من المغاربة المسلمين إلى الموريسكيين : مصير مسلمي إسبانيا في العصر الوسيط

د. فريدريش إيدلماير

ترجمة: مؤنس مفتاح

 

قبل قرن ونصف من اعتلاء الملوك الكاثوليك العرش، أشعل اليهود في الطبقة العليا والحرفيين النشطين والمزارعين المغاربة الذين كانوا في خدمة نبلاء الإسبان فتيل الكراهية ضد السكان المسيحيين، شكل الافتخار بالجذور وبنقاء الدم بالنسبة للإسبان تعويضاً في معركة (الاسترداد) عن التفوق العسكري الواضح للمسلمين، ومع ذلك فقد كانت الكنيسة تخشى مما كان يسمى (الإيمان الحقيقي)، حيث كانت تخشى على السكان المسيحيين من الكفر، وتهديد (التأثير الفكري والثقافي) للمسلمين المغاربة اليهود، وقد نتج عن ذلك ضغط شعبي عارم وظهور حملات تحول كبرى، فضلاً عن انتفاضات مختلفة، وصلت إلى نهايتها مع مذابح سنة 1391م.

وقد أدت التدابير الموالية المتخذة من قبل الملوك المسيحيين لاستعادة النظام، وحماية أتباع الديانات المختلفة، وتقسيم صارم للجماعات الدينية، ذلك أن المسلمين الذين دخلوا في الدين المسيحي بشكل قسري كان يُنظر إليهم على أنهم مسيحيون جدد، ويشتبه بهم من قبل المسيحيين القدامى، ووفقاً لهذا التقليد، أولى الملوك الكاثوليك، مسألة احتمال التعايش بين الأديان والأعراف والأعراق اهتماماً خاصاً جداً، حيث قامت إسبانيا في القرن الثالث عشر بمنح نقطة التعايش الإيجابية هذه سلاسة، فدخلت المجتمع الإسباني رغبة في الوحدة وساده جنون ديني بالتفرد، حتى أضحى هذا الأمر علامة مميزة له. ومن ثم شاعت الفكرة التبشيرية المسيحية في عهد (فرديناند) و(إيزابيلا)، وأضحت واجباً على الدولة كلها، ومحركاً رئيساً للوحدة السياسية لهذا البلد الذي لم يكن مكوناً من ولايات متحدة، ومنذئذ تشكل إيمان كاثوليكي متين بإسبانيا.

تم التغاضي بسبب هذا الإيمان عن أقليات أخرى كانت حتى ذلك الحين تتمتع جزئياً بحماية خاصة من التعصب الديني من قبل السلطات التي كانت ترفض انتماءهم للمجتمع السياسي.

عندما رخص (فرانشيسكو ديلا روفيري) للبابا (سيكستوس الرابع) سنة 1478 بإنشاء (محاكم التفتيش) الرومانية، رُبط هذا الترخيص مع محاكم التفتيش الإسبانية، لكي يتم القضاء على السيطرة الإسلامية في (غرناطة)، فقام الملوك الكاثوليك بعد ذلك بتنفيذ هذا الشرط سنة 1492، وأصدروا في 31 مارس من السنة نفسها مرسوماً أمروا فيه اليهود إما باعتناق المسيحية أو مغادرة الأراضي الخاضعة لحكمهم في غضون 4 أشهر، وأما بالنسبة لعدد (السفارديين) الذين عُمدوا أو طُردوا في تلك السنة فلا يمكن الحصول على معلومات دقيقة حول عددهم. ومع ذلك فإنه من المعروف أن الإمبراطورية العثمانية (وخصوصاً سالونيك) والبرتغال وإيطاليا وشمال أفريقيا وهولندا (وبخاصة أمستردام)؛ اعتُبرت الأماكن الرئيسة للجوء (السفارديين)، وأما بالنسبة للمسلمين الذين ظلوا في غرناطة بعد الاستيلاء عليها والذين عرفوا بـ(المدجنين)، فقد شرع (فرديناند) و(إيزابيلا) بالتعامل معهم في البداية وفق خط سياسي سلس نسبياً، محترمين شروط معاهدة 1491، إلا أن المرحلة التي أعقبت ذلك التاريخ عرفت نهاية مفاجئة، حيث دفع حث رئيس أساقفة (طليطلة) الكاردينال (فرانسيسكو خيمينيث دي ثيسنيروس) الكاثوليك على اتخاذ إجراءات صارمة لتعميد (المدجنين)، فقاد سنة 1499 حملة لا هوادة فيها بهدف تحويل مسلمي (غرناطة) إلى المسيحية مما تسبب في ثورة السكان المسلمين على هذا القرار، وقد قام الملك (فرديناند) شخصياً بقيادة هذه الحملة وأمر سنة 1502 كل الذين لم يتنازلوا عن دينهم بمغادرة البلاد، الأمر الذي دفع المورسكيين إلى القيام بثورات (مورسكية) أخرى، لعل أهمها تلك التي حدثت ما بين سنة 1568 و1570 والتي سميت (حرب غرناطة) والتي انهزم فيها الثوار. وفي إطار العقوبات التي فرضها (فيليب الثاني) بعد انتهاء هذه الصراعات، تم طرد جميع (الموريسكيين) من (غرناطة)، فاضطروا إما للتوزع على كامل تراب شبه الجزيرة الإيبيرية أو الهجرة إلى شمال أفريقيا.

أفرز هذا التحول ازدياد عدد (الموريسكيين) بأجزاء متفرقة من الأراضي الإسبانية، خصوصاً في مملكة (بلنسية)، كما أثار ارتفاع عدد (الموريسكيين) مخاوف متزايدة لدى كثير من السكان المسيحيين، إذ كان يُشار إليهم عادة باسم المسيحيين (المزيفين)، حيث كانوا لا يزالون يُمارسون تعاليم الدين الإسلامي سراً، وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يُشتبه فيهم بأنهم كانوا يقومون بالتعاون مع (العدو الأول) لأوروبا وهي (الإمبراطورية العثمانية)، وهكذا أخذت فكرة ترحيل جميع (الموريسكيين) من الممالك الإسبانية، تزداد بشكل مضطرد وتجد لها صدى أكبر في الدوائر الإسبانية.

أما ما تبع ذلك من أحداث مأساوية فقد كان راجعاً بالأساس إلى عوامل سياسية ودينية واضحة تمثلت في الطرد النهائي لمجموعة من السكان قضوا أكثر من 800 سنة في شبه الجزيرة الإيبيرية مما أثر سلباً على مختلف جوانب الحياة بشكل دائم حاسم وملحوظ.

ويمكن التوصل لهذا الطرح لما تركه (المورسكيون) في أجزاء كثيرة من إسبانيا من أثر عميق والذي مازال فهمه ودراسته قائماً إلى وقتنا الحاضر، وسوف نحاول من خلال هذا العمل تسليط الضوء على معاناة المسلمين وكذا تتبع الدوافع والأسباب السياسية والدينية الكامنة وراء قرارات الملوك الكاثوليك وشرح آثارها.

ملحوظة مهمة: متى ذكر في هذا العمل مصطلح (إسبانيا) فإنني أقصد به (شبه الجزيرة الإيبيرية)، بما في ذلك مملكة (البرتغال) ابتداء من سنة 1580، وقد فعلت ذلك لأسباب أسلوبية بحتة وذلك بهدف تجنب تكرار الكلمات.

معركة الاسترداد وأهميتها بالنسبة للمجتمع الإسباني في العصور الوسطى

شكلت حقيقة عدم قدرة المسلمين أبداً في السيطرة على (شبه الجزيرة الإيبيرية) بأكملها دافعاً إلى إحساسهم بقلق مستمر، ويعود السبب إلى شعورهم بكون المسيحيين غير الخاضعين لهم، يُمكن أن يحاولوا استعادة المناطق الضائعة منهم، وقد أظهر التاريخ أن هذه المخاوف كانت مسوغة تماماً، ففي وقت مبكر من سنة 1040، عندما أضحت الخلافة في (قرطبة) مقسمة بالفعل إلى ممالك صغيرة وإمارات مختلفة سُميت (ملوك الطوائف)، صار ثلث شبه الجزيرة مرة أخرى تحت سيطرة مسيحية.

لقد أضحى لزاماً على المجتمع في تلك المناطق المسترجعة أن يكون مستعداً عسكرياً بشكل دائم، وأن تسود فيه مسيحية كاثوليكية متشددة، كما اضطر المجتمع بسبب هذين العاملين إلى التفاعل بقوة ويقظة مع قوة الإسلام العسكرية ومع التأثير الثقافي لليهودية، وقد كان للمدن الإسلامية المتاخمة للحدود الإسبانية حقوق سميت (الحقوق المدينة)، كما كانت هذه المدن في البداية محدودة ومنظمة بشكل هرمي، ولأن أجزاء كبيرة من شمال إسبانيا في هذه الحقبة كانت قليلة الساكنة، فقد استخدمت هذه المدن لأغراض زراعية كما استغلت في المقام الأول باعتبارها مناطق مرور جيوش المسلمين والمسيحيين سواء بسواء. وفي ظل هذه الظروف نشأت في هذه المناطق الحدودية مجموعة سكانية جديدة تماماً، سميت (الرجال الأشرار)، وهم نوع من الفرسان القرويين الموجودين في المدن الحدودية، وقد قاموا بزراعة الأرض والعمل بالتجارة أيضاً، ولم يكن سكان هذه المدن الحدودية والمناطق المحيطة بها ينتمون للديانة المسيحية. ومن ثم وجب على التاريخ الإسباني الناشئ آنذاك إيجاد مكان (لإيديولوجية الاسترداد)، وكذا مكان للمسلمين ولليهود.

اشتعلت الحرب المسيحية ضد الإسلام في إسبانيا في النصف الثاني من القرن الحادي عشر، وظهر في (بلنسية) (السيد) المعروف بـ(رودريغو دياث) El Cid campeador حيث أضحى الرمز السائد للحركة الصليبية الغربية عامة، وذلك في أواخر سنة 1099.

مما دفع المسيحيين جميعاً إلى القيام بحملات صليبية متكررة بمباركة البابوية والقوات المحلية والأجنبية ضد من وصفوا بـ(الكفار) أي (المسلمين)، وقد قدمت الكنيسة للجنود المسيحيين آنذاك صكوكاً للغفران كدواء للروح، كما حل بإسبانيا في تلك المرحلة العديد من الرهبان الفرنسيين وبالضبط من (كلوني) حيث عملوا بشكل وثيق مع الحكام المسيحيين، كما شارك هؤلاء الرهبان في تطوير طريق الحج إلى (سانتياغو دي كومبوستيلا) (طريق يعقوب)، مما جعل الثقة بالكنيسة الإسبانية شمالاً من جبال (البرانس) تكبر وذلك من خلال إبرازهم للسكان فضل التعديلات الجديدة التي أدخلوها.

استعاد (ألفونسو السادس) ملك (قشتالة وليون) (طليطلة) سنة 1085 -العاصمة السابقة لمملكة (القوط الغربي)- من أيدي المسلمين، والتي صارت في أعقاب ذلك مركزاً للمبادلات الاجتماعية والثقافية بين المسيحيين واليهود والمسلمين، وبعد استرداد النصارى الناجح للعاصمة السابقة للمسلمين، اندلعت ثورات ضد الحكام المسيحيين مرتين متتاليتين تكللتا بالنجاح الباهر وذلك بفضل مساعدة بعض السلالات البربرية الوافدة من شمال أفريقيا ونعني بذلك (المرابطين) (1090 - 1146) و(الموحدين) (1157 - 1212)، فتمكن المسلمون من استعادة المناطق المسلوبة منهم لبعض الوقت واعتلاء الصدارة في (شبه الجزيرة الإيبيرية).

وبعد قيام الجانب المسيحي بجهود حثيثة لحل نزاعاته، حصل تحالف بين (قشتالة)- (ليون) و(أراغون)– (قطالونيا)، تحت قيادة ملكيها (ألفونسو الثامن) و(بيتر الثاني)، اللذين تمكنا من إلحاق هزيمة نكراء بـ(الموحدين) في (معركة العقاب) وذلك في 16 يوليو من سنة 1212، وقد قرر انتصار المسيحية مصير الأندلسيين وإن لم تكن نتائجه واضحة المعالم في حينها، ومن المعروف أن تردد الخليفة وتنافس القبائل على الحكم شكلت الأسباب المباشرة لهزيمة المعسكر الإسلامي.

زحفت الممالك المسيحية الثلاثة السابقة خلال القرن 13 جنوباً من: (البرتغال) إلى (غرب الأندلس) (فتمت السيطرة على (قرطبة) سنة 1236 و(إشبيلية) سنة 1248 من قبل (فرديناند الثالث)) فتوغلت جحافل (أراغون) (قطالونيا) داخل مملكة المسلمين في (بلنسية) حيث تمت السيطرة عليها من قبل (جيمس الأول) الذي لقب بـ(الفاتح) سنة 1238م) وجزر (الباليار) (التي تم غزوها ما بين سنتي1229 و1235)، مما دفع بوجهاء المسلمين على وجه الخصوص إلى الفرار نحو المغرب العربي والاستقرار به.

اختارت فئة كبيرة من السكان المسلمين البقاء في الأندلس، فسموا بـ(المدجنين) ومن المعروف أن هؤلاء لم يعد لهم ملجأ يفرون إليه سوى (غرناطة) -المملكة المسلمة الوحيدة المتبقية في شبه الجزيرة الإيبيرية– التي وجدوا لهم فيها هناك دعماً كبيراً ثقافياً ودينياً، وقد شاع لدى دوائر بعض المؤرخين خلال الحقبة الممتدة ما بين 1000 و1350 والتي سميت (العصر الذهبي)، وجود تعايش مشترك ما بين المسيحيين والمسلمين واليهود تحت الحكم المسيحي، حيث كان التسامح والابتعاد عن العنف والاضطهاد الشعار السائد رغم الاختلافات الدينية، وقد أظهرت أحكام القانون الإسباني من القرن 11 إلى القرن 13 بأن مثل هذا التسامح كان محدوداً، إن لم نقل بأنه لم يكن موجوداً أصلاً.

وبغض النظر عما ذكر، فإن الحقبة الممتدة ما بين 1280 و1410 يُشار إليها عادة بأنها حقبة الأزمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في أوروبا الغربية، فبينما كانت (قشتالة) تسعى إلى تأمين مكاسبها الإقليمية التي حققتها في السنوات الممتدة ما بين 1212 و1250، شيدت (أراغون) في نفس المرحلة إمبراطورية تجارية بحرية انطلاقاً من غرب البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى (جزر البليار) و(سردينيا) و(صقلية)، ولهذا برزت صراعات سياسية واجتماعية بين المملكتين، وبالتالي توقفت حروب (الاسترداد) التي تسعى لاستعادة الأراضي الإسلامية إلى حين، ولم تعد هذه الحروب بوتيرتها المعهودة إلا بعد زواج (فرديناند الثاني) ملك (أراغون) من (إيزابيلا الأولى) ملكة (قشتالة) سنة 1479 وقد دفع الاتحاد بين المملكتين إلى مواصلة الحروب ضد المسلمين، إذ تم في بداية سنة 1486 إطلاق حملة شرسة من جانب (فرديناند) و(إيزابيلا) كان هدفها العزل التام (لغرناطة) وفتحها، وقد تمكنت القوات المسيحية بفضل التفوق العسكري تحت قيادة (القائد الكبير) (غونزالو فرنانديز دي كوردوبا) من إخضاع عدة بلدات وحصون إسلامية بسرعة فائقة مثل: (سالار) و(إليرة) و(مونتي فري) و(منت فريد) وغيرها، وبذلك تم تخريب ونهب مقاطعة (سهل غرناطة) بأكملها، ثم وجه (فرديناند) في وقت لاحق قواته نحو مدينة (مالقة) فتمكن من إخضاعها مما دفع بسكانها إلى الفرار نحو شمال أفريقيا.

ومما زاد الطين بلة أن اندلعت في (غرناطة) اشتباكات دامية بين أنصار الأمير (محمد الثاني عشر الغرناطي) وهو الذي سماه المسيحيون (أبو عبد الله) boabdil وعمه (الزغل) اللذين كانا يتصارعان على العرش، وقد تمكن الأمير الشاب من حسم المعركة في النهاية لصالحه، وفي العام التالي قام (فرديناند) بالتوغل بحوالي مئة كيلومتر غرب (غرناطة) وتحديداً مقاطعة (بياسة) والتي استسلمت بعد عدة شهور من الحصار والتجويع.

كما أن المدن الأخرى في المنطقة ذاتها بدأت تستسلم تباعاً واحدة تلو الأخرى كـ(المنكب) و(برشانة) (شلوبينية) و(قادس). وقد عقد أمير الدولة النصرية الشاب في نفس الحقبة اتفاقية مع الملوك المسيحيين تعهد لهم فيها بتسليم غرناطة في حال هزيمة (الزغل). ومع التوسع المسيحي السريع، فر (الزغل) مع عدة مئات من الرجال إلى شمال أفريقيا وأسس هناك إمارة صغيرة في مدينة وهران بالجزائر إثر ذلك.

طالب (فرديناند) و(إيزابيلا) باستلام مدينة (غرناطة) كما اتُفق عليه، فتردد (محمد الثاني عشر) في الوفاء بوعده خوفاً من ردة فعل السكان، ومن ثم بدأ الملوك الكاثوليك في ربيع سنة 1490 بحصار (غرناطة) وظلوا يتبادلون مع المسلمين الهجمات والهجمات المضادة طوال السنة.

تكبد السكان المسلمون الحضريون خسائر فادحة فأضحى من الصعب الحصول على الحبوب أو الماشية، وصار الطعام أكثر شحاً. ونتيجة لذلك –عقد (أبو عبد الله) Boabdil وفقاً لمصادر عربية- نهاية أغسطس من سنة 1491 مفاوضات سرية مع الملوك المسيحيين وتوصل معهم إلى عقد اتفاقية مكونة من 25 شرطاً، وفي وقت لاحق، أي بعد ثلاثة أشهر من التاريخ المذكور وبالضبط في 25 نوفمبر من سنة 1491 أعلن الملوك الكاثوليك نقل إمارة مملكة (غرناطة) إليهم.

وقد حثت الشروط الخمسة والعشرون المُكونة لهذه الاتفاقية في المقام الأول على ضرورة الحفاظ على أمن المسلمين وحرية ممارسة شعائرهم الدينية، وحرية العيش وفق عاداتهم في الملبس وغيره، إذ كان من المفترض أن يتم احترام ممتلكات المسلمين من قبل الجانب المسيحي وعدم إثقال كاهلهم بالضرائب، كما أن التقاضي في حالة نشوب صراع بين المسيحيين والمسلمين كان من المفروض أن يتم البت فيه من قبل محاكم مختلطة، وأن يتم في نفس الإطار إطلاق سراح كل المسلمين الذين وقعوا في الأسر، وأن يُمنح لهم الحق في مغادرة شبه الجزيرة الإيبيرية.

غادر (أبو عبد الله) برفقة خمسين فارساً المدينة في 2 يناير من سنة 1492 وسلم مفاتيحها للملك (فيردناند) وخاتمها لمحافظها وعمدتها المستقبلي (تندلو)، ورغم أن (أبا عبد الله) حصل في بداية الأمر على ممتلكات في جبال (البُشرات)– فإنه اتجه في وقت لاحقاً إلى شمال أفريقيا، حيث تُوفي في مدينة (فاس) سنة 1533، وهكذا انتهت مملكة (غرناطة) الرائعة التي ظلت متماسكة لأكثر من مئتي سنة، وقد أخضع الضغط المستمر من الممالك المسيحية مسلمي شمال أفريقيا أيضاً، إذ كانوا أمام اختيارين إما فرض الحماية عليهم أو الاستيلاء على أراضيهم، ومن المعروف أن الأمراء المسيحيين ووزراءهم نجحوا في الحفاظ على تحقيق التوازن بين هاتين الإستراتيجيتين فظلت إمارة (غرناطة) الإمارة الناجية الوحيدة لمدة قرنين مما تركها وحيدة ومعزولة عن أكبر ممالك المسلمين في الشرق.

لقد كان مسلمو (غرناطة) الذين لم يغادروا مع (أبي عبد الله) إلى المغرب، آخر الخاضعين للحكام المسيحييين، وبذلك تمكن (فرديناند) و(إيزابيلا) من تحقيق هدفهما وأنهيا عدة قرون من الكر والفر بينهم وبين المسلمين.

ولا جرم أن الصبر والتأني كانا من الأمور التي منحت لحروب الاسترداد معناها، حيث إن طرد المسيحيين من إسبانيا كان من شأنه أن يغير منحى سير التاريخ في اتجاه آخر غير أن عدة قرون من الحملات الصليبية لعبت دوراً محورياً في طريقة تشكيل البلاد وتغيير تقاليدها وروحها.

لم يكن زعماء إسبانيا المُجزأة والمتفرقة يصبون دائماً للوصول إلى نفس الأهداف نظراً للأحداث التاريخية المفككة والمتلاحقة، كما كان ضغط الحاجة إلى الضروريات في بلد فقير عدد سكانه يتزايد باستمرار دافعاً للقيام بـ(حروب الاسترداد)، مما جعل هذه الأخيرة تصبح حركة استعمار مستمرة، أضفى عليها المسيحيون طابعاً من القداسة، وذلك لأن تأسيس المجتمع الإسباني في القرون الوسطى بُني على الحاجة للتوسع وقوة الإيمان تحديداً.

المصدر: http://www.arabicmagazine.com/Arabic/ArticleDetails.aspx?Id=4081

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك