الصراع على الإسلام وأبعاده الرمزية

رضوان السيد

ييلُغُ الصراعُ على الإسلام من جديد أبعاداً رمزية• والرمزُ هذه المرة، كما في حالة سلمان رشدي عام ،1987 شخص الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصورتُه

وقد بدأت الأزمة هذه المرة بالصُوَر الكاريكاتيرية التي نشرتها الصحيفةُ الدنماركية في 30 سبتمبر عام ،2005 وتجدد الكلامُ حولها في يناير من العام الحالي عندما أعادت نشرها صحيفةٌ نرويجية، ثم سارعت لنشرها صحفٌ أوروبيةٌ مختلفةٌ على سبيل الإثارة، أو دفاعاً عن حرية التعبير! في حالة سلمان رشدي- الكاتب الهندي الأصل، وابنُ الأُسرة المسلمة- كان الموضوع روايةً شبه تاريخية، جرى فيها الكاتبُ على تصوير الرسول صلى الله عليه وسلم بطريقةٍ شائنةٍ وغير مسوَّغة

وقد تعمَّد فيها السخرية السوداء، وقلْبَ الحقيقة التاريخية، عن بدايات نزول القرآن، وكيف تعامل الرسول مع بني قومه من أجل استجلابهم لدعوته• وقد اختلفت التفسيراتُ والتأويلاتُ في أسباب استعادة الكاتب لأُسطورة الغرانيق، ولماذا اعتبرها مسألةً تاريخيةً ثابتة

وقد أجاب هو وأنصارُه (وبعضُهم من العرب) على ذلك بالقول إنه روائي، ولا يهتمُّ كثيراً للحقائق التاريخية، بل يتعمد الإغراب الفني أو الإبداع الفني

واقتصر الاستنكارُ في البداية على بعض الشبان المسلمين من أصولٍ هنديةٍ وباكستانيةٍ ممن قرأوا الرواية العسِرة الأسلوب والهضم

ثم أصدر آية الله الخميني فتوى بإهدار دم سلمان رشدي، وانتشرت موجةٌ من الاستنكار والاستهجان في العالمين العربي والإسلامي، دفعت الحكومة البريطانية لإخفاء الكاتب خشيةَ اغتياله، وانتشرت كتاباتُ وبياناتُ المثقفين الأوروبيين الداعمة لحرية التعبير الفني

وقد اعتبر المسلمون الغاضبون أنّ الاعتداءَ على صورة النبي وتاريخه والوحي القرآني اعتداءٌ على دينهم وكرامتهم؛ في حين ظلَّ الأمرُ لدى المدافعين عن رشدي من الأوروبيين مسألةً تتعلقُ بحرية التعبير، وليس بالعقائد الدينية

وهكذا ما أمكن الوصولُ إلى حوارٍ أو نقاشٍ جديٍ حول المسائل المتعلقة بالغرب والإسلام أو مواقع المسلمين وعقائدهم في المجتمعات الأوروبية؛ باعتبار أنّ الكلام صار بمثابة كلام الطُرشان فيما بينهم، يتعذرُ عليهم جميعاً فهمُ حديث بعضهم بعضاً• أما الحكوماتُ الأوروبية وبخاصةٍ بريطانيا- باعتبار رشدي من مواطنيها- فما اهتمت كثيراً للأمر؛ لكنها حمت رشدي، وحاولت تجنُّب انتشار الرواية لتتجنَّبَ المزيدَ من غضب المسلمين، ثم انصرفت للتشنيع على إيران، باعتبارها رصدت أموالاً لمن يقتل الكاتب

ومع أنَّ الأزمة الجديدةَ أثارها الاعتداءُ على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم من جديد عبر الصُوَر الساخرة في الصحف؛ فقد حدثت في سياقات أُخرى، وهدفت بالتالي إلى أُمورٍ أُخرى

فالرسّامُ هذه المرة ليس من أصولٍ إسلامية؛ بحيث يمكن اعتبارُ المسألة إسلاميةً داخلية

إنّ الصُوَر نُشرت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 والتي استتبعت شنَّ حربٍ عالميةٍ على الإرهاب، وتبادُل العنف بين الأصوليين المسلمين وخصومهم من الغرب ثم من الأنظمة العربية والإسلامية

وهكذا ففي حين كانت المشكلة مع رشدي تصويرهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بصورة الشخصية البوهيمية (حاشاه أن يكون كذلك)، صارت المشكلة مع رسّام الكاريكاتير الدنماركي تصويرَه للرسول بصورة الشخصية العنيفة (حاشاه أن يكون كذلك أيضا)، أي جَعْلُهُ جزءا من ”الإرهاب الإسلامي” المُعاصر! وبذلك، ففي حين ما كان واضحاً في رواية رشدي ما هو المقصودُ من وراء التذكُّر المفاجئ للغرانيق؛ كان واضحاً في الرسوم الدنماركية أنّ المقصودَ بها المساس بمشاعر المسلمين المُعاصرين، بتصوير مؤسّس دينهم باعتباره شخصيةً إرهابية، فيكون دينهم عنيفاً أيضاً، وكذلك أتباعُهُ اليوم• وزاد الطين بلّةً أنّ الحكومةَ الدنماركية ما التفتت لشكوى المسلمين الدنماركيين إثر نشر الصُوَر، وكذلك القضاء الذي اعتصم أيضاً بحرية التعبير

لكنْ عندما بدأت المصالح الدنماركية تتضرر من جانب المتظاهرين في الشوارع للتنديد، ومن جانب الداعين لمقاطعة البضائع والسِلَع الدنماركية؛ عدَّلوا خطابهم، وأسِفوا لما حدث لكنهم لم يعتذروا حتى الآن وإن كفّوا عن الحديث عن حرية التعبير

وانتشرت التظاهُرات هذه المرة في العالمين العربي والإسلامي، أكثر بكثيرٍ مما انتشرت في واقعة سلمان رشدي• وسارع رسميون كثيرون إلى التصريح بالاستنكار

وقاطع آخرون البضائع والسِلَع الدنماركية، واستدعت السعودية وسوريا سفيريهما، وتم تخريب السفارات والممثّليات التابعة للدنمارك وأحياناً النرويج، في عدة بلدانٍ؛ منها سوريا ولبنان وإيران

لماذا قام الرسام الدنماركي بما قام به، ولماذا كانت ردة فعل المسلمين بهذا العنف؟ عُرفت البلدان الإسكندنافية بالانفتاح على العرب والمسلمين وقضاياهم، وكانت لديها سياساتٌ ليبرالية تجاه الهجرة؛ ولذلك تصاعد عدد الآتين إليها من أفريقيا وآسيا

وهناك في تلك البلدان جالياتٌ كبيرةٌ، كرديةٌ وفلسطينيةٌ ولبنانية ومن نواحٍ عربية أُخرى• لكنّ الإسكندنافيين وأبناء دول البنلوكس أيضاً تغيروا في العقد الأخير، وظهرت بينهم تياراتٌ يمينيةٌ تُعادي المُهاجرين وتأنفُ من مشاكلهم ومن دعاواهم بالخصوصية والعصبية• وحتى اليساريون من بينهم زاد وعيهم حِدَّةً بغرابة هؤلاء المختلفين

ثم انصبّت الغرابةُ كلُّها على الإسلام مع تزايدُ أحداث العنف باسمه في التسعينيات، وصار المهاجرون غير المرغوب فيهم من العربُ والمسلمين، وصار كثيرون يصرّحون بالتقزُّز من اللباس الإسلامي للنساء، ومن العادات ”الغريبة” في الزواج والطلاق والتعدد، ومن ” اضطهادَ ” المرأة• وكان المسلمون أنفسُهم يتغيرون، بتأثير المحيط العربي والإسلامي الأوسع الذي تفاقمت مشكلاته بعد انتهاء اصطفافات الحرب الباردة، وانتشار الفوضى الأميركية ”البناءّة” التي دشّنتها الحرب على العراق1991/•1992

وأخذ كثيرٌ من الشباب زمام المبادرة بالانتقام للإسلام من الدول الكبرى ومن الأمَم المتحالفة معها، فاندلع عنفٌ باسم الإسلام ما تزال وقائعه ومآسيه تتوالى حتى اليوم وترافق ذلك أو جرى استباقُهُ بأسلمةٍ ظاهرةٍ ومعلنةٍ عن نفسها بقوة للحياتين الخاصة والعامة؛ من خلال تزايد الحفاظ على العبادات في المساجد، ولباس النساء ولحى ودشاديش الرجال، والإحساس الحادّ بالغربة وسط المجتمعات الأوروبية، مع عدم القدرة على مغادرتها وصار الشغل الشاغل لعددٍ كبيرٍ من الشبان والشابات إعادة اكتشاف هويتهم الخاصة وشعائرها ورموزها

أما الأوروبيون الضائقون بالهجرة أصلاً، والضائقون إضافةً بـ”الغرابة” الإسلامية المستجدة في نظرهم، فكانوا يواجهون كلّ تلك المتغيرات بالنفور الخفيّ أو المعلَن

ثم بدأت الكتابات المندّدة بالظاهرة الإسلامية تظهر أو تتفاقم، وقد سبقت إليها وسائلُ الإعلام، تارةً إنكاراً للعنف الإسلامي، وطوراً إنكاراً للغرابة والاختلاف و”ظلم” النساء وتحدي الطابع العلماني للحياة العامة أو الطابع المسيحي لأوروبا العريقة المخاصمة للإسلام منذ الحروب الصليبية! ولاسكندنافيا خصوصيةٌ لجهة قلة المعرفة بالإسلام رغم الارتفاع النسبي في ثقافة الجمهور، واهتمامه بالقضايا العالمية• فالاستشراق ضعيفٌ في جامعاتها باستثناء الدراسات الفيلولوجية المقارنة والكلاسيكية (الشرق القديم)

وفي السنوات الأخيرة- وبعد أن زادت المصالح التجارية- افتُتحت كراسي ومراكز لدراسات الشرق الأوسط

لكنّ الدراسات الأكاديمية لا علاقة لها بالأجواء والبيئات الشعبية، ولا تُنشرُ كتب الأكاديميين في طبعاتٍ شعبية• ولذلك فقد تبنت الأوساطُ الإعلامية الإسكندنافية ما وردَ ويردُ في الإعلام العالمي، وبخاصةٍ الأميركي، عن أحداث العنف الإسلامي، واهتمت بما تنشره الصحافة الفرنسية سواءٌ لجهة القرف من المهاجرين أو القرف من الحجاب الإسلامي

والمعروف أنّ الإسلاميين على الخصوص يصرّحون بالعودة إلى الأصول الأولى من قرآنٍ وسنةٍ نبويةٍ وخلافةٍ راشدة• ولهذا فقد وقع اختيار المخاصمين للإسلام في أوروبا وأميركا على تلك الأُصول بالذات لاكتشاف جذور العنف الإسلامي، وجذور الغرابة الإسلامية

أما العربُ والمسلمون الآخرون؛ فإنّ تصاعُدَ حدّة إحساسهم بالهوية والخصوصية، رفعت لديهم إلى مستوى الرمز المتعلق بشدةٍ بالكرامة الشخصية والجماعية ثلاثة أمور: القرآن والنبي وحجاب المرأة

وهذا معنى مشكلة الحجاب في فرنسا التي بدأها الفرنسيون بالإساءة بدون داع

ومعنى المشكلة مع سلمان رشدي

ومعنى اهتمام المعتقلين بغوانتانامو (ليس بمعاناتهم في السجن)، بل بأنّ الجنود الأميركيين أهانوا المصاحف التي كانت بحوزتهم

ما عاد القولُ ممكناً أنّ الصراع ليس ثقافياً بل هو اقتصاديٌّ وسياسيٌّ لقد صار في السنوات الأخيرة على الأقلّ صراعاً ثقافياً بلغ هذه الأيام أبعاداً رمزية، إذ فاقمت منه تأثيرات هجمات 11 سبتمبر

الأوروبيون ليسوا مستعدين (في أكثرهم) لتفهم اختلافنا وتفهُّم إحساسنا العامّ بالمهانة والانجراح• ونحن لسنا مستعدّين لفهم أسباب رفض اختلافنا، وإعراضهم عنا وتعمدهم الإساءة إلى شعائرنا ورموزنا الدينية والثقافية

ولا حول ولا قوة إلاّ بالل

المصدر: http://www.hewaraat.com/drasat/?reports=%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك