لغة العلم العربية وتحديات البقاء الحضاري

 د. أحمد فؤاد باشا

يبدو أننا بحاجة ماسة دائماً إلى من يذكرنا بالملامح الأساسية، والقسمات الرئيسة، والمعالم المميزة، والمميزة، لأمتنا العربية الإسلامية.. فأهم هذه الملامح والقسمات والمعالم ثلاثية؛ عناصرها العقيدة الإسلامية الغراء، واللغة العربية الحنيفة الشريفة، والرصيد الحضاري القائم على العلم والعمران.. ومن هذه الثلاثية المتضافرة والمتلاحمة تتشكل هوية الأمة، ويتكون جوهر ثقافتها، ويعلو بناء حضارتها، خصوصاً إذا ما تدثرت بهدف إنساني أسمى يستحثها ويدفعها، ويرشد أداءها لأمانة الاستخلاف، واتباعها لصراط الله المستقيم.

فاللغة العربية إذن هي واسطة العقد في هذه الثلاثية الفريدة، والمتفردة في تاريخ الحضارة البشرية، تكتسب شرفها من علاقتها بالقرآن الكريم، وبالدين الإسلامي الخاتم، وأيضاً من حيث إنها لغة الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم. قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (سورة الشعراء: 192 – 195). كما تستمد اللغة العربية دوامها وبقاءها من حيث إنها بمثابة الوعاء الذي صبت فيه كلمات الذكر الحكيم الذي وعد الله سبحانه وتعالى بحفظه، وحفظه يحفظها معه، في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (سورة الحجر: 9). فقدر العربية، بهذا الوعد الإلهي، أنها لغة صالحة لتكون لغة العالمين، صلاح الإسلام ليكون ديناً للعالمين، وقد حفظها القرآن الكريم قوية حية في النفوس، على الرغم من الوهن الذي أصاب أهلها طوال عصور التراجع والانحسار ولن يطرأ عليها ما يخلع عنها ثوب التميز الذي كساها به الإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وسوف تبقى، كما كانت، بمثابة السدي واللحمة معاً في نسيج الوعي والتفكير عند الناطقين بها.

لهذا فإن الحديث عن تحديات البقاء لا يكون –فيما نرى– عن بقاء اللغة العربية ذاتها، وإنما يكون عن بقاء أبنائها إما أحياء مشاركين مع ركب المتقدمين، وإما أمواتاً في عالم المتفرجين والمتخلفين.. وهذا مرتبط بقدرة أهلها على تنميتها وتطويرها، حيث يسعى أعداؤهم إلى عزلها عن ميادين العلوم والمعارف المتجددة، بحجة أنها غير قادرة على مجاراة طوفان المصطلحات التي تفرزها حضارة العصر بلغات غربية وشرقية.

ودراستنا الحالية تحاول أن تذكر من لا يعرف بلغة العلم العربية في عصر الازدهار الإسلامي، ثم تعرض لبعض الخطوات الإجرائية التي تسهم في تنمية اللغة العربية لتصبح، كما كانت، لغة علم عالمية.

لغة العلم العربية في عصر الازدهار الإسلامي

إن العلم في حد ذاته، بمحتواه المعرفي من معلومات ومقولات وقوانين ونظريات يشكل أساس الثقافة العلمية وجوهرها. ولقد فتحت اللغة العربية صدرها لتراث الإنسانية، وانتشرت مع انتشار الإسلام في جُلّ الجزء المعمور من الأرض بطريق المدنية والتنوير، وكان في هذا دليل قوتها وأصالتها وقدرتها على استيعاب مصطلحات التقدم المتجددة والمتزايدة، فأصبحت لغة عالمية تتسع للتعبير عن دقائق العلوم والتقنية، حتى أن العالم والفيلسوف الإنجليزي (روجر بيكون) R. Bacon في القرن الثالث عشر الميلادي كان يعجب ممن يريد أن يبحث في العلم والفلسفة وهو لا يعرف اللغة العربية. كما أنه اعترف بأن المؤلفات العربية كانت مصدر العلوم في عصره، وأن كتابات أرسطو لم تفهم ولم تلق رواجاً في الغرب إلى أن أوضحتها كتابات الكندي وابن سينا وابن رشد وغيرهم.

وسجل الأستاذ (رسل) G. A. Russell من معهد (ولكوم) لتاريخ العلوم في معجم لتاريخ العلوم (1981) المعالم الأساسية للعلم العربي، ثم قال: كانت اللغة العربية هي أداة هذا النشاط العلمي كله. فلما كانت اللغة العربية هي لغة القرآن، أصبح لها أهمية خاصة في الإسلام، بيد أن طبيعة اللغة العربية نفسها هي التي قامت بالدور الحاسم، فمرونتها الرائعة قد مكنت المترجمين من صوغ مفردات محكمة دقيقة للمصطلحات العلمية والتقنية أو ابتكارها. وهكذا اتُّخذت لغة الشعر اللغةَ العالمية للعلم والحضارة. وهذه الإشارة إلى عالمية اللغة العربية كلغة علم وتقنية لفتة بارعة إلى فضل لها يؤكده المحققون من مؤرخي العلم، ويغيب عن بال الكثيرين.

وجاء في موسوعة عن العلم العربي صدرت في لندن عام 1996م ما ترجمته: (كانت اللغة العربية لغة العلم من القرن التاسع حتى نهاية القرن الحادي عشر (الميلادي)، بمعنى أنها كانت اللغة العالمية لعلماء المسلمين من سمرقند إلى غرناطة، أياً كانت لغاتهم الأصلية، وبمعنى أن الحضارة العربية كانت مستودع العلم الكلاسيكي والمبتكرات العلمية المعاصرة في ذلك الزمان). ولنا تحفظ على مدى الزمن الوارد في هذه الشهادة، فكثير من مؤرخي العلم والحضارة يبدأونه من القرن الثامن ويمدونه حتى نهاية القرن الخامس عشر.

لقد أظهرت الدراسات التحليلية والتركيبة للّغة العلمية أن مسيرة المصطلح العلمي في تاريخ العربية تدين لجهود حنين بن إسحق وأبي بكر الرازي وأبي عبد الله الخوارزمي والشيخ الرئيس ابن سينا وغيرهم. وذلك بفضل أعمالهم العلمية التي اقتحموا بصياغتها العربية علوم الحضارة آنذاك، مع اختلاف ينابيعها من هندية إلى سريانية إلى يونانية إلى فارسية.

وأظهرت تلك التجربة الأولى للعلم عندما تكلم بالعربية أن اللغة العربية قادرة على التوسع والاغتناء واستيعاب المصطلحات والتعابير العلمية الجديدة، وفي إشارة إلى هذه التجربة تقول المستشرقة الألمانية المعاصرة (زيجريدهونكه) في كتابها (شمس العرب تسطع على الغرب): (لقد أضحت العربية لغة العلماء، بل لغة الشعوب التي دخلها الإسلام، وكانت لغة العلم وحدها، لا تنازعها تلك المكانة السامية أي لغة أخرى. لقد استطاعت العربية استيعاب جميع العلوم التي بلغتها الحضارات التي سبقتها - مضيفة إليها علوماً جديدة بمصطلحات ومفاهيم جديدة، وبها كانت تؤلف الكتب، ويتحدث العلماء ويديرون الحوارات فيما بينهم مهما اختلفت أصولهم...) ثم تواصل حديثها قائلة: (ليست اللغة ثوباً نرتديه اليوم لنخلعه غداً، لقد وجدت العربية تجاوباً من الجماعات، وامتزجت بهم وطبعتهم بطابعهم، فكوّنت تفكيرهم ومداركهم، وشكّلت قيمهم وثقافتهم، وطبعت حياتهم المادية والعقلية فأعطت للأجناس المختلفة في القارات الثلاث وجهاً واحداً مميزاً.. ومن ذا الذي يريد أن يخرج على لغة الجماعة؟!).

وفي ضوء هذا العرض الموجز لعالم تكلم بالعربية عندما تكلم العلم بالعربية، انتشرت الثقافة العلمية في عصور الازدهار الإسلامي من خلال المصادر التراثية العامة والمتخصصة على حد سواء، ولا بأس من تقديم نماذج مما كتب علماؤنا الأقدمون:

1 - في مجال العلوم الفيزيائية، سبق الحسن بن أحمد الهمداني (ت حوالي 336ﻫـ)، في كتابه (الجوهرتين العتيقتين)، إلى تقديم أول حقيقة علمية عن الجاذبية الأرضية عندما أكد حركة الأرض ودورانها حول نفسها، ورد على المعتقدين بأن الأرض لو دارت لطارت من فوق سطحها الأحجار واقتلعت الأشجار، فأوضح لهم أن الأرض تجذب ما فوقها نحو مركزها، وذلك بنص قوله: (........ فمن كان تحتها -أي الأرض- فهو في الثبات في قامته كمن فوقها، ومسقطه وقدمه إلى سطحها الأسفل كمسقطه إلى سطحها الأعلى، وكثبات قدمه عليه، فهي -أي الأرض- بمنزلة حجر المغناطيس الذي تجذب قواه الحديد إلى كل جانب. فأما ما كان فوقه فإن قوته وقوة الأرض يجتمعان على جذبه، وما دار به فالأرض أغلب بالجذب).

2 - وفي مجال علم شكل الأرض، أو الجيومورفولوجيا، أحد العلوم الجيولوجية Geosciences، يحدد أبو الريحان البيروني، الذي صنف جُلّ مؤلفاته بالعربية، وهو فارسي، ويؤثر عنه قوله: (إن الهجو بالعربية أحب إليّ من المدح بالفارسية)، يحدد مفهوماً علمياً أساسياً في تفكيره، وهو أن الأرض تتعاقب عليها الأحداث منذ أزمنة وعصور طويلة، وأن ما ينشأ عن هذه الأحداث من تغيرات في سطح الأرض يحتاج إلى مدد زمنية طويلة، فيسبق بذلك إلى القول بنظرية الانتظام أو الوتيرة الواحدة Uniformitarianism التي نسبها المؤرخون إلى العالم الإسكتلندي (جيمس هاتون) J. Hutton في عام 1785م، والتي تفسر حدوث تغيرات سطح الأرض على أساس أن (الحاضر هو مفتاح الماضي). ويطبق البيروني هذه النظرية بكل وضوح في صياغته لمبادئ النظرية الجيومورفولوجية العامة على أساس قوى البناء والهدم ومفهوم توازن الكرة الأرضية، فيقول شارحاً ومشبهاً تطور تضاريس الأرض بمراحل النشوء والشباب والشيخوخة، وطارحاً من خلال ذلك، وفق منهج تجريبي استردادي رصين ورائد، أفكاراً غير مسبوقة عن تكون الصخور الرسوبية الفتاتية (الحطامية)، وتصنيفها بحسب حجومها إلى الحصى والرمال والتراب، وتفسير الطريقة التي تؤدي إلى استدارة الحبيبات الفتاتية والحصى، وبيان العلاقة بين حجمها وبعد المصدر الذي نشأت منه، وهي موضوعات يعالجها علم الرسوبيات الحديث، يقول هذا كله وغيره بلغة عربية فصيحة:

ولا نعلم من أحوالها (أي الأرض) إلا ما نشاهد من الآثار التي تحتاج في حصولها إلى مدد طويلة، وإن تناهت في الطرفين، كالجبال الشامخة المتركبة من الرضراض (الحصى الصغار وفتات الحجر) الملس، المختلفة الألوان، المؤتلفة بالطين والرمل المتحجرين عليها. فإن من تأمل الأمر من وجهه، وأتاه من بابه، علم أن الرضراض والحصى هي حجارة تنكسر من الجبال بالانصداع والانصدام، ثم يكثر عليها جري الماء وهبوب الرياح، ويدوم احتكاكها فتبلى، ويأخذ البلى فيها من جهة زواياها وحروفها حتى يذهب بها فتدملكها (أي تملسها وتدورها)، وأن الفتات التي تتميز عنها هي الرمال، ثم التراب.

وإن ذلك الرضراض لما اجتمع في مسايل الأودية حتى انكسبت بها وتخللها الرمال والتراب فانعجنت بها، واندفنت فيها، وعلتها السيول فصارت في القرار والعمق، بعد أن كانت من وجه الأرض فوق، تحجرت بالبرد، لأن تحجر أكثر الجبال في الأعماق بالبرد، ولذلك تذوب الأحجار بتسليط النار (عليها)، فإن ما انعقد بالبرد انحل بالحر، وما انعقد بالحر، انحل بالبرد.

وإذا وجدنا جبلاً متجبلاً من هذه الحجارات الملس، وما أكثره فيما بينها، علمنا أن تكونه على ما وصفناه، وأنه تردد سافلاً مرة وعالياً أخرى، وكل تلك الأحوال بالضرورة ذوات أزمان مديدة غير مضبوطة الكمية، وتحت تغاير غير معلومة الكيفية، ولها تتناوب العمارة على بقاع الأرض، فإن أجزاءها إذا انتقلت من موضع إلى آخر، انتقل معها ثقلها، فاختلف على جوانبها، ولم تكن الأرض لتستقر إلا بكون مركز ثقلها مركز العالم فلزمها أن تسوّي ذلك الاختلاف، ولزم منه أن يكون مركز ثقلها مختلفاً على اختلاف وضع الأجزاء المنتقلة منها، فلم تكن لتثبت أبعاد البقاع عن المركز على مرور الزمان عليها على مقدار واحد، فإذا علت أو أفرط تكابس ما حولها نقصت المياه، وغارت العيون، وعمقت الأودية، وتعذرت العمارة، فانتقل أهلها إلى غيرها، ونسب ذلك الخراب إلى الهرم، وعمارة الخراب إلى النشوء والشباب، ولأجله تصرد جروم، وتجرم صرود (أي تبرد المناطق التي كانت ساخنة، والعكس بالعكس، الصرود هي الأراضي الباردة، والجروم هي الأراضي الحارة).

3 - وفي مجال العلوم الطبية، يشرح أبو القاسم الزهراوي المولود في الأندلس سنة 936م، في كتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف)، بلغة علمية تعليمية، الكثير من العمليات الجراحية والأدوات المستخدمة فيها، فيتحدث مثلاً عن الأورام تحت اللسان قائلاً: (قد يحدث تحت اللسان ورم شبيه بالضفدع الصغير تمنع اللسان عن فعله الطبيعي.. وربما عظم حتى يملأ الفم. والعمل فيه أن يفتح العليل فمه بإزاء الشمس وتنظر من الورم، فإن رأيته كمد اللون وأسود صلباً، ولم يجد له العليل حساً، فلا تعرض له فإنه سرطان، وإن كان مائلاً إلى البياض، فيه رطوبة، فألق فيه الصنارة وشقه بمبضع لطيف من كل جهة، فإن غلبك الدم حين عملك، فضع عليه زاجاً مسحوقاً حتى ينقطع الدم، ثم عد إلى عملك حتى تخرجه بكماله، ثم يتمضمض بالخل والملح، ثم تعالجه بسائر العلاج الموافق لذلك حتى يبرأ إن شاء الله تعالى).

إنه ليخيل إلينا، ونحن نقرأ أو نسمع هذه النصوص التراثية، أننا أمام أساتذة متخصصين كتبوا في العلوم قبل ألف عام بلغة عربية فصيحة، ليس فيها بعد أو غربة عن اللغة التي نكتب بها اليوم، فأسلوبهم لا يكاد يختلف عما نقوله حالياً، اللهم إلا في بعض التعابير التي أضفى عليها التطور معاني جديدة.

خطوات إجرائية نحو تنمية اللغة العلمية العربية

أ- فاقد الشيء لا يعطيه:

1. دونما دخول في مناقشة التحليل الإحصائي لنسبة الأمية الأبجدية وأخواتها في البلدان العربية المختلفة، وبعيداً عن الجدل العقيم الذي يدور بين مدعي الثقافة وأنصاف المفكرين حول قضايا مفتعلة عن قدرة اللغة العربية على تمثيل علوم العصر الحاضر، وكيفية مواكبتها للتيار العلمي الحضاري، في مفرداتها وفي تراكيبها، أرى -توفيراً للوقت والجهد اللذين كثيراً ما نضيعهما سدى، رغم حاجتنا الماسة إليهما- ضرورة البدء في تنفيذ خطوات عملية لا تحتمل التأجيل أو التأخير. وأولى هذه الخطوات تعليم اللغة العربية (الصحيحة) على جميع المستويات، وبخاصة في المؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية والثقافية، التي تتحمل -أكثر من غيرها- مسؤولية إصحاح اللغة العربية، بعد أن كانت -وما تزال- من أهم أسباب ضعفها عند أهلها، وانعزالها عن التفاعل الميداني مع حضارة العصر وثقافاته. على أن يتم تنفيذ هذه الخطوة وفق أسس وضمانات منهجية مدروسة، مع الأخذ في الاعتبار تجارب الماضي ودروسه، وظروف الواقع الراهن.

2. ليس معنى تعليم اللغة العربية (الصحيحة) على جميع المستويات أن نجهل غيرها، فمازالت معرفة اللغات المختلفة هي السبيل إلى استيعاب العلم العالمي المعاصر، واستكناه أسراره، ولا حرج على من يعشق لغته القومية أن يتعلم إلى جوارها لغة أجنبية أو أكثر ليفيد لغته ويزودها بكل مستحدث جديد. وقد كان الأقدمون من علماء هذه الأمة أساتذة الدنيا، يؤلفون، ويدرسون بالعربية ما ينقلونه عن اللغات القديمة التي أجادوا معرفتها والترجمة عنها.

وأهمية هذه الخطوة تنبع من تعدد اللغات الحضارية التي تتبع مراكز القوة والتأثير في العالم المعاصر، وإن كانت اللغة الإنجليزية لا تزال هي المتقدمة بين هذه اللغات، فيما يتعلق بتمثيل المقومات الحضارية، ومن ثم فإن الإلمام الكافي بها وبغيرها يعد -في نظرنا- شرطاً ضرورياً لا يقل أهمية عن واجب الترجمة والتعريب لمختلف فروع العلم والتقنية، ومواصفات المترجم الكفء، تستلزم إجادته التامة للغات التي ينقل منها وإليها، بالإضافة إلى إدراكه الواعي لأبعاد إشكاليات الترجمة العلمية والمعجمة اللغوية التي تكشف عنها الدراسات الأكاديمية المتأنية.

3. غني عن القول أن تعليم اللغة العربية (الصحيحة) بصورة عامة، ومواجهة تغلغل العامية، يحقق أهدافاً غالية يأتي في مقدمتها غرس محبة هذه اللغة الجميلة في قلوب أبنائها، وتحقيق الإفادة الكاملة من وظائفها المختلفة في توثيق الترابط بين أفراد المجتمع الواحد فكرياً ووجدانياً.

ب- تدريس العلوم والتقنية بالعربية:

إن معظم الجامعات العربية، إن لم يكن كلها تقريباً، تقوم بتدريس العلوم الأساسية والتطبيقية بلغة أجنبية (الإنجليزية أو الفرنسية في الأغلب)، بالرغم من أن قوانينها تنص صراحة على أن لغة التدريس هي العربية، وتسمح باللغة الأجنبية كلغة تعليم في ظروف خاصة، وقد انعكس هذا الوضع على مردود الجامعات وأدى إلى انحدار متتابع في مستوى أجيال الخريجين، ترك آثاره السلبية على المسيرة التنموية في مختلف البلدان العربية، ويزيد من استفحال الأزمة واستحكامها عجز مراحل التعليم قبل الجامعي عن أن تقدم للجامعة طالباً مؤهلاً للتعلم باللغة الأجنبية كما يجب، فضلاً عن ضعف إجادته للغة العربية، وانقطاعه عنها طوال سنوات تعليمه العالي.

من ناحية أخرى، يؤدي تعدد المنابع الثقافية لأعضاء هيئة التدريس في الجامعات العربية إلى إضعاف إتقانهم للغة العربية، الأمر الذي أدى بدوره إلى إيجاد مواقف متباينة انعكست سلباً على وضع المناهج وسير الدراسة، ومستوى الخريجين. على أن عامل تعدد المنابع الثقافية يمكن أن يتحول إلى مصدر إثراء في عملية الترجمة والتعريب، بدلاً من أن يكون نقطة ضعف ومصدر تشقق في عملية التدريس.

من هنا تأتي أهمية الدعوة إلى تدريس العلوم والتقنية في الكليات العلمية والتطبيقية باللغة العربية، مع التركيز على الخطوات التالية:

1. ضرورة تدريس اللغة العربية في مختلف الكليات الجامعية والمعاهد العالية بهدف تحقيق الإحاطة الواعية بأساسيات هذه اللغة في إدراك تطبيقي يجعل منها أداة سهلة الاستعمال بالنسبة للأساتذة والطلاب على حد سواء.

وينبغي التركيز على هذه الخطوة لمواجهة سيادة العامية المنتشرة حالياً على حساب الفصحى، ولإعداد أجيال قادرة على توسيع دائرة التعليم تدريجياً بلغة الأم. وهذا يتطلب تبسيط النحو والصرف دون خرق للقواعد والأطر يخرج اللغة عن سلامتها، ويعيقها عن تحقيق غرضها الأساسي في التعبير والتواصل بأسلوب أبسط وأعمق وأغنى. كما يتطلب الأمر انتقاء المحتوى الثقافي المناسب لمقررات اللغة العربية بحيث يخدم اللغة والعملية التعليمية والتربوية معاً، ويبعد عن الأنماط الجامدة، ويستشهد بأمثلة محببة من تاريخ العلوم والثقافة العلمية، في إطار التجديد والتحديث، وترويج المصطلحات الجديدة التي حظيت باتفاق عام ووافقت الذوق السليم.

ولابد أن يرتبط تدريس اللغة العربية عموماً بالتدريب الجيد والمستمر على ضبط الخط والكتابة، وبيان الأخطاء اللغوية والإملائية الشائعة (مثل وضع التاء والهاء في نهاية الكلمة، والهمزة الواقعة في وسط الكلمة، والألف التي تكتب ولا تلفظ أو تلفظ ولا تكتب، وقواعد العدد ومطابقته أو مخالفته للمعدود، وعدم مراعاة عمود اللغة وبنيتها الداخلية وخصائصها الأسلوبية والتعبيرية، وعدم مراعاة علامات الترقيم، وتقسيم الفقرات... إلى آخره).

2. يعزز من تدريس العلوم والتقنية باللغة العربية التوسع التدريجي الذي يبدأ بتدريس مقررين على الأقل في كل فصل دراسي بصورة مرحلية، على أن تخصص نسبة (20-25 %) من الدرجة النهائية لكل مقرر لاعتبارات اللغة والخط والكتابة السليمة، ويخصص الباقي للاعتبارات العلمية. ولا شك أن توسيع دائرة تعليم العلوم بالعربية يساعد على الارتفاع بأداة التعبير، وتحسين اللغة، والتخلص من العامية في شكلها الفج على الأقل. وينبغي أن يقوم بتدريس هذه المقررات من يجيد اللغة العربية من أعضاء هيئة التدريس أو من أهل الاختصاص.

3. ينبغي أن يكون اجتياز امتحان في قواعد النحو والصرف شرطاً لتعيين عضو هيئة التدريس في درجة مدرس.. وأن تعتمد الكتب العلمية المترجمة كعامل مرجح للترقية عند التقدم لدرجتي أستاذ مساعد وأستاذ.

ج - نشر العلم وثقافته بالعربية:

نجح علماء الحضارة الإسلامية في توحيد لغة العلم والحضارة والحياة، وأدى هذا التوحيد اللغوي إلى إزالة الحواجز بين لغة العلماء ولغة الجماهير، فجعل مفاهيم العلم والتقنية ونتائجها متاحة لأبناء المجتمع، للثقافة والتطبيق.. ومن ثم لم يصبح العلم في العصر الذهبي الإسلامي عالمياً فحسب، وإنما أصبح جماهيرياً أيضاً.

وكانت هذه الخطوة نقلة حضارية بعيدة المدى ولم يسبق لها مثيل، ونجد أمثلة عدة لهذه النقلة الحضارية التي تندرج تحت ما نسميه اليوم (الثقافة العلمية للجميع)، منها (كتاب الحيوان) للجاحظ الذي عاش في القرنين الثاني والثالث الهجريين (الثامن والتاسع الميلاديين)، ففي هذه الموسوعة العلمية والأدبية الشاملة حاول أبو عثمان عمرو بن بحر، الملقب بالجاحظ لجحوظ عينيه، أن يقدم خليطاً من المعارف العامة والملاحظات الخاصة، متخذاً من الكون بكل ما فيه برهاناً على ما يقول، وأفاد كثيراً من ثراء اللغة العربية الزاخرة بالألفاظ والتعابير عن الأشياء والألوان والأصوات بجميع هيئاتها وأشكالها ودرجاتها، واستطاع أن يوسع إطار العربية ليشتمل على كثير مما جد على الفكر في عصره، لكن دون تضييق على نفسه، أو على العلم الذي هو بصدده، فما لا يوجد له مقابل في العربية من أسماء أجنبية يضعه بلفظه الأجنبي وحروف عربية، وهو المنهج الذي يتبعه العلماء الآن في عصرنا عند ترجمة المصطلحات العلمية إلى العربية أو تعريبها.

وهناك أيضاً من مؤسسات نشر الثقافة العلمية في العصر الإسلامي جماعة (إخوان الصفا وخلان الوفا) في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) فإذا نحينا الجوانب السياسية والمذهبية، يتضح لنا أن هذه الجماعة كانت بمثابة جمعية علمية تعليمية تثقيفية في المحل الأول، قال عنها مؤرخ العلم (هولميار) E. J. Holmyard إنها واحدة من أقدم الجمعيات العلمية التي تحققنا من وجودها، وإن اهتمامات أعضائها لتتفق كثيراً واهتمامات الذين أقاموا الجمعية الملكية في لندن بعد قرون. ولقد ألف إخوان الصفا رسائلهم الاثنتين والخمسين في مختلف أبواب الفلسفة والعلم لتذيع بين طلاب الثقافة العلمية في عصرهم.

من ناحية أخرى، جاءت (الشروح) في التراث العربي الإسلامي لغاية علمية بحثية تستهدف تعميق العلم وتفريعه وتطويره وتعليله وتحليل أصوله، أو لغاية تعليمية تستهدف تبسيطه وتسهيله وشرح غامضه، أو لنقده وتفنيد الآراء الواردة فيه، وهذا مما يثري الشرح ويجعله أحياناً ذا أهمية علمية وثقافية لا تقل بمكان عن أهمية المخطوط أو الكتاب المشروح، وربما يفوقه شهرة واهتماماً. وأحياناً يكون للشرح شرح أو شروح نتيجة لتوالي الأفكار وتكاثرها. وهناك أيضاً شروح المختصرات ومختصرات الشروح. وكلها تعكس الاهتمام بالعلم وثقافته ونشرهما بلغة عربية صحيحة.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى دور المنظومات العربية في تبسيط العلم ونشر الثقافة العلمية، حيث نجد أن النظم التعليمي قد أسهم كثيراً في تيسير حفظ العلوم والمعارف بوجه عام، وسهولة تمثلها واسترجاعها، فضلاً عن أنه أسهم في أحيان كثيرة في الحفاظ على المعارف ذاتها. وهناك أمثلة عدة لهذه المنظومات، منها ما تفوق عدة أبياتها الألف بيت، مثل أرجوزة في الطب لابن سينا (ت 428ﻫـ/1037م) وتضم 1326 بيتاً، ومنها ما دون الألف بيت، مثل (الأرجوزة الياسمينية في علم الجبر والمقابلة) لابن الياسمين (ت 601ﻫـ/1204م)، ويبلغ عددها 52 بيتاً من بحر الرجز وهي تعرض بصفة أساسية لشرح أصول علم الجبر، واستخراج جذور معادلات الدرجة الثانية بأنواعها المختلفة.

د- تعريب اللغة العلمية ومصطلحاتها:

1. فقه التعريب لغة واصطلاحاً:

- (عرِب)، يعرَب عرَباً: فصُح بعد لكنة. ويقال: عرِب الماء: صفا، فهو عرَب وعرِب، وعرِب النهر ونحوه: كثر ماؤه فهو عارِب.

- (عرُب)، يعرُب عُروبة، وعُروباً، وعَرابةً، وعُروبيةً: فَصُح، ويقال: عُرب لسانه.

- (أعْرَب) فلان: كان فصيحاً في العربية وإن لم يكن من العرب، وأعرب الكلامَ: بينه، وأتى به وفق قواعد النحو، وأعرب الاسم الأعجمي: نطق به على منهاج العرب.

- (عرَّب) الكلام: أوضحه، وعرَّب النص: جعله عربياً، إما بالترجمة، أو الصياغة من الأصل الأجنبي بما يلائم العربية من حيث المتطلبات اللغوية. وعرَّب الاسم الأعجمي: أعربه.

- (تعرَّب)، تشبه بالعرب.

- (استعرَب): صار دخيلاً في العرب وجعل نفسه منهم.

- (التعريب): صبغ الكلمة بصبغة عربية عند نقلها بلفظها الأجنبي إلى العربية، أو إيجاد ما يقابلها في المعنى بالترجمة العربية.

- (المعرَّب): هو اللفظ أو النص الذي عُرِّب بلفظه ومعناه في اللغة التي اقترض منها.

وفي المعنى الاصطلاحي، يقال: عرَّب الإنسانَ، أي رباه التربية العربية وعرفه تقاليدها وقيمها ومفاهمها، بحيث تستحوذ العربية على فكره وقلبه.

وعرَّب التعليمَ، جعله باللغة العربية، والمقصود به التحول عن تعليم المواد التي يدرسها الطلاب باللغات الأجنبية إلى تدريسها باللغة العربية. وقد دلت الدراسات الميدانية الحديثة على أن أصلح لغة للتعليم هي اللغة الأم التي يفكر بها الطلاب، الأمر الذي دفع (اليونسكو) إلى تبني قرارات توجب استعمال اللغة الأم في التعليم مع تعلم لغة حية أخرى تعين الدارس على الاطلاع المستمر والتواصل مع ثقافات العالم.

وعرَّب العلم، وطنه ورسخ جذوره في البيئة العربية باستخدام كافة الوسائل التي تنقل العلم إلى مختلف القطاعات الحياتية عموماً، بحيث تغدو اللغة العلمية العربية جزءاً من ثقافتنا العامة في البيت والمدرسة والمصنع.

والتعريب، عموماً، يصون الهوية، ويقاوم التغريب واستدعاء الأنموذج الغربي الموسوم (بالعولمة)، خاصة وأنه –أي التعريب– لا يعني ضعف مكانة اللغة الآخذة، فالاقتراض يثريها وينمي مفرداتها وتراكيبها.

وقد كان التعريب من أهم أسباب النهضة الحضارية الأولى للمسلمين، بعد أن أثبتت اللغة العربية قدرتها على الاكتساب من لغات البلاد التي فتحوها، وصيغت بها ثقافة إسلامية عربية قوية، نهل منها الغرب واستضاء بنورها في بناء نهضته الحديثة.

ونحن اليوم مطالبون بخوض تجربة مماثلة لتعريب العلوم المعاصرة.

2. نحو مشروع قومي للتعريب:

لقد أضحى أمر التعريب ضرورة من ضرورات النهضة العلمية التي تنشدها الأمة العربية الإسلامية لاستئناف مسيرتها الحضارية مع تحقيق التوازن اللازم بين الوافد والأصيل. فقد أصبح النقل والترجمة بين اللغات المختلفة في عصرنا جزءاً أساسياً من التنظيم الفكري في الدول المتقدمة والدول الناهضة التي تسعى بوعي وإصرار نحو التقدم والرقي ومثل هذه الأعمال الحضارية تحتاج إلى مسح شامل لكل العقبات القائمة والمحتملة لتجديد المتطلبات والإمكانات، تماماً كما يحدث عند التخطيط لمشروع صناعي أو تجاري لضمان الكسب بقدر الإمكان، وتجنب الخسارة.

فهل بلغت أمتنا من الرشد ما يلزمها بإنجاز مشروع قومي للترجمة والتعريب يكون باكورة ثماره (معجم تاريخي للألفاظ الحضارية والمصطلحات العلمية)، يمثل إحدى ضرورات قراءة الذات قراءة واعية من خلال التعرف على التطور الدلالي للألفاظ العربية بعامة، والمصطلحات العلمية والتقنية بخاصة، عبر العصور المتعددة والبيئات المختلفة، مع الاحتفاظ بقواعد اللغة الفصحى وخصائصها، وربط ذلك بمعالم التلاقي والتفاعل بين الثقافات المختلفة؟

وغنى عن القول إن إنجاز مشروع قومي للتعريب، بالمفهوم الشامل، أضخم من قدرات الأفراد ووسائلهم المحدودة، ولابد فيه من الاعتماد على المعالجات الآلية باستخدام أحدث التقنيات، تحقيقاً للحصر الشامل، والاستقراء العلمي الدقيق، في جانب العربية، أو في جانب غيرها من اللغات الحضارية المتفوقة، ليتسنى تحديد المسار العلمي الصحيح، وليمكن تفادي الاحتمالات المعاكسة.

3. مصطلحات علمية أورمتها عربية

أقدار النجوم Magnitudes of stars : تعريف لمقدار الإضاءة النسبية التي تنبعث من نجم ما بالنسبة لمشاهد على سطح الأرض وهي لا تعبر عن الإضاءة الحقيقية له، حيث إن النجوم البعيدة تكون خافتة رغم إضاءتها القوية.

الإكسير Alexir : مصطلح ينتمي إلى الكيمياء القديمة (السيمياء أو الصنعة) ويقصد به المادة التي تحول المعادن الرخيصة كالرصاص إلى معادن نفيسة كالذهب والفضة، أو الدواء الذي كان يعتقد أنه يشفي جميع العلل. 

البسيطة Al-Basita : آلة فلكية للقياس والرصد باستخدام البوصلة لتحديد (محاريب) المساجد في البلدان المختلفة.

الجبر والمقابلة Algebra : علم أسسه محمد بن موسى الخوارزمي، وفيه (الجبر) يعني إزالة الحدود السالبة من طرفي المعادلة الرياضية، (والمقابلة) تعني تبسيط المعادلة بحذف الحدود المشتركة بين طرفيها.

التعمية واستخراج المعمي Cryptology : مصطلح يناظر في عصرنا مصطلح (الشفرة وفك الشفرة)، وكان الكندي صاحب أول رسالة في هذا العلم يعود تأليفها إلى النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، وعرف القلقشندي التعمية بأنها (الكتابة بقلم اصطلح عليه المرسل والمرسل إليه، لا يعرفه غيرهما ممن لعله يقف عليه).

الجوهر الفرد Atom : هو الذرة، أو الجزء الذي لا يتجزأ، أو أصغر قدر من عنصر ما يشارك في التفاعلات الكيميائية.

المكان Space : هو الفضاء ثلاثي الأبعاد، أو الحيز الذي لو قدر لجرم ما لشغله، وكان ما يماس أعلاه متمكناً منه. ولعلماء الحضارة الإسلامية أقوال في المكان لعل أشهرها قول الحسن بن الهيثم في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).

خلاصة

إن اللغة، أي لغة، من أهم معالم الوجود الحضاري، بل ومن أمضى أسلحته في الوقت نفسه، وتحديات بقاء اللغة العربية لا تواجه اللغة في حد ذاتها بقدر ما تواجه أصحابها المطالبين بأن يبذلوا قصارى جهدهم لمواجهة تحديات بقائهم وارتفاعهم إلى مستوى العصر حتى تبقى لغتهم حية قادرة على الوفاء باحتياجات العصر، فالأمم العريقة لا تنهض ولا ترقى بغير لغاتها. واستقراء التاريخ وتحليل الواقع المتردي لحالة العلم والتعليم يفرضان على كل عاقل أن يعمل على تخليص العربية من القيود المفروضة، وأن يعلم أن الترجمة هي إحدى صور التفاعل بين الثقافات، أخذاً وعطاءً، وأن ثمار هذا التفاعل هو ما تنعم به البشرية اليوم.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?id=4258&Archive...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك