حوار الحضارات

طلال بن عبدالعزيز آل سعود



بعد انتهاء الحرب الباردة التي كانت تلقي بظلالها على كل العلاقات الدولية لسكان المعمورة، اختلفت الرؤى والتصورات بشأن الحقبة الجديدة في تاريخ الإنسانية، وكان في هذه النظرية نذير لم يلبث أن تحول إلى كابوس بفعل الأحداث المتلاحقة التي ازدحم بها سنوات أواخر الألفية الماضية وبدايات الألفية الجديدة، وقد جعلت هذه الأحداث الصدام الثقافي بين الغرب والعالم الإسلاميمطروحاً بشكل جدي. فانطلقت من الشرق والغرب أصوات تنادي بحوار الحضارات، لتدارك خطر الصدام. وبادرنا عقب هجمات 2001 في واشنطن ونيويورك بالدعوة إلى تطوير وتفعيل حوارثقافي عربي-أمريكي يتسع نطاقه فيما بعد.

ولقيت دعوات الحوار الثقافي أو حوار الحضارات رواجا كبيرا بفعل الواقع الإعلامي الجديد في ظل ثورة الاتصالات. غير أن تواصل الإرهاب الأعمى وجموح السياسة الأميركية في الحرب عليه، أضعفا قدرة الحوار والمتحاورين على تحقيق نتائج ملموسة. فالإرهاب يرسم صورة للعرب والمسلمين في الغرب، وجموح السياسة الأميركية يؤدي إلى كراهية هؤلاء للغرب عموماً والولايات المتحدة خصوصاً.

ولذلك أصبح على الشعوب العربية والمسلمة بلورة واقع الحوار بما نملكه من إرث حضاري فيه أروع الأمثلة على التفاعل الإنساني مع الشعوب الأخرى، وبما عليه معظمنا من حب للعيش بسلام مع الآخرين، وبما نحلم به من واقع إنساني يسوده التفاهم والتواصل الإيجابي.

العالم اليوم ليس كالأمس، وإن كنا في أمسنا نبذل الجهد في سبيل الحوار والتواصل، فعلينا مضاعفة الجهود، لأن ما يدعو للخصام والصدام خطير وإن كان يفتقد المشروعية الإنسانية، وما يدعو للتعاضد والتحاور يكون هشا طالما لم يستقر في النفوس، وقد سبق للأمم المتحدة أن تبنت رؤية حاذقة علينا النظر فيها مليا، وهي أن الحرب والسلم إنما ينشآن في النفوس قبل أن يتحولا إلى واقع، ولا يمكن للنفوس أن تتفاهم بالتناسي أو تأجيل أسباب الافتراق، لأنها تتحول إلى قنابل موقوتة قد تنفجر في أي لحظة وتحيل كل ما بنيناه إلى دمار، إنما النفوس تتفاهم وتتعارف بالتفهم والتقبل والتعارف، ولذلك ما أحرانا اليوم بالتعارف لأكثر من سبب، فهو استجابة للأمر الإلهي: (إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وهو مطلبمعرفي وعلمي للتغلب على الجهل بالآخرين وكيف يفكرون ويعملون، وهو أيضا تفاعل مع الحاضر وتخطيط للمستقبل.

بالرغم من كثرة المنادين بحوار الحضارات، مازال تأثيرهم خافتا في ضجيج الإرادات القوية التي تنزع نحو السيطرة والهيمنة، والتحكم بمصائر الشعوب وتوجيه ثقافاتها، ومع زيادة الإحساس بحاجة عالمنا إلى السلام سيكون صوت الحوار أقوى، وخاصة أن العصر المعلوماتي الجديد يغير الخريطة المعرفية التقليدية، وينتقل بالإنسانية نحو مرحلة الانتشار المعرفي الشامل. والشعوب تنزع نحو وعي بمسائل الصدام والحوار، وباتت أكثر قدرة للنظر في المآلات التاريخية لكل منهما، فتجارب الماضي وعصارة ما تناهى إلينا من فكر إنساني وإرهاصات عالم نعيشه وندركأهواله في ظل الصدام، وآماله في ظل الحوار، كل هذه الأمور وغيرها الكثير سيكون خير معين للاستغراق في ثقافة الحوار والسلم، ونبذ ثقافة الصدام والعنف، ولعل الدور الفكري يكمن في إتاحة أرضية تبنى عليها ثقافة الحوار.

مع كل بلاغات وحماسيات خطاب الصدام والحروب، تبدو لنا دعوات الحوار أكثر جدارة وإمكانية للاستمرار والإبداع، وخاصة مع ما نشهده من ثمار لكل محاولة حوار تنعكس على أطرافها. والأمنية العزيزة باتت قريبة.

المصدر: http://www.hewaraat.com/drasat/?reports=%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك