليابان، وكوريا الجنوبية، وهددت به مؤخرا الولايات المتحدة الأميركية في نيسان 2013. 

وتدرك اليابان أن الوقت لم يحن بعد للخروج من تحت المظلة الأميركية، فما زال الأميركي يتصرف بصفته الشرطي الذي يحكم العالم بذهنية الكاوبوي. في حين تفضل دول الشرق الأقصى الاحتفاظ بالمكتسبات الكبيرة التي حصلت عليها في العقود الثلاثة الماضية، وتعمل على توليد ثنائية قطبية جديدة أو نظام دولي متعدد الرؤوس، تأمل غالبية شعوب العالم بأن يؤسس لعولمة أكثر إنسانية تنبي على القوة الناعمة وليس على النزعة التوسعية العسكرية. 

لقد أسهمت القوة الناعمة ومقولة التسامح لدى شعوب الشرق الأقصى في إحداث تبدلات عميقة وجذرية في المجتمعات الآسيوية التي يشهد بعضها وتائر نمو سريعة تخفف من وطأة الأزمات الكبيرة التي كانت تعاني منها في السابق. وهي تواجه ضغوطا أميركية وأوروبية كبيرة بهدف إفشالها أو الحد من إشعاعها في دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية. وتختبر دول الشرق الأقصى أساليب جديدة في التنمية، ومكافحة الفقر، والجوع، والبطالة، والأمية، وضغوط البنك الدولي والرساميل الخارجية. وعلى العرب دراستها بدقة وموضوعية وعدم الاكتفاء بترداد مقولات غربية لا تقيم وزنا لتضحيات شعوب الشرق الأقصى. ويردد بعض المفكرين العرب أن نهضة بعض دول الشرق الأقصى كان بتأثير الحرب الباردة، ومنها دول تقتات على فتات الشركات والمؤسسات الدولية التي جعلت منها منصات للتصدير الاقتصادي. علما أن نهضة تلك الدول تستمد مشروعيتها من التبدلات الجذرية التي أدخلتها على بلدانها، وهي تعمل على الانفكاك التدريجي من قيود المركزية الأوروبية والأميركية دون الصدام العسكري معها. ولديها تجارب تستحق الدراسة المعمقة بهدف الاستفادة منها. 

نجحت دول الشرق الأقصى انطلاقا من سياسة عقلانية مرنة من جهة، وغياب العصبية الدينية من جهة أخرى، فتلاقت العقلانية الصناعية الحديثة مع قيم العمل الفردي/الجماعي الآسيوية الموروثة. وبات النموذج الكونفوشيوسي المتجدد مركز قوة في عصر العولمة، ويبشر بتحويل القرن الحادي والعشرين إلى قرن آسيوي بامتياز. وتراجعت سيطرة الغرب على الشرق الأقصى في ظل استنهاض مثير للدهشة بعد مرحلة طويلة من الاحتلال والتبعية للغرب، واعتمدت تلك الدول على منظوماتها الفكرية في عملية الاستنهاض، ويعود السبب الأول في نجاحها إلى اعتناق تلك الدول لنظرية الدولة الحديثة الغربية المنشأ، والقطيعة مع دولة العصبية السابقة القائمة على تقاليد الساموري وغيرها. 

بيد أن التحديات التي تواجه دول الشرق الأقصى الصاعدة بقوة ما زالت كبيرة؛ فالمسألة النووية تزداد خطورة في كوريا الشمالية، والصراع على الجزر يزداد حدة بين الصين واليابان وكوريا الجنوبية ودول آسيوية أخرى، والضغط الأميركي يتزايد على اليابان من أجل تعديل دستورها السلمي والدخول مجددا في سباق التسلح. والتعاون بين دول مجموعة آسيان يمر في مرحلة صعبة بعد توجه الصين للتعاون التام مع مجموعة دول البريكس التي تضم 44 % من سكان العالم، وتمتلك أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي. 

في هذا الوقت بالذات قررت الولايات المتحدة الأميركية- بصفتها لاعب الغرب الأول على الساحة الدولية- التوجه نحو منطقة الشرق الأقصى بعد أن عجزت عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية في بناء الشرق الأوسط الجديد من جهة، وانحياز الاقتصاد العالمي بشكل واضح إلى الشرق الأقصى من جهة أخرى، فعملت على تأزيم الوضع في شبه الجزيرة الكورية وصولا إلى حافة الحرب وخطر مواجهات نووية أثارت الهلع في أوساط الرأي العام العالمي. وبدأت وسائل الإعلام الغربية تحذر من مواجهة عسكرية بين الغرب الأميركي بقدراته العسكرية الهائلة وكوريا الشمالية التي تمتلك أسلحة دمار شامل، خاصة النووية منها. 

بيد أن دول الشرق الأقصى ما زالت تتحضر لجعل النصف الثاني من القرن العشرين قرنا آسيويا بامتياز، وهي تتخوف اليوم من العواقب الناجمة عن التهديد بالسلاح النووي الكوري، عسكريا وسياسيا. فالنتائج الاجتماعية والاقتصادية المدمرة التي تترتب عليها ستكون لها أبعاد استراتيجية على المنطقة بأسرها، خاصة على شعبي الكوريتين واليابان. ويندرج الاستفزاز المتبادل بين الولايات المتحدة الأميركية وكوريا الشمالية ضمن استراتيجية مبرمجة منذ سنوات عدة هدفها تبرير التدخل العسكري الأميركي المباشر أو عبر الحلفاء الآسيويين للضغط على الصين، ومنع توحيد شطري شبه الجزيرة الكورية بالطرق الدبلوماسية. فجنون الحلول العسكرية ما زال يلاحق الولايات المتحدة التي تسعى لتفجير الأوضاع في منطقة الشرق الأقصى على غرار ما قامت به في الشرق الأوسط. 

يبدو أن الأميركيين لم يتحرروا من سياسية حافة الهاوية فوجدوا مبررا لها في السياسة التي تنتهجها كوريا الشمالية التي غالبا ما استخدمت التهديد العسكري للحصول على مساعدات اقتصادية ومالية؛ لكن دول الشرق الأقصى اليوم تحتل موقعا متقدما في الاقتصاد العالمي، ولديها قدرات بشرية وعسكرية وتقنية هائلة تمكنها من ردع النزعة العسكرية الغربية. ولعل أخطر التحديات التي تواجه العالم اليوم يكمن في مدى قدرة القوة الناعمة لدول الشرق الأقصى على لجم القوة العسكرية الغربية التي تضع العالم على حافة حرب عالمية. وهي تحرص على تجنب القوة العسكرية التي قد تصل إلى استخدام أسلحة الدمار الشامل، وإبقاء الصراع الدولي في إطار التنافس الاقتصادي والعلمي والتقني المفضي إلى رخاء الطاقات البشرية وليس إلى تدميرها. وذلك يتطلب فهم أولويات انتقال دول شرق آسيا من التبعية الاقتصادية إلى الاستقلال السياسي والتنمية البشرية المستدامة خلال فترة قصيرة، ثم انتقلت إلى بلورة رؤية علمية عقلانية لإبراز العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية لصعود تلك الدول التي باتت تحتل موقعا متقدما في عصر العولمة. 

ملاحظات ختامية:

خضعت دول الشرقين الأوسط والأقصى لهيمنة الغرب بأشكال مختلفة، فبدت صورة الغرب متباينة لدى شعوبهما، وانعكست بأشكال متفاوتة في الكتب المدرسية، والفنون، ووسائل الإعلام وأشكال المثاقفة وغيرها؛ فالغرب ليس واحدا. وتمتاز النظرة إليه بالتنوع الديني، والسياسي، والثقافي، والفني، وفيها الكثير من التناقض والمفارقات تبعا لدرجة التلاقي معه أو التباعد عنه. كانت العلاقة تفاعلية وأخذت بعدا معرفيا أساسيا في فهم العلاقة السائدة الآن بين الشرق الأقصى والغرب، في حين بقيت علاقة التبعية مستمرة بين الشرق الأوسط والغرب. 

تبنى متنورو الشرق الأقصى رؤية موضوعية عن الغرب، بعيدة عن الهم الإيديولوجي الذي كان كثيفا للغاية في دراسات مفكري الشرق الأوسط التي أنتجت- في الغالب- أبحاثا تمدح الغرب وتتجاهل جميع مساوئه، أو تكرر الصورة التي أنتجتها مخيلة الغرب عن الشرق. لم تكن صورة الغرب على درجة عالية من الوضوح في أذهان الشرقيين. فهل المقصود بالغرب تلك الرقعة الجغرافية التي أطلقت الثورات الفرنسية والإنجليزية والأميركية ونشرت مفاهيم الحرية والعدالة والإخاء والوطنية وحقوق الإنسان وغيرها؟ أم الغرب المحرض على الحملات الاستعمارية التي سيطرت على مناطق واسعة في القارات الخمس، ومنها مناطق الشرق الأوسط والشرق الأقصى، وزرعت فيها عشرات القواعد العسكرية بالإضافة إلى مئات القطع البحرية التي تجوب بحار العالم لتأمين سيطرة الغرب التامة على الموارد الطبيعية والثروات النفطية فيها؟ 

تعاطت شعوب الشرق الأقصى مع الهيمنة الغربية بكثير من الواقعية؛ فالتاريخ العبء ليس سببا كافيا لتأبيد تبعية الشرق الأقصى للغرب. وبحث متنورو الصين واليابان والهند ودول النمور الآسيوية عن مظاهر التفاعل مع ثقافة الغرب، وعلومه، وتقنياته العصرية، ومقولاته السياسية والاقتصادية، وثوراته العلمية والصناعية، ومدارسه الفنية والفلسفية. واستنبطوا مواقف نقدية لقبول ما هو إيجابي في حضارة الغرب ورفض ما هو سلبي، والاقتباس عنه بتحفظ مع التنبيه إلى مخاطر التغريب، ورفض الانكفاء على الذات تحت ستار الحفاظ على الأصالة. وتجاوزوا ثنائية القبول التام أو الرفض المطلق في علاقة الشرق الغرب؛ لأنها بدت عاجزة عن توليد معرفة دقيقة بالمشكلات القائمة، ودعوا إلى القطع المعرفي مع مقولة حب الغرب أو كرهه، ومد جسور علمية للتعاطي الواقعي معه. فالآخر في عصر العولمة ليس مجرد شكل للحوار؛ وإنما هو عنصر تكويني من عناصر الذات، ورفضوا دمج مفهوم الحداثة بمفهوم الغرب؛ لأنه لا يقود إلى دراسات علمية معمقة؛ فحداثة الغرب هي نتاج تطوره الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي؛ بيد أن اقتباس تلك الحداثة لفرضها على مجتمعات أخرى يقود بالضرورة إلى التغريب وليس إلى التحديث. فالحداثة تعبير عن تطور بنى اجتماعية قادرة على استيعاب علوم العصر، من أي مصدر كان وليس من الغرب وحده، وتمثلها والإبداع فيها لمواجهة متطلبات المرحلة التاريخية. 

وآثر متنورو الشرق الأقصى اقتباس الكثير من التكنولوجيا الغربية أو العلوم العصرية وتمثلوا المقولات الفلسفية، والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية التي أبدعتها. 

فمجالات التفاعل العلمي والثقافي والسياسي والاقتصادي بين دول الشرق الأقصى ودول الغرب- بجناحيه الأميركي والأوروبي- هي من الغنى والتنوع بحيث يصعب تحديدها وإبراز دورها المهم في التفاعل الثقافي الذي نلحظ آثاره الواضحة من خلال تطور المؤسسات الثقافية المشتركة، فتبدلت صورة الأنا والآخر تدريجيا عما كانت عليه في الدراسات الاستشراقية التي قدمت في العقود الماضية. ولعل مقارنة دقيقة بين انطباعات الرحالة الغربيين إلى الشرق الأقصى، والشرقيين إلى الغرب في القرن التاسع عشر مع الدراسات العلمية التي يقدمها الباحثون المتخصصون من الجانبين منذ النصف الثاني من القرن العشرين تظهر بوضوح تام أن مثقفي الشرق الأقصى والغرب تجاوزوا ثنائية الانبهار أو الرفض، فجعلوا من الغرب والشرق معا موضوعات لدراسات نقدية تظهر الإيجابيات والسلبيات معا، والسعي للارتقاء بالعلاقة بينهما إلى موقع الندية والمثاقفة البناءة. فلم تعد صورة الشرق الأقصى في الغرب من إنتاج الغرب نفسه بل نتاج علاقات ندية متبادلة على مختلف الصعد. وقد انطلقت من نقد الصورة القديمة المتخلية لتقدم رؤية علمية للغرب والشرق معا، لتبرز كلا منهما على حقيقته وليس كما تتخيله أجهزة الإعلام. 

في السابق، انتشرت على نطاق واسع مقولة الشاعر الإنجليزي كيبلنغ: " الشرق هو الشرق والغرب هو الغرب ولن يلتقيا"؛ لكن كاتبة إنكليزية أخرى هي فريا ستارك روجت لمقولة معاكسة تقول: " الشرق هو الغرب". ورأى الشاعر الألماني غوته أن من يعرف نفسه يعرف الآخرين، "وأن الشرق والغرب بعد أن تلاقيا لا يمكن بعد أن يفترقا". 

دلالة ذلك أن صورة الغرب عن الشرق ليست واحدة بل متنوعة، غنية وأحيانا متناقضة. وليس من الحكمة أن تختزل رؤية الغرب عن الشرق وأن يعمم قول كيبلنغ في أجهزة الإعلام مع تجاهل تام لوجهات نظر أخرى غربية صادرة عن مواقع ثقافية معروفة عالميا. فالغرب لم يكن واحدا في الماضي، وهو ليس واحدا في الحاضر، ولن يكون كذلك في المستقبل. كما أن مصالحه ليست واحدة؛ فدولة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية تريد أن تهيمن على العالم كله بما فيها دول الغرب. وهناك دول غربية ليست لها مواقف عدوانية ضد الدول الأخرى، لا في الشرق الأقصى ولا في غيره من بقاع العالم. 

ختاما، تبدو شعوب الشرق الأقصى اليوم مستعدة للانفتاح على أوروبا وأميركا وجميع دول العالم اقتصاديا وثقافيا، وهي شعوب حرة تريد أن تعيش بحرية، وأن تمد يدها إلى العالم من موقع الصداقة والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. الغرب متعدد، وشعوب الشرق الأقصى لا ترفض التعاون معه في جميع المجالات بل ترفضه إذا عاد مستعمرا، أو إذا حاول فرض ثقافته وتقاليده وعاداته عليهم. وهي ترفض الإصغاء إلى بياناته حين يتجاهل جميع شعاراته السابقة عن الحرية، والإخاء، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان. وتطالب شعوب الشرق الأقصى، وغيرها من الشعوب الحرة التي كسرت طوق التبعية للغرب بالحوار الإيجابي معه من موقع الندية أولا، وعدم الانجرار وراء عولمة لا تقيم أي وزن لشعوب الشرق؛ بل تعدها كمًّا بشريا وطاقات وموارد طبيعية يجب توظيفها في خدمة الغرب المتفوق والساعي لتأبيد سيطرته على العالم بكل الوسائل المتاحة. علما أن ثقافة الغرب الليبرالية لم توظف في مشروع نهضوي تستفيد منه جميع شعوب العالم؛ بل تم توظيفها لصالح احتكارات رأسمالية ضخمة ذات نزعة إمبريالية، وتدعمها قوى عسكرية تمتلك أحدث أنواع التكنولوجيا والعلوم العصرية. فتحول الغرب إلى مركز استقطاب لرأسمالية همجية تهدد الكثير من دول العالم وتفرغها من طاقاتها المادية والإبداعية؛ لكن شعوب الشرق الأقصى عرفت كيف تحقق إنجازات كبيرة منذ نهاية الحرب الباردة، وباتت تمتلك قوة اقتصادية وثقافية فاعلة. وهي تعمل حاليا على بلورة مشروع عالمي جديد يجمع بين إنجازات الثقافات الغربية والآسيوية معا. وهدفه توجيه مسيرة العولمة نحو آفاق اكثر إنسانية، والحد من نزعة الغرب المستمرة لإشعال الحروب المتنقلة، وتوليد أزمات اقتصادية ومالية واجتماعية تهدد الأمن والاستقرار في العالم.

المصدر: http://tafahom.om/index.php/nums/view/11/229

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك