الضرورات النظرية للحضارة الإسلامية

أمحمد حسين متولي

 

يشهد ذهن الإنسان في كل عصر تبلور مفاهيم جديدة. بيد أن المفاهيم والألفاظ تقترن على الدوام بخصوصيتين رئيستين، وإن مفهوم الحضارة لا يفتقر إلى حظه منهما.

1 ـ يتبلوران في مسار التاريخ، ويتبعان الظروف الزمنية لولادتهما.

في الحقيقة قد يتمّ بيان مفهوم ما في فترة من التاريخ، دون أن يكون له قبل ذلك أيّ موضوعية في تاريخ البشرية. فمثلاً في سياق التحوّل الصناعي في أوروبا بعد الثورة الفرنسية، وقيام النظام السياسي والتحوّل التاريخي الذي شهده المجتمع الغربي، ظهرت مفاهيم جديدة، من قبيل: الحرية، وحرية التعبير، وحقوق الإنسان، هي أمور لم تكن سائدة في الثقافة السياسية للمجتمع الغربي. وفي البين يعتبر مفهوم “الحضارة” مفهوماً جديداً ومتأخراً تماماً، فهو مشترك لفظي قد يستوعب العديد من المفاهيم.

في بداية الأمر تمّ بيان هذا المفهوم في القرون الإسلامية الوسيطة من قبل المفكرين الإسلاميين، ومن بينهم: ابن خلدون والفارابي، بمعنى صيرورة الإنسان كائناً اجتماعياً ومدنياً. وأما في الأزمنة اللاحقة وفي القرن التاسع عشر للميلاد، فقد عمد المفكرون الغربيون إلى تعريف الحضارة من زاوية أخرى. فالحضارة من وجهة نظر أمثال: تايلور وويل ديورانت وهنري لوكاست تعني سراية المتبنيات والمعتقدات القلبية إلى العينية والخارج. بمعنى أنه عندما تتحول المعتقدات إلى مؤسسات اجتماعية، تكون الحضارة قد تبلورت.

وفي معنى آخر تمّ تعريف الحضارة بالسكن في المدن. وبطبيعة الحال فإن استيطان المدن في كلام ابن خلدون يختلف عن استيطان المدن بمعنى التحضر. حيث أنه يعرّف التحضر في إطار القدرة على إقامة التواصل، وليس في إطار السكن في المدن.

2 ـ تتبلور المفاهيم ضمن بنية ونظام معرفي خاص

وهذا يعني أن كل مفهوم إنما يظهر في إطار معرفي خاص. وعليه لا بدّ لكي نفهمه بشكل أفضل من الالتفات إلى الدعامة المعنوية لذلك المفهوم والمتمثّلة بالنظام المعرفي. يبدو أننا لا نمتلك فهماً صحيحاً لجذور المفاهيم، ونرى المفاهيم مطلقة وصالحة لكل زمان ومكان. وإن مفاهيم أخرى لا تحمل معانيها لأننا مصابون بالخرق المعرفي. فعلى سبيل المثال يتم استعمال مفاهيم من قبيل: الديمقراطية الإسلامية، والأيديولوجية الإسلامية، أو حتى الحضارة الإسلامية، دون الالتفات إلى الأنظمة المعرفية. إن مفهوم الديمقراطية في العالم الحديث قد تبلور ضمن نظام معرفي خاص، وقام المفهوم الإسلامي ضمن عالم ونظام معرفي آخر. وعلى حدّ تعبير منظرين من أمثال: فوكو و سوسور، إن المفاهيم في حدّ ذاتها ليست خلبية، وإنما تحصل على معانيها الرئيسة والخاصة في عالمها المرتبط بها، ولربما أدى بنا عدم مراعات هذه الموارد إلى تكوين فهم خاطئ عن المفاهيم المنشودة، وبطبيعة الحال سيؤدّي بنا ذلك إلى الوقوع في مغالطات معرفية، وتبعاً لذلك نقع في مغالطات علمية.

وعليه لكي ندرك مفهوم الحضارة بشكل أفضل، لا بد من ملاحظة هاتين المقولتين ضمن مفهوم الحضارة، ليصار بعد ذلك إلى التفكير بشأن مفهوم الحضارة الإسلامية.

خلاصة الجلسة الثانية للضرورات النظرية للحضارة الإسلامية

هناك بين الآراء المختلفة في فلسفة التاريخ، وتأثيرها على مفهوم الحضارة ارتباط وثيق وهام. ومن الواضح جدّاً أن المهد الرئيس والهام الذي يستطيع توصيف مفاهيم من قبيل الحضارة، ويمكنه أن يبيّنه لا للأنظار فحسب، بل للأذهان أيضاً، هو منشأ ومصدر هذه المفاهيم. ومن هذه الناحية هناك في هذا الشأن آراء ونظريات مختلفة حول فلسفة التاريخ.

وقد عمد كارل ماركس الفيلسوف والمنظر الألماني إلى تفسير التاريخ على أساس الديالكتيك والتضاد الطبقي. وبطبيعة الحال فإن المدارس والأحزاب الأخرى التي تبلورت ضمن الإطار الفكري للماركسية، من قبيل: مدرسة فرانكفورت، أو الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، تعمل على التحليل التاريخي في ذات السياق مع اختلاف يسير. بمعنى أنه من خلال توظيف أدوات الانتاج من قبل أصحاب السلطة، وقيام العلاقة الانتاجية بين الآلة والعمال تحصل الطبقة الاجتماعية الأولى على أرباح هائلة، وبالتالي يحصل تضاد طبقي كبير بين هاتين الطبقتين في المجتمع.

طبقاً لتحليل هؤلاء يسير التاريخ قدماً من خلال هذا التناقض الديالكتيكي، لينتهي الأمر بعد مدّة بسبب إفراط الطبقات العليا من المجتمع في الاستهلاك إلى ثورة الطبقات الاجتماعية الدنيا، وبالتالي سنشهد في نهاية التاريخ انتصاراً للطبقة العمالية، حيث ستحكم المجتمع. إن هذه الرؤية إلى التحوّل والتطوّر التاريخي مدينة في أطروحتها لأدوات الانتاج، وانغماس المجتمع في النزعة الصناعية، وإن الحضارة المثالية المنشودة لهذه النظرية هو المجتمع الإشتراكي الذي يتمّ فيه تقسيم الثروات بين الجميع بشكل عادل، ولن تسعى طبقة إلى استغلال طبقة أخرى أبداً.

وفي المقابل نشهد آراء الليبرالية التي تتناسب مع النظريات الرأسمالية، وتذهب هذه الرؤية إلى القول بأن الإنسان في بداية أمره كان قرداً. طبقاً لهذا التحليل كان الإنسان في مستهل التاريخ مجرد قرد لا أكثر، وبفضل طفرة وراثية أصبح حيواناً عاقلاً (إنساناً)، وبالتدريج آثر الحياة المدنية على السكن في الكهوف، ثم انتقل إلى بناء المدن والمجتمعات.

وبطبيعة الحال فإن وصف الحضارة في الغرب ـ الذي كان في الماضي بمعنى التطوّر ـ كذلك رهن بهذا التوصيف التاريخي. وعليه فإن المسار التاريخي للتطوّر والتكامل من وجهة نظر هذه الرؤية تقوم على قاعدة نزوع الإنسان نحو الحياة الاجتماعية بشكل أكثر، وبطبيعة الحال فإن المجتمع المفتقر إلى هذه الخصوصية يعتبر من الناحية التاريخية مجتمعاً متوحشاً ومتخلفاً وفاقداً للحضارة.

وأما في الرؤية الإسلامية فالتاريخ يقوم على محور الأنبياء. إن تاريخ حياة الإنسان من زاوية القرآن الكريم مقرونة بالمبدأ والمسار والنهاية الهادفة. إلا أن الذي أدى إلى بروز وشمولية هذا النوع من النظرة إلى التاريخ، هو الاهتمام بالموارد الآتية:

1 ـ يرى الإسلام أن نهاية التاريخ سوف تتوّج بحكومة العدل الإلهي. قال تعالى:

ـ { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ }[1].

ـ { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }[2].

ـ { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }[3].

2 ـ إن التاريخ لم يقم على الصدفة أو الديالكتيك والصراع الطبقي، بل هو مقولة تقوم على أسس وضوابط وقوانين ثابتة على أساس النسب الاجتماعية والإلهية. قال تعالى:

ـ { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }[4].

ـ { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }[5].

3 ـ إن التاريخ حركة يقوم بها الناس أنفسهم، وذلك بطبيعة الحال بهداية من ولي المجتمع، ويعملون على بناء التاريخ من خلال احتدام المواجهة بين الحق والباطل. قال تعالى:

ـ { قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }[6].

ـ { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ }[7].

وعليه فقد اتضح أن التاريخ يسير ضمن حركة تكاملية، ولكن هل المسار التكاملي للتاريخ يسير على خط أفقي أم عمودي؟!

إن الوجه المشترك للتفكيرين الأولين هو القول بأن التاريخ يسير نحو التكامل أفقياً، وهذه النتيجة ليست سوى الرؤية الآلية والمادية تجاه العالم والتاريخ. وأما من الزاوية الإسلامية فإن التاريخ يسير نحو التكامل عمودياً، حيث تلعب الولاية دوراً أساسياً وأصيلاً في هذا المسار التكاملي للتاريخ. تبدأ هذه السلسلة من الله سبحانه وتعالى، لتدخل في صُلب الحياة الاجتماعية للأفراد، وبالتالي يتمّ اختيار بعض الأفراد بما يتناسب والعلاقة بين الناس والمجتمع لقيادة مسار تكامل الناس في التاريخ.

ومن حيث شأن الإمام والأنبياء الإلهيين كان الوليّ ولا يزال يقوم على هداية المجتمع عبر التاريخ في إطار مقام الولاية الإلهية، وإدارة حركته التاريخية نحو الكمال.

خلاصة الجلسة الثالثة للضرورات النظرية للحضارة الإسلامية

لقد أن تعرّفنا على مفهوم الحضارة، وبيان النسبة بين الحضارة وفلسفة التاريخ، وكيف تكتسب الحضارة مفهومها ومعناها في إطار التاريخ. بيد أن المسألة الكامنة هنا هي أن للعالم الحاضر نسبة وثيقة مع ذلك التاريخ أيضاً.

إن من بين منعطفات غفلة الناس في تحليل العلوم والتاريخ، مقولة العالَم الحضوري وعلى حد تعبير هيدغر العلم العملي للناس. إن بحثنا النظري يبدأ من أن العلم والحضارة يتبلوران في معرض تلبية الحاجات الطبيعية للمجتمع. وهذا يعني أن العلم لا يولد ولادة قيصرية، بل إن للعلم ولادته وحالته الطبيعية، ولا يولد من خلال الأوامر والنواهي. إن العلم يتبلور بشكل متطابق مع حاجات المجتمع. بمعنى أن لكل مجتمع إدراك لعالم الإنسان والمعارف، وهذا يؤدّي به إلى تكوين فهم للعالم، وإن هذا الفهم يخلق له احتياجات. ولذلك فمن السذاجة أن نتصوّر أن لجميع المجتمعات احتياجات ثابتة. وعلى هذا الأساس لا يمكن نقل العلم من مجتمع إلى مجتمع آخر، إلا إذا انتقلت حاجات هذا المجتمع إلى مجتمع آخر.

تبلور العلم طبقاً لمعادلة الاحتياجات

إن الأمم السابقة كانت تفهم العالم بشكل باطني، وتنظر إلى الإنسان بوصفه كائناً ذا بعدين وله عوالم غيبية، وكان لهم من خلال هذه النظرة رؤية هدفية خاصة بالنسبة إلى هذا العالم، وكانت احتياجاتهم لذلك مختلفة. والعلم يتبلور طبقاً لمنسوب هذه الاحتياجات. واليوم اكتسبت الأدوات المادية قوّة، من قبيل: القدرة على التواصل بين المدن والبلدان، وإن هذه القدرة معلولة لنوع من الرؤية إلى العالم تقدم لنا جواباً علمياً خاصاً. وفي الماضي كان الناس يستشعرون احتياجات أخرى. من قبيل: حاجة الاتصال بعالم الغيب، وكانت الحاجة إلى الاتصال بعالم الغيب تدعوهم إلى التوجّه ناحية العلوم الدينية والمعنوية. من هنا كانت لديهم قدرات معنوية كبيرة أيضاً.

نموذج هابرماس:

لقد بيّن هابرماس هذه المسألة على النحو الآتي: عندما يقوم النظام الرأسمالي، يغدو الاستهلاك هو المهم، بمعنى أن جوهر النظام الرأسمالي هو الاستهلاك، وإن زيادة الاستهلاك تقتضي كثرة الانتاج، وكثرة الانتاج تحتاج إلى مزيد من الأعمال الدعائية، وفي هذا الإطار تلعب السرعة دوراً أساسياً. وعندما يدخل عامل السرعة نحصل على عالم واسع من شبكات التواصل، من قبيل: أجهزة الهواتف المحمولة والسيارات والطائرات وما إلى ذلك. يقول هابرماس: إن أقل تصميم للوسائل المعاصرة إنما يقوم على أساس الالتفات إلى الحاجة وقلة الوقت وإلى السرعة في إنجاز الأعمال.

مقارنة المجتمع التقليدي في العصر الصفوي والمجتمع الراهن:

لنأخذ حقبة زمنية بنظر الاعتبار كان فيها الإيرانيون يعيشون في أطر تقليدية خالصة، وفجأة تدخل المحاصيل والمنتجات الحديثة. يقول تاورنيه: لاحظت كثيراً أن الناس في اصفهان لا يستعملون الساعات، وينظمون أوقاتهم على حركة الشمس، وحتى أواخر العصر الصفوي لم يلجأ أحد إلى استعمال الآلة الكاتبة، حيث كان الاعتقاد السائد يقوم على ضرورة الكتابة بخط يدوي جميل، ومن هنا لم يكن عامل السرعة يشغل هاجساً كبيراً عندهم.

إن القوم إنما يعبّرون عن رغبة إلى علمٍ ما عندما يتم تنظيم المساحة الحضورية لذلك العلم مع تلك الرغبة، وإن جزءاً من تقاعس طلاب الجامعات عندنا في بعض العلوم يعود إلى هذه الأسباب، حيث العلوم لم تنبثق من صُلب حاجاتنا، ولا يستطيع طلاب الجامعات أن يقيموا تواصلاً عاطفياً معها. وعليه فإن توطين العلوم يجب أن يكون متناسباً مع العواطف القلبية والروحية للناس.

ونتيجة ذلك أن الحضارة والعلم يولدان من ثورات القلوب، وليس من رحم التأملات النظرية والحوارات الفلسفية. وإن تحول وثورة القلوب بدورها رهن بالميول القلبية للناس والعهود التي يقطعها الناس مع الوجود. إن الحضارة وأفئدة الناس في حالة من التعاطي المتبادل. بمعنى أن الحضارات تنبثق من الميول والرغبات القلبية للناس في حقل الواقع والعينية، وفي المقابل فإن هذه القلوب تتأثر بدورها بظروف المجتمع والأوضاع الاجتماعية.

خلاصة الجلسة الرابعة للضرورات النظرية للحضارة الإسلامية

لقد عرضنا تعريفات الحضارة، وذكرنا نسبتها إلى فلسفة التاريخ والعالم الحضوري للناس. إن العناصر الأساسية للحضارة تستخرج من ذات تعريف الحضارات، بمعنى أن التعاريف الكثيرة التي كانت لدينا يمكن لنا من خلالها الحصول في الحد الأدنى على خمسة أركان أساسية. بمعنى أننا إذا أردنا أن نتجه ناحية الحضارة الإسلامية، يجب علينا في الحد الأدنى التدبّر في هذه الأركان الخمسة بدقة، وأن نفكر في هذا المحور، ونشرحه بالتفصيل.

الركن الأول: إن لجميع الحضارات منظومة معرفية وفكرية

إن الأديان والمجتمعات التي لا تتمتع بقواعد فكرية مشتركة، لا تمتلك القدرة على الحركة باتجاه بناء الحضارة؛ إذ لا بد للفكر من الاستقرار في المجتمع وأن يكتسب حيثيّة اجتماعية، ليغدو بعد ذلك ظاهرة حضارية. ولذلك يمكن لأهل السنة والشيعة أن يسيروا في هذا الاتجاه. إن المجتمعات التي تبني الحضارات هي تلك التي تمتلك أسساً فكرية بالضرورة، بيد أن الأسس الفكرية إنما يمكن لها أن تتحوّل إلى حضارة إذا تمّ بسطها إلى مستويات الفقه والقانون. إن الدين الذي لا يمتلك فقهاً ولا قانوناً، لا شأن له بإقامة الحضارات. إن الفقه يعني قانون السلوك وبرنامج عمل شامل وجامع. وفي الحقيقة فإن الأديان والمذاهب التي لا تمتلك فقهاً، لا تمتلك القدرة على بناء الحضارة، من هنا لا يمكن للمسيحية أن تبني حضارة، أما اليهود فيستطيعون ذلك؛ لأن لديهم فقهاً. إن المسیحية وإن كانت تشتمل على موضوعات أخلاقية، ولكنها تفتقر إلى الفقه، وعليه فإنها إذا أرادت التدخل في حقل السياسة والاجتماع، وأن يكون لها دور في الساحة الحضارية، وجب عليها الانضواء تحت المظلة اليهودية، ومن هنا يتمّ تكوين الصهيونية المسيحية. وإن العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تكمن في هذه الحقيقة.

الركن الثاني: إن للحضارات أنظمة اجتماعية

إن لجميع الحضارات أنظمة حقوقية واقتصادية وسياسية وثقافية. ولذلك فإن الحضارة إنما تبنى في مجتمع. وفي الحقيقة فإن المجتمع والأنظمة الاجتماعية تمثل شرطاً لازماً، ولكنه ليس كافياً، من هنا لا يمكن القول بأن هناك حضارة، وفي الوقت نفسه ليس هناك مجتمع، ولكن كان هناك مجتمعات ولا يزال هناك مجتمعات تفتقر إلى حضارة.

الركن الثالث: إن الحضارات تنتمي إلى هذا العالم ولها وجود واقعي

إن الحضارة عبارة عن أشياء خارجية يمكن لمسها ورؤيتها، ولها حضور في أنواع العمارة والفن، ولا يمكن حصرها في الذهن كما هو الحالة بالنسبة إلى الثقافة. إن للحضارة حضوراً في أبسط المظاهر الخارجية، مثل: الثياب والبيوت والأزقة والشوارع وما إلى ذلك.

هناك من الفلاسفة المتأثرين بالغرب، من أمثال: الدكتور عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري، من يتصوّر أن الفقه مرتبط بالآخرة فقط. وهناك في المقابل طائفة أخرى من العلماء والمفكرين الذين يرون أن الفقه مرتبط بهذا العالم، وعليه أن يضطلع بتنظيم جميع الأمور في هذه الحياة الدنيا، من قبيل: النظام السياسي والاقتصادي والثقافي. في حين هناك اختلاف بين العلماء بشأن حجم حضور الدين في الحياة الاجتماعية.

كان الفقهاء الشيعة على طول التاريخ وفي مختلف الظروف والشرائط يدركون ظهور إمكانات جديدة، فيقدمون من خلال الرجوع إلى النصوص فهماً جديداً للدين، ولكن بالالتفات إلى الفضاء المغلق الذي فرضته الحكومات في الأزمنة السابقة، لم يكن للعلماء فقهاً سياسياً؛ لأن الخلفاء كانوا ينتمون إلى المذاهب السنية، وكان الكبت هو المهيمن على المناخ السياسي، وفي تلك الظروف لم يكن العلماء يرون ضرورة أن يكون لهم فقه سياسي، فكانوا يقتصرون على كتابة الفقه الذي ينظم سلوك الناس.

فإذا حصل وتمكن فقيه من إسقاط الحاكم وتولى السلطة بدلاً منه، يجب أن يكون لديه فقهاً سياسياً. إن الفقه إنما يكون ناجعاً ويثبت جدوائيته إذا أمكن أن يكون لدينا في حقل السياسة فقهاً سياسياً، وإذا لم يتمكن من ذلك كان فقهاً عديم الجدوى من قبيل المسيحية. وعليه فإن بناء الحضارة يرتبط بطائفة من العلماء تؤمن بأن للفقه فاعلية دنيوية أيضاً.

الركن الرابع: الانسجام بين العناصر الحضارية

إن هذا الأصل يعني تنظيمية العلاقات، وعليه لا يمكن أن يكون جزء من العلاقات غربياً وبعضه إسلامياً. فأن يكون النظام الاقتصادي والمصرفي رأسمالياً، والنظام السياسي إسلامياً وقائماً على أساس ولاية الفقيه، يفضي إلى نظام ثقافي وعلمي وتعليمي يعاني من الثنوية والانتماء إلى مركزين مختلفين لنشر العلم وانتاجه. إن الحوزة والجامعة متعارضين إذ تقدم الحوزة وصفة مختلفة عن الوصفة التي تقدّمها الجامعة، وفي هذا المضمار يجب تحديد تكليف العلم. ولهذا السبب تجدنا نعاني من أزمة إدارية.

الركن الخامس: إن الحضارة تشتمل على ذات وهوية

إن للحضارة ذاتاً وحقيقة تتجلّى في الفن والحضارة والعلم والثقافة وما إلى ذلك. وإن للغرب ذاتاً أيضاً، وإن هذه الذات قابلة للتعميم، ويمكنها أن تغطي شرق العالم وغربه. فكما نعيش غربياً، إلا أننا نواجه أكثر طبقات الحضارة الغربية ظهوراً. وإن الغرب إنما يتجلى لنا بشكل جاد عندما تطرح مسألة الاستعمار نفسها وتبدأ بمهاجمة بلدنا، إلا أنه في عهد المشروطة دخلت إلينا المباحث النظرية الغربية، وقد تبلور مسار الحداثة في هذا الإطار. وإن عدم الالتفات إلى هذه الذات هو الذي جعل من الصعب علينا التفكيك بين الهوية الإسلامية والغربية، وسقطنا في هاوية الاغتراب السحيقة للأسف الشديد.

تنويه: إن الذات الغربية تتعلق بالإنسان الغربي، وهو الذي يمتلك عقلاً آلياً حديثاً، وإن الذي يفكر في عالم الدين، مهما كان سلوكه غربياً، لا يمكن له أن يصل إلى ذات الغرب. إن الذي يتمكن من بلوغ ذات الغرب ويتقبل الغرب هو الذي يمتلك عقلاً حداثوياً، أما عقل البلدان الإسلامية فهو عقل ديني، ولا يمكنه استيعاب الغرب.

خلاصة الجلسة الخامسة للضرورات النظرية للحضارة الإسلامية

كيف يتمّ إدغام المعرفة الدينية وما هي مستويات هذا الادغام، وما هي المستويات المعرفية التي نحتاج إليها ليتمّ بناء الحضارة؟ إلا أن بحثنا يخصّ الحضارة الإسلامية، وخارج تماماً عن مباحث الحضارة العامة.

المقدّمة: إن للحضارات في الحدّ الأدنى وجهين عامّين، ولها سلسلة من العناصر وسلسلة من الروابط، وإن للحضارة أعضاء ترتبط ببعضها من خلال منطق ارتباطي، ولذلك هناك لكل حضارة في الحدّ الأدنى مستويان من التحليل:

1 ـ مستوى العلاقات: ما هي العلاقات القائمة بين الأعضاء؟

2 ـ مستوى الماهية: ما هي هوية الأعضاء؟ ومن أين تنبثق؟

إن كلاً من العناصر والعلاقات الداخلية للحضارة يجب أن تنبثق من أسس معرفية خاصّة. إلا أن بنية العلاقات ذات روابط خارجية وروابط داخلية حوارية.

إن الروابط الداخلية الحوارية هي ذلك النظم المحدد والجذري الحاكم على كل المنظومة. فعلى سبيل المثال: إن النظام الرأسمالي يشتمل على نظم خاص بشأن النظام الاقتصادي لبلدٍ ما. إن هذا النظم نظم جذري يعمل على إدارة كافة المجتمع الرأسمالي. واليوم يدقق فقهنا في الموضوعات والمسائل دون الالتفات إلى هذا الشكل من العلاقات، وبذلك فإنه يلعب في أرضية لم يعمل على تعريفها.

فلو أن هذا النظم والعلاقات الداخلية الحوارية لم يتمّ إيجادها من ذات المباني والأسس المعرفية، فسوف يحصل تناقض بين الأعضاء والروابط، من قبيل بحث الاستهلاك واللذة في النظام الرأسمالي، والقناعة وعدم الاستهلاكية في الدين. حيث يعمل كل واحد منهما على تحديد أرضية وكيفية الحركة في هذا المسار.

بيد أن الحضارة لا تربطها علاقة بداخلها فقط، وإنما تمتد علاقتها إلى خارجها أيضاً، كما أنها تتواصل مع سائر الثقافات الأخرى أيضاً. إن منظومة كل حضارة تعمل في إطارها الداخلي بشكل منسجم سواء على مستوى العلاقات أو على مستوى العناصر، إلا أن الشيء الهام في النظم الخارجي هو أنه يكتسب صبغة سائر الثقافات الأخرى من خلال العلاقة معها.

النقطة الأساسية هي أن الأصالة فيما يتعلق بمقولة العناصر والعلاقات في الحضارة إنما تكون لمقولة العلاقات. فالذي لا يتمكن من السيطرة على العلاقات ويتولى عملية الإدارة، يكون قد مارس سلوكه الاجتماعي في أرض غيره، ويغدو أسيراً للعلاقات الثقافية الأجنبية. فعلى سبيل المثال: إن الرسالة العملية تحدّد المكلف والحلال والحرام، ولكن حيث لا يتمّ التدقيق في العلاقات، تبقى حبيسة مستوى العناصر، ولا تكون قادرة على التخطيط وبناء الأنظمة.

سؤال جاد:

ما هي آلية فهم الإنسان أساساً؟

إن هذا بحث تفصيلي في حقل العلم وفلسفة العلم والتاريخ الجديد، وقد بلغ ذروته منذ عام 1960 للميلاد فما بعد، وأدى إلى مجرّد مفاقمة النسبية. يدّعي التاريخ الجديد أن الذهن منذ افلاطون فما بعد يفكر فلسفياً. يعتقد الصوفيون أن تفكير الإنسان شهودي، وفي الغرب ارتفعت نسبة النزوع إلى الاتجاهات العرفانية في المراحل الأخيرة.

رؤية القرآن بشأن فهم الإنسان:

إن القرآن يعمل على تحليل الإنسان من مستوى يمكن تسميته بالفهم الإشاري. فإن القرآن يُسمّي الذين يلتفتون إلى الإشارات والآيات بـ (أولي الألباب) أو (أولي الأبصار)، بمعنى أصحاب العقول والأبصار، وفي المقابل يتمّ تعريف بعض الناس بالعناد والتمرّد على الحق.

نماذج من مفاهيم القرآن:

1 ـ سورة آل عمران، الآية: 190 ـ 191:

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ ِلأَولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً).

2 ـ سورة ق، الآية: 6 ـ 11:

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ …).

هذا هو أسلوب دعوة القرآن إلى التفكير، فهو يحثّ على النظر والتدبّر في الآيات، حيث يساعد ذلك على تعزيز البصيرة، والقرآن من خلال هذه الإشارات يستحضر التوحيد والمعاد.

3 ـ سورة الأنعام، الآية: 76 ـ 79:

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي …).

وهكذا نجد النبي إبراهيم (عليه السلام) يتحدث مع الناس بلغة الآيات، فيشير إلى القمر والنجم والشمس بوصفها من آيات الله، ثم تأفل ويصير إبراهيم إلى هداية الناس من خلال الإشارة فيقول: ( لئن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)، ليقول بعد ذلك: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ).

إن التعقل يمثل الخطوة والمرحلة الأولى في العلم الإشاري والدلالي. عندما يتمسّك الإنسان بالتعقل الإشاري دون الإنتزاعي والفلسفي الأفلاطوني، يصل إلى التفقه وإلى العلم العميق. فقد روي عن النبي الأكرم (ص) أنه قال ما معناه: (لولا الرسالة لقضيت الليل بالنظر إلى السماء).

إن المستوى الأول من مستويات العلم الديني في الحضارة الإسلامية يتمثل في معرفة الأسس، وفي هذا الإطار يجب التدقيق في ثلاثة عناصر في الحدّ الأدنى، وهي: معرفة الإنسان، وعلم المعرفة، ومعرفة الوجود. إن هذه المعرفة الإشارية تقوم على أساس التوجّه الفطري إلى الحقائق. والفلسفة تدعي تنظيم هذا المستوى، ولكن يبدو أن فهم الإنسان لا ينخفض إلى مستوى الفلسفة.

وحالياً قد تمّ في تاريخ الإسلام في الحدّ الأدنى عرض ثلاثة نماذج للفهم علينا. فعلى أساس أي واحد من هذه النماذج يجب علينا السير؟ هل نسير على وفق النموذج المنطقي الفلسفي، أم على وفق النموذج الصوفي، أم على وفق النموذج الفقهي؟ وعلى أساس أيّ منطق يجب علينا التفكير؟ وعلى أساس أيّ منطق لا بد لنا من توصيف الأمور؟ من خلال الالتفات إلى المقدمة الآنفة الذكر نجد أن منطق آلية فهمنا للآيات والروايات ليس انتزاعياً مفهومياً، بل هو فهم إشاري ودلالي، وهو ذات الفهم الذي يواجهه الفقهاء في التعاطي مع المجتمع.

لقد كان للفقهاء فيا يتعلق بالمجتمع تعاطياً دلالياً، وهو الأسلوب الذي قام به الأنبياء الإلهيين، وعمدوا من خلاله إلى تحريك المجتمع. إن المجتمع يعمل من خلال التوجّه القلبي والعالم الحضوري، دون النشاط الذهني والفلسفي. لقد واجه العرفاء والفقهاء هذا البُعد من الإنسان، ونجحوا في ذلك. وعلى طول التاريخ تمكنت هاتين الطائفتين من إثارة الحركات الاجتماعية.

وأما في حقل العلاقات الخارجية للحضارة، أي المستوى الذي يحتاج فيه الإنسان إلى الحوار مع سائر الثقافات، فيجب القول بأننا بحاجة إلى لغة عالمية. وهي لغة يجب أن تكون مترعرعة في عالم الدين من جهة، وتعمل على هداية الحصول وإدخاله في ساحة الحضور، ومن ناحية أخرى يجب أن تكون لغة جميع الناس في التفكير. وفي هذا الشأن يمكن للفلسفة أن تلعب دوراً مؤثراً. وفي الحقيقة فإن العالم الذي تكون فيه الفلسفة هي لغة التفكير يعمل العلماء المسلمون على إقامة فلسفة (فلسفة إسلامية)، وهم من جهة متمسّكون بلوازم التفكير الفلسفي، ومن جهة أخرى يدعون العلم الحصولي والنظري إلى الساحة الحضورية والإدراك الباطني. ومن هذه الناحية تصرّح فلسفة صدر المتألهين باستعدادها للحضور في حقول العلوم الإنسانية والحوار العالمي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] – القصص: 5.

[2] – الأنبياء: 105.

[3] – القصص: 83.

[4] – محمد: 7.

[5] – الأنفال: 53.

[6] – الأنعام: 12.

[7] – النساء: 64.

 

المصدر: http://alhiwaraldini.com/home/%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%AA...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك